لقد اختار الإمام الحسين(ع) لواقعة الطف الخالدة نخبة من الأنصار الذين كانوا من الرعيل الأول قربا من الله عز وجل وإخلاصا له في العمل، أولئك الذين كانت لهم المكانة السامية على الصعيدين الديني والاجتماعي في ذلك العصر.
لذا فإننا حيثما نمعن النظر في مواقف أولئك الأبطال يوم العاشر من المحرم سنجد الكثير من المفاهيم الإسلامية السامية قد طبقت أروع تطبيق وشيدت بأجمل صورة، وما أرقى الوصف الذي جاء بحقهم على لسان الإمام الحسين(ع) حيث قال: (أما بعد، فاني لا اعلم أصحابا اوفي ولا خيرا من أصحابي..).
ونحن لأجل ذلك نريد ان نستوحي من أصحاب الحسين(ع) الذين استشهدوا بين يديه عبرا موجزة عن طريق دراسة جوانب من مواقفهم التاريخية الكريمة في واقعة الطف، والتي رسمت جانبا من لوحة الطف العريقة، لعل ذلك يكون منهجا للاستزادة من العبر التي يمكن استلهامها من ملحمة عاشوراء الجليلة.
الصلاة عمود الدين:
أكدت الشريعة المقدسة على أهمية الصلاة تأكيدا كبيرا، فجعلتها عمود الدين ومقياسا لقبول الأعمال ولجاما عن ركوب المنكر، وجعلت الاستخفاف بها جريمة تحرم صاحبها شفاعة الشافعين. ولقد جسد أبو ثمامة بن عبد الله الصائدي(رض) عنوان علاقة المتقين بالصلاة، فلم تشغله الشدائد والمحن التي أحاطت به عن ذكرها والاشتياق إليها، إذ قال للإمام الحسين(ع) ظهيرة عاشوراء: (يا أبا عبد الله نفسي لك الفداء، إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تُقتل حتى اُقتل دونك إن شاء الله، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها).
أليس عجيبا أن لا يذهل المرء عن صلاته وهو في وسط تلك الرزايا الحالكة التي يتبع بعضها بعضا، ويغشى بعضها وجه بعض؟!
إن الوقائع في يوم الطف شهدت بأن ذلك ليس بعزيز عند رجل نبتت روحه في محبة الله، وترعرعت أعضاؤه على طاعة الله، فعكفت همته على مرضاته وسكنت إلى ذكره واشتاقت إلى لقائه، وذلك هو أبو ثمامة الذي قال له الحسين(ع): (ذكرت الصلاة.. جعلك الله من المصلين الذاكرين..)[1].
نفحة من التوبة:
إن التوبة التي فتحها الله سبحانه لعباده في الدنيا باب من أهم أبواب الرحمة الإلهية، فالتوبة النصوح لها آثار عجيبة في انقلاب الكيان الإنساني من الظلمات إلى النور، كما أن لها نتائج عظيمة على مستوى العطاء الذي لا يستطيع المرء بذله قبل التوبة إطلاقا.
ومن أشهر الرموز التي جسدت هذه الحالة في يوم العاشر الحر بن يزيد الرياحي(رض) أول المستشهدين من أصحاب الحسين(ع)[2].
إن الحر بن يزيد(رض) كان من قواد جيش ابن زياد، وله مكانة عظيمة بين قومه، كما انه كان يرى واضحا أن الحسين(ع) وأصحابه مقتولين لا محالة، ولكنه بالرغم من كل ذلك فارق الدنيا سريعا إلى الآخرة، وعجّل إلى الحسين(ع) خائفا من ألا تقبل توبته وهو يقول: (إني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي ومواسيا لك بنفسي حتى أموت، افترى ذلك لي توبة؟)...
لذا فانه مهما كان التقصير الذي اقترفه الإنسان خلال حياته، فانه مدعو في كل لحظة من حياته إلى ان ينقلب من الظلمات إلى النور من خلال التوبة النصوح، والتطهر الفعلي من آثار السيئات، وتقديم مرضاة الله على ما سواها، والله سبحانه كفيل ان يجعله في زمرة أوليائه الذين يحبهم بشهادة قوله: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)...
قال الحسين(ع) للحر الرياحي في عاشوراء: (نعم، يتوب الله عليك..)...
خوف من التقصير:
روي أن عمرو ابن قرظة الأنصاري استأذن الحسين(ع) للقتال فأذن له، فبرز يقاتل حتى قتل جمعا كثيرا، ثم انه كان لا يأتي إلى الحسين(ع) سهم إلا اتقاه بيده ولا سيف إلا تلقاه بمهجته فلم يكن يصل إلى الإمام(ع) سوء، حتى أثخن عمرو بالجراح، فالتفت إلى الحسين(ع) قائلا: (يا ابن رسول الله أوفيت؟؟) فقال(ع): (نعم أنت أمامي في الجنة، فأقرئ رسول الله(ص) عني السلام واعلمه أني في الأثر) فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه[3].
كما روي ان سعيد بن عبد الله الحنفي(رض) وقف في يوم العاشر من المحرم أمام الحسين(ع) وجعل يتلقى النبال والرماح عنه، ولا يزال كذلك حتى أُثخن بالجراح، فسقط إلى الأرض يجود بنفسه ويقول: (اللهم العنهم لعن عاد وثمود، اللهم ابلغ نبيك مني السلام وابلغه ما لقيت من الم الجراح فاني أردت بذلك ثوابك في نصرة نبيك) ثم التفت إلى أبي عبد الله(ع) وقال له: (أوفيت يا ابن رسول الله؟؟) فقال له(ع): (نعم أنت أمامي في الجنة)[4].
ومن العظيم جدا أن نسمع من هذين الرجلين قول: (أوفيت يا ابن رسول الله؟) بعدما قدما من تضحية متميزة جدا من بين تضحيات يوم الطف العريقة، حيث جعلا من أجسادهما دروعا لسيد الشهداء(ع) تقيه حر السلاح، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى بُعد هذين الشخصين عن الزهو والفخر والمنّة، ومدى إحساسهما بالتقصير في حضرة إمامهما، فهما لا يزالان خائفين من أنهما لم يؤديا حق النصرة، على الرغم من أن تضحيتهما العظيمة تلك لا يمكن ان يؤديها إلا عباد الله المقربين.
انقلاب في المتعارف:
من المعروف أن قلب الأم يحمل مقدارا من العطف والرحمة تجاه ولدها يجعلها تحتمل ما لا يطاق في سبيل الحفاظ على سلامته ودفع المكاره عنه، إلا أن العزم الذي نفخه الحسين(ع) في صدور أصحابه يوم العاشر من المحرم قلب كل الموازين المتعارفة، فهذه أم عمرو بن جنادة(رض) المرأة المفجوعة بمقتل زوجها في الحملة الأولى من واقعة الطف، تأمر ولدها الوحيد � وهو ابن إحدى عشرة سنة- بالقتال بين يدي الحسين(ع)، حتى إذا قتله الأعداء احتزوا رأسه والقوا به نحو عسكر أبي عبد الله(ع)، فأخذت الأم رأس ولدها ومسحت الدم والتراب عنه وضربت به رجلا من الأعداء فمات، ثم عادت إلى المخيم وأخذت عمودا واشتدت به نحو القوم وهي تقول:
أنا عجوز سيدي ضعيفة خـــاوية بـــالية نحـــيفة
أضربكم بضربة عنيفة دون بني فاطمة الشريفة
فردها الحسين(ع) إلى المخيم بعد أن قتلت بالعمود رجلين[5].
وشبيه بذلك ما كان من أمر وهب بن جناح الكلبي(رض)، حيث قاتل وأحسن القتال وبالغ في الجهاد، ثم رجع إلى أمه وزوجته فقال: (يا أماه أرضيت أم لا؟) فقالت له: ما رضيت حتى تقتل بين يدي الحسين(ع)، فقالت امرأته: (وبالله عليك لا تفجعني بنفسك) فقالت الأم: (يابني أعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعة جده يوم القيامة)..
والعجيب أن امرأته نفسها أقبلت فيما بعد وهي تحمل عمودا وتريد أن تقاتل مع زوجها قائلة: (فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين حرم رسول الله(ص)) فلما أراد أن يردها إلى النساء أخذت بجانب ثوبه وقالت: (لن أعود دون أن أموت معك)، ولولا أن قال لها الحسين(ع): (.. ارجعي إلى النساء رحمك الله)[6] ما انصرفت.
همّه الحسين (ع) وحده:
إن الوصية التي جعلها الله حقا على المتقين جاءت تلبّي الرغبة الفطرية لدى الإنسان في سداد ما أهمه من أمور قبل أن يرتحل عن هذه الدنيا، فالأمل فيها لا يدرك، ولعل أداء جانب من ذلك قبل الرحيل فيه عزاء وسلوه. وكثير من الناس في ساعات حياتهم الأخيرة يحملون هموم عيالهم على أكتافهم، ويرجو احدهم ألا يخرج من دنياه حتى تطمئن على حالهم نفسه، وبعض منهم تشغله هموم آخرته أكثر من أي هموم سواها، فيوصي بسداد ما عليه من ديون وقضاء ما بذمته من حقوق، حتى يخرج إلى الله تعالى خالي الوفاض من حق ربه وحقوق إخوانه.
لكن مسلم بن عوسجة الأسدي(رض) له شأن آخر في هذا المجال، فقد روي أنه لما سقط صريعا على الأرض في معركة الطف، بقي به رمق من الحياة، فأقبل إليه الحسين(ع) ومعه حبيب بن مظاهر الأسدي(رض) فقال له حبيب: (لولا أني أعلم أني في الأثر من ساعتي هذه، لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك)، فأشار مسلم(رض) إلى الحسين(ع) وقال لحبيب: (أوصيك بهذا فقاتل دونه حتى تموت)[7]. ومن خلال هذا القول نعلم أنه ليس لدى مسلم بن عوسجة(رض) همّ يشغله في آخر ساعات حياته إلا الحسين(ع) وحده، الهم الذي أخذ بجوامع قلبه فشغله حتى عن نفسه.
أقصى غاية الجود:
روي أن سيف بن الحارث بن سريع(رض) ومالك بن عبد الله بن سريع(رض) جاءا إلى الحسين(ع) يستأذناه في القتال وهما يبكيان، فقال لهما الإمام(ع): (يا ابني أخي ما يبكيكما؟ فوالله إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري العين) فقالا: (جعلنا فداك، والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك، نراك قد أحيط بك ولا نقدر على أن ننفعك)[8]. لقد قيل قديما "أن الجود بالنفس أقصى غاية الجود"، ولكن يظهر أن لدى هذين الفتيين جودا يفوق الجود بالنفس لو تمكنا من بذله، ولكن ليس إلى بذله من سبيل.. وهذا ما كان يبكيهما.
خاتمة المطاف:
انه لمن الضروري بعد هذه اللمحة السريعة عن جهاد أصحاب الحسين(ع) أن ندقق النظر جيدا في كل موقف من مواقف هؤلاء المخلصين، ونحاول على ضوء ما قدمناه ان نستلهم منهم قدر الإمكان العظات والعبر، ولا نمر على تلك الأحداث الخالدة دون محاولة الاستفادة منها حق الفائدة، فلقد جعل الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه من معركة عاشوراء منظارا عمليا للأجيال، تبصر من خلاله المفاهيم التي أراد الله سبحانه لعباده ان يجسدوها في خلافتهم على الأرض على مر الدهور والأجيال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري/ ج3 ص111
[2] الغدير للعلامة الاميني/ ج6 ص370
[3] - لواعج الأشجان- السيد محسن الأمين ص 148
[4] مقتل الحسين لأبي مخنف الازدي/ ص149
[5] لواعج الأشجان/ ص165
[6] العوالم للشيخ البحراني/ ص261
[7] لواعج الاشجان للسيد محسن الأمين/ ص153
[8] لواعج الاشجان /ص 166