بدأت النجف تأريخها كمدينة مقدسة منذ أن كشف لأول مرة عن قبر الأمام علي (عليه السلام) عام (170هـ ـ 768م) الذي كان قد بقي غير معروف سوى لأقرب أصحابه. وأما تاريخها كمدينة علمية وكجامعة للدراسات الإسلامية في مجالات الفقه وأصول الفقه والفلسفة الإسلامية وتفسير القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وما يتصل بذلك من قضايا العقيدة الإسلامية وشؤون الفكر الإسلامي، فذلك يعود الى التاريخ الذي هاجر إليها من بغداد الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي عام 448هـ - 1056م.
وهناك من يذهب الى أن الشيخ الطوسي لم يوجد العلم في النجف بعد أن كان معدوماً فيها, وإن كل ما أتى به لا يقتضي أكثر من أن يسجل له التاريخ إنه صاحب عهد جديد ودور خاص إزدهر العلم في عصيره ، كما كان في عصر عضد الدولة على حد سواء في كثرة الطلاب وقوة العلم. ولتأييد وجهة نظره ينقل صاحب هذا الراي ما ورد في الجزء الثامن من ص334 من الكامل لابن الأثير من أنَ دراسة العلم في النجف بدأت منذ القرن الثالث الهجري وبلغت أوج عظمتها في عهد عضد الدولة، أحد الملوك البويهيين حيث أطلق الصلات لرجال العلم والدين المقيمين في الغري وغيرهم من ذوي الفاقة إنَما تركزت هذه الدراسات بعد هجرة الشيخ الطوسي. والى من يذهب الى أبعد من ذلك حيث يرى في مدرسة النجف امتداداً لمعهد الكوفة العلمي الذي شيد أركانه الامام علي (عليه السلام) وبلغ أوجه في عهد الامام الصادق (عليه السلام) فلقد إعتبرت مدرسته من أبرز المدارس العلمية في الكوفة، وكان رواة الامام ابي عبد الله الصادق (عليه السلام) أربعة آلآف أو يزيدون. وكان في طليعة أولئك الذين أخذوا عن الامام الصادق العِلمَ أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس وسفيان الثوري وغيرهم. وكيف كان الأمر، فأن الشيخ الطوسي قد فتح باب التدريس على طريقة الأجتهاد المتبعة اليوم في النجف الأشرف وهو أول من جمع من علماء النجف بين الحديث والفقه والأصول في مؤلفاته وأول من أوجد هيئة علمية ذات حلقات ونظم خاصة تخالف ما كان عليه حال النجف قبله.
وكان لشخصية الشيخ الطوسي قوة صهرت تلامذته في واقعهم وأنستهم أو كادت تنسي شخصياتهم العلمية، فما كان أحد منهم ليجرؤ على التفكير في صحة رأي لاستاذه الطوسي أو مناقشته. حتى قيل أنَ ما خلفه الشيخ الطوسي من كتب الفقه والحديث كاد أن يستأثر في عقول الناس فيسد عليها منافذ التفكير ما يقارب القرن إذ مضت على علماء الامامية سنوات متطاولة وأجيال متعاقبة ولم يكن من الهيّن على أحدٍ منهم أن يعدوا نظريات شيخ الطائفة في الفتاوى وكانوا يعدون أحاديثه أصلاً مسلماً ويكتفون بها وإستمرت الحال على ذلك حتى وصل الشيخ ابن أدريس فكان يسميهم بالمقلدة وهو أوّل من خالف بعض آراء الشيخ وفتاواه وفتح باب الرد على نظرياتهم بالأسلوب العلمي وبالأدب الرفيع العالي حتى أنَ تعابيره لا تخلو من التعظيم عند ذكره، فلا نجد إسم الشيخ في كتاب إبن إدريس المشهور بالسرائر الا ونجد الى جنبه التعظيم والتبجيل إما بقول: هذا رأي شيخنا الطوسي (رحمه الله), أو بقول: هذا ما ذهب اليه الشيخ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله), الى غيرها من التعابير المهذبة والمؤدبة.
وحيث إن المورد العذب كثير الزحام؛ فقد أخذت تؤم النجف- منذ أن حط الشيخ الطوسي رحله فيها- أفواج كثيرة من طالبي العلم ورواد المعرفة يتزودون فيها ما يغني عقولهم وشُبعها، تفقهاً في أحكام الله ليعودوا من حيث أتوا لينشروا هذه الأحكام ويؤدوا واجبهم الشرعي في الدعوة الى الله وليكونوا مصداقاً لقوله تعالى: ((ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون)). وهذه الطريقة من الهجرة الى مراكز التفقه كالنجف الأشرف وقم والقاهرة من بعض من يسكنون بعيداًَ عنها ثم العودة الى بلادهم ليعلموا إخوانهم أحكام الدين بنفس الطريقة التي دأب عليها أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) وبقت النجف على هذا الحال والمنوال بهذا المركز تمارس من خلاله الدور القيادي والتوجيهي للأمة بأستثناء فترات زمنية قصيرة إنتقل فيها مركز الفتيا والمرجعية والتدريس الى مدن عراقية أخرى كالحلة وكربلاء وسامراء لظروف إقتصادية وسياسية وغيرها الى إن عاد الأستقرار اليها.
والنجف- بعد كل ذلك- تعتبر إحدى المعاهد الشامخة للدراسات الإسلامية شأنها في ذلك شأن الأزهر في مصر والقيروان في مدينة فاس بالمغرب والزيتونة في تونس إن لم تكن هي أفضل الكل على الاطلاق. وتعتبر فلسفة ابن سينا وتعاليمه من المواد التي إنفردت النجف في تدريسها حيث بقت سائدة فيها أكثر مما بقت في المدارس الإسلامية الاخرى.
منهجية التدريس في الحوزة:
طريقة التدريس في الحوزة لا تعرف على حقيقتها الا إذا عرفت ما هي رسالة الحوزة؟ أن الحوزة تحمل في عنقها أمانة سماوية. وإن الله عزَّ وجّل قد أقامها حارساً ومناصراً ومدافعاً عن هذه الأمانة وهي الدين وشريعة سيد المرسلين، فمن دخل الحوزة العلمية يجب أن يدخلها بهذا القصد وبهذه النية ومن تخرج منها يجب أن يعمل ويتجه الى هذا القصد- وليعلم ليس هذا الكلام مختصاً بمدرسة دون أخرى بل هو عامٌ شاملٌ الحوزة العلمية بكل مؤسساتها والاّ كان تاجراً لا عالماً ومنافقاً لا مؤمناً ومن هنا كان التدريس في النجف الأشرف بالمجان فلا الأستاذ يقبض أجراً ولا التلميذُ يتكلف شيئاً تنزيها للدين عن الكسب والأتجار وعن أية وسيلة تجر منفعة دنيوية.
ولعل سؤالاً يقفزالى ذهن القارئ وهو: كيف يؤمَن المدرس في النجف مورد معيشته اذا كان الأمر كذلك؟
وهو سؤال مشروع وفي محله.
والجواب عنه: إن مورد المدرس في الحوزة العلمية بصورة عامة يعتمد على ما تصله من مراجع وعلماء الدين هناك- والتي تتجمع لديهم من الحقوق الشرعية- لا بعنوان الأجر على التدريس وإنما بعنوان آخر وهو بأعتباره مستحقاً يتكفله بيت مال المسلمين وكذا الحال في الطالب.
ولعل من عاش قريباً من جو الحوزة العلمية يدرك أن العديد من طلبة وأساتذة المدارس الدينية في النجف الأشرف وقم المقدسة في الماضي والحاضر كانوا وما زالوا مثالاً للزهد والقناعة والمنعة بصورة من الصعب بمكان أن تجد لهم مثيلاً في كافة انحاء المعمورة، فنجد كثير من المقربين لهؤلاء- سواءً كانوا من ذويهم أو ممن يشاركهم الدرس والتدريس- لا يعرفون شيئاً عن فقرهم وحاجتهم، حتى لكأنهم هم المعنيون بقوله تعالى: ((يحسبهم الجاهلًُ أغنياء من التعفف)).
طريقة التدريس:
إن الكيفية المتبعة في التدريس في الحوزة العلمية بصورة عامة آنذاك هي واحدة في جميع مراكز الشيعة- وإن اختلفت بعض الشيء في زماننا الحالي- وليس هي على شاكلة الظرف المتبعة في الأنظمة التربوية التي نألفها هذه الأيام. فهي دراسة لا تعتمد على أساس نظام الصفوف وهي فردية تتم على شكل حلقات تمارس اليوم كما بدأت منذ عهد الشيخ الطوسي وليس هناك نظام للأمتحانات أو لمنح الشهادات كما هو متعارف عليه اليوم في الكثير من المدارس الحديثة وإنما يترك للطالب إختيار الكتاب الذي يريد دراسته، والأستاذ الذي يتلقى من علومه، وحتى مكان الدرس وزمانه فأنه يتم الأتفاق عليه بين التلميذ والأستاذ.
ولقد شهدت الحوزة العلمية خلال العقود الأربعة الماضية دعواتٍ لتطوير هذه الطرائق في التدريس فيما وجدنا في المقابل إصراراً على ضرورة إبقاء الأسلوب في الدراسة كما هو. وبين هذا الاتجاه وذاك وفق فريق يدعو للجمع بين الأسلوبين.
فالقائلون بضرورة الأبقاء على أسلوب وكتب ومناهج الدراسة في الحوزة كانوا يرون في طابع الحرية الذي يسود في أنظمتها سواء في أختيار الطالب لأستاذه، أم الكتاب الذي يدرسه مما ينمي ملكته ويقوي من شخصيته العلمية، وكانوا يعزون الى هذا النظام ما عرف به طالبها من حرية فكرية في ميادين المناقشة والجدال، مع قدرة على التحرر من جميع مسابقاتهم الفكرية إذاً إتضح من خلال المناقشة مجافاتها للحق الذي يهدفون اليه، وكانت أقوى حججهم على سلامة هذا الأسلوب الدراسي هو أن عطاء هذا النوع من الدراسة في الحوزة العلمية لا يعدله عطاء في أي مركز آخر أو مؤسسة أخرى بل في أي جامعة، ويكفي ما يكون من عطاء أن تخرج عنها مئات المجتهدين من أمثال الشيخ الأنصاري والأمام الشيرازي الكبير وغيرهم ممن وصلوا بعمق تجاربهم وصلابة إيمانهم الى أرفع المراكز القيادية في الأمة الإسلامية.
أما الآخرون فكانوا يرون في هذا النوع من الدراسة شيئاً من إنعدام المسؤلية وكثرة الأدعاء وتطويل المسافات على الطلاب وربما قصّر في الكثير منهم شوطه على الأستمرار في مواصلة الدراسة للتعقيد السائد في بعض كتبها بالأضافة الى ما يرون من ضرورة تطعيم معارفها بما جدَّ من ثقافات ومعارف قد يكون لبعضها أكبر العلائق برسالة العالم الديني في هذا العصر.