تأليف: عادل رؤوف
الناشر: المركز العراقي للاعلام والدراسات دمشق 2002
الصفحات: 704 صفحات من القطع الكبير
قبل بضعة شهور من احتلال بغداد، كان النقاش بين النخب العراقية المختلفة حول مستقبل البلاد بعد نظام صدام حسين يتسع الى دوائر وحقول لا مثيل لها، كان ثمة لدى الجميع، يقين بأن الحرب واقعة لا محالة، وان النظام سيلقى انهياره المدوي، وأن على القوى الحية في البلاد ان تعد نفسها لقيادة طواريء تاريخية لئلا تحل الفوضى او العنف الاهلي او التقسيم، ويصبح العراق كله بلا قيادة. لكن الشيء الذي كان لا مناص من حدوثه قد حدث.
وهو حدث كبير ومروع واستثنائي، اما النقاش فاستمر ولكن في صيغة اكثر احتداما، ولعل ما يتصل في هذا الشأن بالمرجعيات الدينية الاسلامية لاسيما منها القيادة الشيعية في النجف وامتداداتها الشعبية والسياسية يأخذ قسطه الاوفر من النقاش الآن في ظل الاحتلال. »عراق بلا قيادة ـ قراءة في ازمة القيادة الاسلامية الشيعية في العراق الحديث» للباحث العراقي عادل رؤوف، شكل محطة معرفية تصل الماقبل بالمابعد، فقد صدر الكتاب قبل شهور قليلة من اشتعال الحرب وسقوط نظام الرئيس صدام حسين.لكن راهنيته تتضاعف الآن، حيث تتموضع المرجعيات الشيعية في قلب الحدث، وتنهال الاسئلة عليها في نحو لا سابق له، وهي الاسئة نفسها تتجدد حتى ليبدو الكتاب رحلة معرفية حافلة بالمعلومات والوثائق وعمليات التحليل التاريخي، تؤسس لاشكاليات الحاضر والمستقبل. عماذا يتحدث صاحب كتاب «عراق بلا قيادة» وما الذي اراده حين ركز على قراءة ازمة القيادة الشيعية راهنا..
وكذلك سحابة التواريخ المنقضية؟هذا الكتاب ـ بحسب صاحبه ـ ليس كتابا فكريا بحتا ولا كتابا تاريخيا خالصا ولا كتابا اجتماعيا متخصصا او كتابا سابحا في نظريات القيادة السياسية ومصاديقها ومسمياتها فقط او متخصصا بالشروط النظرية الاكاديمية للمسألة القيادية بصورة عامة او المسألة القيادية في الاسلام بصورة خاصة، انه كتاب يحاول اعطاء تصورات عن ازمة القيادة الاسلامية ـ الشيعية بمفهومها العام، ضمن نقطة جغرافية محددة وفي زمن تاريخي محدد، ذلك بما يستدعي كل تلك الاتجاهات واخرى غيرها كتحصيل حاصل، وكحقول طافت بها نماذج القيادة في العراق، وكمجالات تحركت عليها، انطلاقا من الاداء القيادي العملي ـ الميداني الحاصل على الارض، منذ تأسيس دولة العراق الحديث وحتى الآن.
يبين المؤلف مقاصده في اشكاليات القيادة من خلال قراءة يرى انها ستكون بالضرورة راصدة لخليط من المجالات والاتجاهات ابرزها: اولا: انها قراءة راصدة لملابسات الصيرورة التاريخية لشكل من اشكال هذه القيادة التي رافقت او جاءت كنتيجة لتأسيس دولة العراق الجديدة، فهذه الملابسات التاريخية في دوري الفقيه والسلطة والسجال الذي انتهى لصالح الاخيرة افرزت شكلا من اشكال القيادة الفقهية المحكومة الى علاقات خاصة مع الامة من جهة ومع السلطة من جهة اخرى، وكذلك مع الاشكال القيادية الاخرى داخل ما يسمى بالمؤسسة الدينية، اذ ان الاحاطة بهذا الجذر التاريخي لابد منها كصيروة حكمت المسار اللاحق لاحداث العمل الاسلامي في العراق.
ثانيا: انها قراءة راصدة لحالة هذا التعدد القيادي الفقهي والحركي، فالمؤسسة الدينية هي في الواقع عبارة عن مؤسسات صغيرة محكومة الى رؤوس قيادية حتى وان بدا ان هنالك رأسا قياديا فقهيا اعلى سمي فيما بعد بالمرجع الاعلى، وكان نتاجا لذلك الجذر التاريخي، وبحسب المؤلف ـ فان هذا التعدد سوف يخضع الى تصنيفات هي الاخرى متعددة تبعا للطبيعة المعرفية لكل قائد، والدور الميداني الذي مارسه ازاء الامة والسلطة والمؤسسة الدينية.. فعلى الخط الفكري والفقهي والمعرفي والسياسي يدور التصنيف بين الخط التقليدي والخط التجديدي، وعلى صعيد التعاطي مع السلطة، يأخذ هذا التصنيف تعددا اكبر اما في دائرة اخرى فسيجد الباحث تصنيفا ثالثا يتلخص بثنائية الخط المرجعي والخط الحركي، في حين ان كل تلك التصنيفات ستأتي متناثرة في سياق الكتاب من خلال شكله الفني او فصوله.
ثالثا: سوف تكون قراءة الباحث جادة للمباني الفكرية والتاريخية والفقهية التي تسلحت بها قيادات العمل الاسلامي الشيعي في العراق.
ومن هذه المباني ما يتعلق بنظرية الخلافة والشهادة التي وضع اسسها المفكر والعلامة محمد باقر الصدر الذي اغتالته مخابرات النظام العراقي في الثمانينيات وهي النظرية التي سيتأسس عليها الكثير من خطوط العمل السياسي والتنظيمي والحزبي في العراق.
رابعا: رصد الجانب النظري للاشكال والآليات القيادية والكيفية التي جرت فيها على مستوى الممارسة الميدانية وخصوصا لجهة المواجهة المفتوحة والمستترة بين تيارات العمل الاسلامي ونظام الحكم وبالاضافة الى اشكال القيادة ونظرياتها يسعى المؤلف الى قراءة المضامين السياسية والمعرفية للخطاب القيادي الموجه الى الامة، وكذلك اشكال هذا الخطاب والتركيز على البعد الاشكالي فيه، فهذا الخطاب هو بنظر المؤلف خطاب ممتليء بالابهام والعمومية والتلغيز، من دون ان يلحظ المصاديق الواقعية، الامر الذي ادى الى ضياع الحدود بين العام والخاص وبين السياسي اليومي والفقهي، في حين سيفضي هذا التأسيس غير المنتظم في نسق واضح الى حال من الاضطراب في حركة الواقع الاسلامي مترافقا ذلك مع ضياع الخطاب النقدي وسيادة ذلك النوع من التوليتارية ذات البعد الواحد في العقل السياسي الديني.
على اي حال فان هذا المسعى لقراءة الازمة القيادية الاسلامية ـ الشيعية في العراق، لم ينحصر في الجوانب النظرية والفكرية وانما تعداه ليطال ربما للمرة الاولى في هذا النوع من الابحاث والدراسات التفاصيل والجزئيات الصغيرة من المعلومات التي تدخل في عالم الاسرار التي تذاع لاول مرة، وهكذا فان الثقل الاكبر الذي يعمل عليه هذا الكتاب لا يقع في حيز فكر القيادة، اي بمعنى نظريات القيادة التي حكمت تاريخ العمل الاسلامي في العراق الحديث، بل هو يقع في الحيز العملي ـ الميداني ـ التجريبي ـ التاريخي في هذه الفترة الزمنية، لكن هذا الحيز بقدر ما يقودنا الى مناقشة الافكار والمناهج والنظريات فهو يقودنا في الحيز المتبقي لمهمة هذا الكتاب الى طرح بعض المعالجات الفكرية القيادية الاسلامية العامة، بل حتى ولو بشكل غير مركزي الى التطرق الى نظريات في العمل القيادي غير الاسلامية وعلى ما يتصور المؤلف الدكتور عادل رؤوف كمهمة لكتابة فان السؤال الاول يتمحور حول البداية التي ينبغي الانطلاق منها اذ ان عنوان الكتاب يشمل العراق الحديق اي القيادات الاسلامية التي تحكمت فيه منذ تأسيس الدولة العراقية الحديث.
وبطبيعة الحال فان هذا التحديد يتداخل بشكل جذري واساسي في ملابسات وجذور الاحداث ما قبل ولادة الدولة العراقية (اي ثورة العشرين) وما قبلها من احتلال انجليزي للبلاد ثم تغطية هذه الفترة الاحتلالية بكل احداثها الصاخبة.
يلاحظ المؤلف ان الارهاصات الاولى لأزمة القيادة في ميدان العمل الاسلامي الشيعي في العراق، اخذ بالتبلور مع انتخابات المجلس التأسيسي التي مهدت لقيام الدولة في مستهل القرن المنصرم فقد كان معلوماً ان موقف مراجع الشيعة والانتخابات آنذاك هو الرفض في المشاركة حيث استطاع الموقف الرافض ان يعطل هذه الانتخابات ويؤجلها عبر دور مرجعي حاضر في الاحداث لكنه حضور سلبي في نهاية المطاف.
ويشير الباحث في هذا المجال الى انه على الرغم من ان شيعة العراق قاموا بأعباء التحرير والاستقلال الى جانب بقية ابناء الشعب العراقي الا انهم لم يتبوأوا القيادة السياسية، فجاء الحصاد مثقلاً بالخيبة وبسبب من حالة الضعف السياسي في دورهم، وجدت السلطة الملكية الوليدة بالاتكاء على الوجود الاستعماري الانجليزي الفرصة الملائمة لاجراء الانتخابات وتشكيل الهيئة التأسيسية التي كانت رفضتها المراجع الشيعية من قبل وبالفعل فقد اصدر عبدالمحسن السعدون بصفته وزيراً للداخلية في 20 نوفمبر 1922 اوامره الى المتصرفين بالشروع باجراء انتخابات المجلس التأسيسي، ومرة اخرى سوف تصطدم الانتخابات بفتاوى المجتهدين بقيادة الشيخ مهدي الخالصي ومع أن هذه الفتاوى ستعرقل العمليات الانتخابية وتفشلها الا ان تثمير ذلك لم يعد بأية فائدة على المعارضة وذلك بسبب غياب اي استراتيجية لدى القيادة الاسلامية، وخصوصاً استراتيجية الوصول الى الحكم.
منازعات فقهية من هذه النقطة بالذات، اي استراتيجية استسلام السلطة نشأت الاشكالية الكبرى والتأسيسية في العمل القيادي الاسلامي. حيث ستجيء التطورات التاريخية اللاحقة لتثبت ان العنصر المركزي في المأزق القيادي هو العزوف عن السلطة الى درجة بلغت ببعض المجتهدين الى اصدار فتوى التحريم بذلك.
لقد تنازعت الاجتهادات ـ كما يلاحظ المؤلف ـ بين أصلين نظريين أساسيين حول قضية السلطة والحكم هما: اصل نظرية ولاية الفقيه وأصل نظرية ولاية الأمة على نفسها ويمكن ان يندرج تحت الاصل الاول كل الاطروحات التي تتبنى مبدأ الولاية بغض النظر عن اتساعها او انقباضها وبغض النظر عن كونها ولاية مطلقة او ولاية حسبية حسب المصطلحات الفقهية فيما يندرج تحت الاصل الثاني كل ما يدخل في حيز صلاحية الأمة في تحديد النظرية السياسية كأفكار الشورى وبالتالي صلاحية القائد.
هذان هما الأصلان النظريان رغم الاختلافات العملية في الدور الميداني الذي يمارسه صاحب النظرية، فقد يكون هنالك قائد يؤمن بالولاية المطلقة للفقيه، لكنه في التطبيق يتضح ان فهمه للولاية المطلقة لا يتعارض مع بعض افكار المجتمع المدني المؤسساتية وحشر الأمة في اختيار قادتها، بل واعطائهم حق الرقابة على هؤلاء كما فعل الامام الخميني في تجربة الدولة الاسلامية في ايران عندما ذهب ـ وهو اكبر مؤمن بولاية الفقيه المطلقة واكبر المنظرين لها ـ الى حد تحريض الأمة على القائد في حال اخل بالتزاماته الاسلامية والتحريض لا يحصل دون رقابة ولذا فهو اطلق نصوص حق رقابة الأمة على القيادة واعتبر ذلك واجباً شرعياً من واجباتها ولتركيز هذا المبدأ فهو لم يكتف بحثها على الرقابة بل وذهب الى حد تحريضها بصياغات ونصوص مختلفة ومن يراجع وصيته فبإمكانه ان يطلع على هذا الامر بعمق ومع ذلك فإن المبدأ ينبغي ان يقرأ دائماً قراءة نظرية اذ ان الجانب التطبيقي والعمل لا يشكل لوحده ضمانة ما لم يرتكز على نصوص نظرية تتحول بدورها الى دستور في حال وجود الدولة.
اما نظرية ولاية الأمة على نفسها، والتي اخذت وتأخذ من الجدل بين القيادة الاسلامية والمرجعية الشيعية العراقية مساهمة واخرى، فهي ـ بحسب وجهة نظر المؤلف ـ الاصل المضاد والمقابل للأصل الأول ـ وهي نظرية تبدو الى حد ما منسجمة مع روح الاسلام وخطابه القرآني ونصوص السنة الشريفة فوفق هذا الاصل ستكون القيادة شأناً من شئون الناس من الناحية النظرية، كما انها ستصبح تحصيل حاصل للمجتمع الذي افترضه الاسلام بمواصفاته التي جرى التطرق اليها على امتداد فصول الكتاب.
يخلص المؤلف الى جملة استنتاجات تتعلق بالخصائص القيادية للحركة الاسلامية الشيعية في العراق وعليها تترتب ديناميات التطور اللاحق للنظام السياسي سواء كان نظاماً ذا اغلبية اسلامية او كان نظاماً فيدرالياً يقوم على التوازن بين القوى الاسلامية وسائر القوى القومية والوطنية والليبرالية الممثلة لكافة المذاهب والطوائف والتيارات العراقية.
لعل ابرز هذه الاستنتاجات هي تلك المتعلقة بالتنظيم الشخصاني في الحركة الدينية، ففي هذه الحال قد تتحول الامة الى أمم فضلاً عن تحول العمل السياسي الى ضرب من ديكتاتورية بلباس ديني وفي تقدير المؤلف لاتجاهات التطور العراقي يلاحظ ان المشهد القيادي العراقي قبل الاحتلال هو الصورة المطابقة للساحة القيادية التاريخية بمشاهدها العديدة وهو مشهد يمكن تصنيف القيادات الاسلامية المتحكمة فيه وفق اكثر من قياس واساس وما يميزه انه اكثر تعدداً من القيادات المقيمة في الداخل والخارج، ووفق فإنه مشهد يتشكل من قيادات أبدية مطلقة معززة بالمال والسلطة الفتاوى المرجعية وهو ما يعكس تأثيرات جمة من التشتت والضياع وتفكك قدرات المواجهة.
عبر هذه الاشكاليات واشكاليات اخرى موازية يمضي عادل رؤوف الى مواكبة تطورات أزمة القيادة الاسلامية الشيعية في العراق مناقشاً وكاشفاً وناقداً ومحللاً ومنظراً ومقترحاً ومرجحاً ومقارباً ومقارناً وموثقاً لمعظم ما تضمنته من احداث واسماء وافكار ونظريات وفتاوى تتعلق بالاجتماع السياسي وقد جرى ذلك على تبويب من خمسة فصول هي: «الجذر التاريخي للأزمة»، «أزمة القيادة الاسلامية ـ الشيعة في العراق بالمقارنة مع التجربة في ايران»، «دراسة مقارنة في الاداء القيادي بين المقاومة الاسلامية في لبنان وفيلق بدر»، «ظواهر قيادية» واخيراً «جدلية القيادة ـ الأمة في العراق». «عراق بلا قيادة» كتاب يضم بين دفتيه الكثير من المسكوت عنه من خلال نقاطه العامة تلك مسلماً بوثائق لم تنشر من قبل وبخطاب قائم على الدليل وجامع بين النمط الاكاديمي العلمي والهم الرسالي. لكن الكتاب يبقى على أهميته وألقه رغم التحولات المدوية التي حلت على العراق بعد احتلاله وسقوط النظام ذلك ان ما جاء فيه يؤسس نظرياً لما سيكون عليه الحال القيادية للحركة الاسلامية الشيعية بمرجعياتها الدينية والسياسية والحزبية.