السؤال الرابع: عرض الإمام الحسين على معسكر ابن سعد الرجوع بعد أنْ أوضح لهم منشأ قدومه عليهم، وأنّه إنّما جاء لهم استجابة لدعواتهم وأنّهم سيؤازرونه فيما عزم عليه مِن مواجهة ليزيد بن معاوية. والسؤال هو أنّه لماذا ظلّ خيار الرجوع مطروحًا؟
الجواب: الجواب عن هذا الاستفهام يتّضح مِن خلال هذا البيان، وهو أنَّ الإمام الحسين عليه السلام اتّخذ لنفسه خيارات ثلاثة مترتّبة وليست عرضيّة.
الخيار الأوّل: الاستعانة بأهل الكوفة لأجل مقارعة النظام الأموي، وتبنّي هذا الخيار كان نتيجة الاستعداد الذي أبداه أهل الكوفة للإمام الحسين عليه السلام وأنّهم سيؤازرونه ويقفون معه، وهذا لا يعني أنَّ اتّخاذ خيار الخروج على بني أميّة كان نتيجة الاستعداد للمؤازرة الذي أبداه أهل الكوفة. فالحسين كان قد أعلن الخروج والرفض للبيعة قبل أنْ تصله كتب الكوفة حيث لم تصله كتبهم إلاّ في مكّة المكرّمة، والحال أنّه أعلن الخروج والرفض والبيعة وهو في المدينة المنوَّرة كما تؤكّد ذلك النصوص التاريخيّة الكثيرة، نعم اتّخاذ الخروج إلى العراق دون غيرها كان بسبب ما وصله من كتب أهل الكوفة ورسلهم وأنّهم جند له مجنّدة، وأنّهم لن يسلّموه ولن يخذلوه، وأنّهم ضاقوا ذرعًا مِن حكم بني أميّة، وأنّهم عقدوا العزم على عدم مبايعة يزيد بن معاوية. ورغم كلّ هذه التطمينات إلاّ أنّه لم يتّخذ خيار المسير إليهم إلاّ بعد أنْ بعث إليهم مسلم بن عقيل ليتعرّف على واقع حالهم، وبعد أن وصل كتاب مسلم بن عقيل يؤكّد صدق نواياهم قرّر الحسين عليه السلامالخروج إليهم ليقود حركته الإصلاحيّة مِن هناك.
وهذا لا يعني أنّ الحسين عليه السلاملم يخطّط لخيار آخر لو تبيّن أنَّ الخيار الأوّل ليس متاحًا فإنَّ ذلك هو شأن العقلاء في معالجة القضايا فهم يضعون لكلّ ظرف محتمل خيارًا مناسبًا بنظرهم حتّى لا تفاجئهم الظروف بما لم يتوقّعوه فتلتبس عليه الحلول. وهذا هو الطريق الذي سلكه الحسين عليه السلامحينما جعل لنفسه خيارات مترتّبة.
الخيار الثاني: هو الرجوع مِن حيث جاء أو إلى أيّ بقعة مِن بقاع الأرض، وهذا الخيار كان عقلائيًّا جدًّا بعد أنْ لم يكن الخيار الأوّل متاحًا نظرًا لما تمخّضت عنه الظروف والتي أوضحت للتاريخ أنَّ أهل الكوفة ليسوا مؤهّلين لاحتضان ثورته، وحينئذٍ لم يكن مِن خيار مناسب سوى الرجوع، ذلك لأنَّ خيار البيعة ليزيد كان خطًَّا أحمرًا بالنسبة للحسين الشهيد. وكان النظام الأموي يُدرك أنَّ خيار الرجوع دون بيعة معناه أنّ الخطر مِن وجود الحسين يظلّ ماثلاً، وأنَّ مِن المحتمل قويًّا أنْ يتمكَّن الحسين مِن تعبئة أنصار له قادرين على تقويض ملكهم أو زعزعة أمنهم واستقرارهم، وهذا ما كان يرومه الحسين عليه السلامحينما عرض على النظام الأموي خيار الرجوع دون بيعة.
الخيار الثالث: هو الاستشهاد والتضحية، فقد كان واضحًا مِن كلمات الإمام الحسين عليه السلامأنّه كان على استعداد تامّ لاتّخاذ هذا الخيار إذا لم تتأهّل الأمّة للوقوف معه في حركته الإصلاحيّة، وكان الحسين عليه السلاميدرك أنّ هذا الخيار هو الذي ستقتضيه الظروف إلاّ أنّه كان مضطرًا لمواكبة الظروف، إذ أنّ ذلك هو السبيل لاستيعاب الأمّة والتاريخ دوافع هذا الخيار، فليس مِن الممكن أنْ يتفهّم التاريخ مغزى الاستشهاد لو كان الخيار الأوّل متاحًا، لذلك كان على الحسين عليه السلامأنْ يكشف للتاريخ سقوط الخيار الأوّل، وهكذا لو كان الخيار الثاني متاحًا فإنّ الأمّة والتاريخ لن يستوعبا موقفه واعتماده لخيار الاستشهاد، ذلك لأنّهما يحتملان قبول النظام الأموي بخيار الانصراف عن الكوفة دون بيعة، وحينئذ يتمكّن الحسين مِن استجماع قوّته معتمدًا على وجاهته ومركزه الديني والاجتماعي في الأمّة، ولذلك لم يكن مِن الممكن أن يتفهّم أحد العمليّة الفدائيّة التي أقدم عليها الحسين عليه السلام لو لم يسقط الخيار الثاني أيضًا.
وبعد أن سقط الخيار الثاني لم يبقَ سوى خيارَيْن أحدهما يصرُّ عليه النظام الأموي ويصرُّ الحسين على رفضه وهو البيعة، والآخر يبتغيه الإمام الحسين ليضع بني أميّة في طريقٍ خاتمته الزوال والاندثار. والحمد لله ربِّ العالمين