مناسبة حزينة تلك التي تمر علينا في هذا الشهر الشريف وهي استشهاد إمامنا الحسن بن علي عليهما السلام بالسم على يد زوجته اللعينة جعدة بنت الأشعث بن قيس وما لاقاه من ظلم بني أمية - بأبي هو وأمي - ومن أصحابه أولئك المتواطئين معهم في حياته حيث اتهموه بالكفر والمروق عن الدين وقابلوه بالشتم والسب واعتدوا عليه بالضرب والطعن حتى طعنه أحدهم بخنجر في فخذه فشقه وسحب البساط من تحته ولاقى مالاقاه من ظلمهم وأذاهم حتى إذا استشهد واستقبل من أمر آخرته ما استقبل لم يكتفوا بما أوردوه عليه من ألوان الظلم والعذاب بل تجاوزوا ذلك فأظهروا له مكامن أحقادهم وما تأصلت عليه جذورهم من كره وحسد لأهل هذا البيت فرموا جنازته المقدسة بنبال الحقد والضغينة ومنعوها من أن تدفن إلى جوار جده المصطفى صلى الله عليه وآله حتى أرجعوها فدفنوها في البقيع حيث موقعها المنور الآن.
اشتهر صلوات الله عليه بصفات كثيرة كان من أهمها وأشهرها كريم أهل البيت (ع) حيث تجلى بهذه الصفة وظهرت آثارها على الخلق في زمانه، وبودي أن أشير إلى نقطة مهمة وهي أن كرم أهل البيت عليهم السلام جميعا لا يقتصر على الجانب المادي فقط المتمثل في الانفاق ومساعدة الفقراء والمحتاجين ومواساة الضعفاء والمعوزين فإن هذا مظهر ضيق ومحدود لكرمهم بل إن كرمهم عليهم السلام يتجاوز هذا بكثير ويتسع مداه اتساع الكون الرحيب ليتمثل في مظاهر كثيرة وصور متعددة تحكي عن تأصل هذه الصفة فيهم وتجليها في كل جزء من أجزاء هذا الوجود، وسوف أعرض بعض مظاهر كرمهم الفياض عليهم السلام ليتضح لنا هذا المعنى:
1- الكرم الوجودي:
وهو أن الله تعالى كان متفردا في ملكه متوحدا في سلطانه لا شريك له ولا وزير فأراد أن يخلق الخلق إظهارا لقدرته وإثباتا لجبروته فأوجدهم من العدم الإمكاني إلى الكون وعالم الصلوح أو العمق الأكبر وهو عالم يصلح أن يكون فيه كل شيء أي شيء فالمخلوقات فيه غير متمايزة بعد عن بعضها البعض لا بالمعاني ولا بالصور لأن حقائقها لم تتعين ولم تتقيد بحسب قابليتها وصلوحها لأي شيء تختار فلا يوجد في هذا العالم سوى الحقائق بقطع النظر عن أي اعتبار آخر من معنى أو صورة أو جسم تماما كالحروف في الدواة أو المحبرة فإنها غير متمايزة عن بعضها البعض وكل حرف منها يصلح أن يكون أي حرف إذ لا يوجد في هذه الدواة أو المحبرة سوى حقائق الحروف فقط، ولما أراد الله سبحانه إخراج حقائق الموجودات من هذا العالم حتى تتشخص وتتميز عن بعضها أخرجها بقوله (كن) وهو أمره الفعلي وذلك قوله تعالى{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82)، ولما كانت قابلية هذه الموجودات قاصرة عن قبول هذا الأمر الإلهي وترجمته إلى وجود لها وفق صلاحيتها في عالم غير هذا العالم الذي كانت فيه وهو عالم الإمكان، تفضل الله عليهم بتكليفهم بالتكليف الأول وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن عليا والأئمة الأحد عشر من ولدهما والصديقة الطاهرة عليهم السلام أولياؤه وأمناؤه وجعل سبحانه هذه الأنوار سببا وواسطة لتكميل قابلية هذه الموجودات وترجمة الأمر الإلهي لها حتى تتمكن من الانتقال إلى ساحة الوجود وفق قابليتها وصلاحيتها فمن أجاب إلى هذا التكليف بالقبول والإيجاب ظهر تاما سويا وفق الفطرة السليمة ومن أجاب بالسلب والإنكار ظهر ناقصا معوجا مظلما ويسمى هذا العالم بعالم العقول وقد تمايز فيه الخلق واستبان فيه الشقي من السعيد ولكن بالمعنى فقط لا بالصورة ولا بالشكل لأن عالم العقول هو عالم المعاني المجردة عن العناصر الزمانية والصور النفسية وذلك لقلة روابط الكثرات في هذا العالم وعدم ظهور الحيثيات واللوازم المقتضية للتوجه إلى الله سبحانه بشكل تام فكانوا هم عليهم السلام المتممين لقابليات الخلق والمترجمين لهم أمر الله الفعلي بالوجود حتى استطاعوا أن يخرجوا من ذلك العالم السيال والبحر المتلاطم إلى هذا العالم النوراني الجميل البسيط وهو عالم العقول وهو أول موجود في عالم الكون وما زالوا يتعاهدون الخلق في تنقلاتهم في عوالمهم المختلفة منذ بدأوا الى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلى أن يدخلوا إلى جنة الخلد فإن إمدادهم لهم لا ينقطع أبدا إذ هم بوابة الفيض الوحيدة وكيف يتخلف المعلول عن علته لحظة واحدة أو يتأخر المؤثر عن أثره إن هذا لا يكون أبدا.
2- الكرم التشريعي:
وهو أن الخلق بعد أن أوجدهم الله بحسب قابلياتهم بواسطة ترجمة الأئمة المعصومين (ع) أمر الله لهم بالوجود، أراد الله أن يتم نعمته عليهم وأن يظهر ما لأجله خلقهم وهو معرفته وعبادته {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) ولا يكون ذلك إلا بعد إتمام أسباب الإدراك والشعور بالنسبة لهم حتى يكونوا قادرين على الخضوع والانقياد والاستجابة لتكليفه لهم سبحانه فيما أراد فأنزلهم إلى العالم الثاني وهو عالم الأرواح وهو برزخ بين عالم العقول وعالم النفوس وكلفهم بالتكليف الثاني ثم أنزلهم بعد ذلك إلى عالم النفوس وهو عالم الصور وبذلك تشخص كل مخلوق تشخصا كاملا وأصبح تام الشعور والإدراك حيث اجتمعت فيه آلاته وهي العقل والروح والنفس فكلف في هذا العالم بالتكليف الثالث المفصل من التوحيد والعدل والنبوة والولاية والغيبة والرجعة والمعاد وتفاصيل أحواله وأوضاعه وتهذيب الأخلاق من مساوئ الصفات من البخل والحسد والبغض والنميمة والكذب والجحود والقسوة والالتزام بمكارم الأخلاق من الصدق والرأفة والرحمة والتعاون والإخلاص والشجاعة والعفو عن الناس وكظم الغيظ وصلة الأرحام والنهي عن المنكر وغيرها، وهم وإن لم يكونوا مكلفين بالعمل بهذه الأمور إذ لم تخلق لهم الآلات الجسمانية بعد في ذلك العالم وإنما كانوا مكلفين فقط بالاعتقاد بها على نحو الجزم واليقين حتى إذا نزلوا إلى هذا العالم ووجدت لديهم الآلات الجسمانية توجه التكليف إليهم للعمل بها، وكما أن الله تعالى جعل في هذا العالم أدلاء على صراطه ومعلمين يرشدون الناس إلى طاعة الله واجتناب نواهيه والالتزام بأوامره وهم الأنبياء والرسل والأوصياء، كذلك في ذلك العالم جعل الله للخلق معلمين ومرشدين يرشدونهم إلى معالم دينهم وهم المعصومون الأربعة عشر (ع) لأن الخلق كما كانوا قاصرين عن ترجمة أمر الله لهم بالوجود لقصور قابلياتهم عن ذلك، كذلك كانوا قاصرين عن ترجمة التكاليف الشرعية التي كلفهم الله بها منذ ذلك العالم فكان لا بد لهم من مكملين يتممون قابلياتهم ويأخذون بأيديهم لفهم هذه التكاليف والعمل بها وفق ما أراده الله سبحانه وتعالى إذ أن الله أشهد المعصومين خلق أنفسهم وأشهدهم خلق الموجودات وجعلهم الحجج عليهم والأدلاء عليه سبحانه في كل عالم فمن اقتدى بهم واتبع نهجهم وطريقتهم وأظهر لهم الخضوع التام والانقياد الشامل فاز ونجا ومن أظهر لهم العناد وجحد طريقتهم وأنكر فضلهم ومكانتهم غرق وهوى فكان قبول ولايتهم في هذا العالم والتزام طريقتهم سببا للفوز والنجاة "فبكم يسلك إلى الرضوان وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن" (الزيارة الجامعة)، روى علي بن معمر عن أبيه قال سألت أبا عبدالله (ع) عن قول الله تبارك وتعالى {هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأْولى} (النجم:56) قال: يعني محمدا حيث دعاهم بالإقرار بالله في الذر الأول. (بصائر الدرجات / 104).
3- الكرم الأخروي:
وذلك بدء من ساعة احتضار المؤمن حيث يحضرون عند عبدهم الموالي لهم فيبشرونه بكرامة الله له وفوزه بنعيم الجنة معهم عليهم السلام، فعن ابن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: ما يموت موال لنا مبغض لأعدائنا إلا ويحضره رسول الله (ص) وأمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم فيرونه ويبشرونه، وإن كان غير موال لنا يراهم بحيث يسوؤه، والدليل على ذلك قول أمير المؤمنين (ع) لحارث الهمداني: "يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قبلا". (البحار 6/180)
إلى ارتوائه بكف أمير المؤمنين عليه السلام في يوم القيامة حيث يسقيه من حوض الكوثر بيده الشريفة كرامة له، عن المفضل عن الصادق عن آبائه (ع) قال: قال رسول الله (ص): "من أراد أن يتخلص من هول القيامة فليتول وليي وليتبع وصيي وخليفتي من بعدي علي بن أبي طالب فإنه صاحب حوضي يذود عنه أعداءه، يسقي أولياءه فمن لم يسق منه لم يزل عطشانا ولم يرو أبدا، ومن سقي منه شربة لم يشق ولم يظمأ أبدا".(البحار 8/ 19)، إلى تكرمهم بأبي هم وأمي عليه بالشفاعة في ذلك اليوم المهول فيدخل الجنة بشفاعتهم بتصفيته من موجبات العقاب والعذاب عن طريق تعريضه لبعض الشدائد والمحن إما في الدنيا أو في البرزخ أو في الآخرة مع بقاء الموجب لثوابه وثباته له وهو الإيمان بالله وولاية أهل البيت عليهم السلام، فعن سماعة قال: كنت قاعدا مع أبي الحسن الأول (ع) والناس في الطواف في جوف الليل فقال:" يا سماعة إلينا إياب هذا الخلق وعلينا حسابهم فما كان لهم من ذنب بينهم وبين الله عز وجل حتمنا على الله في تركه لنا فأجابنا إلى ذلك، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم وأجابوا إلى ذلك وعوضهم الله عز وجل". (البحار 8/57)، وعن حمران بن أعين قال: قال الصادق(ع): "والله لنشفعن لشيعتنا، والله لنشفعن لشيعتنا، والله لنشفعن لشيعتنا حتى يقول الناس" {فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (الشعراء:100-101) (البحار 8/43).