من سيحاكم مجرمي الحرب في العراق؟
أصيب الضمير العالمي بصدمة هائلة من نشر مشاهد وصور العراقيين المعذبين على أيدي جنود الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني. ولكن لعل الأمر الأكثر أهمية من نشر تلك الصور، والأكثر أهمية كذلك من موجة الإدانة الكلامية ـ الإعلامية الدولية لتلك الجرائم ومرتكبيها، هو السؤال عن من سيحاكم مجرمي الحرب في العراق؟
إن أركان هذه الجرائم لا تزال ماثلة على أرض العراق: الضحايا، والمجرمون (المخططون والمنفذون والمساعدون)، وأدوات الإجرام، وأماكن ارتكاب الجرائم. ولن يكفي ما قامت به سلطات الاحتلال الأمريكية من توجيه توبيخ للمجرمين حتى وإن كان مكتوباً، وعلى العرب والمسلمين وأحرار العالم من كل أمة ومن كل ملة أن يتحلوا بالصبر وطول النفس والجدية في العمل، من أجل ملاحقة هؤلاء المجرمين حتى تتم محاكمتهم وإنزال العقوبات العادلة بهم، ورد الاعتبار للشرف العربي والعراقي؛ بل للكرامة الإنسانية بأسرها.
لقد هرعت الإدارة الأمريكية لتدارك ما يمكن تداركه من هذه الفضيحة البشعة بعد أن ذهل الضمير الإنساني من هول الصدمة التي أحدثتها صور العراقيين المعذبين على أيدي جنود الجيش الأمريكي والجيش البريطاني، وسعى ممثلو هذه الإدارة لامتصاص آثار هذه الممارسات السادية التي تعبر عن ارتكاس مرتكبيها إلى أحط دركات الهمجية وانعدام الضمير. وركزت ردودهم على القول بأن ما جرى لا يمثل قيم الجيش الأمريكي، ولا يعبر عن السياسة الأمريكية، وكذلك قال المسؤولون البريطانيون مثل قولهم بخصوص ما نسب إلى جنودهم من أعمال وحشية بحق العراقيين. والهدف من ذلك واضح تمام الوضوح، وهو حصر القضية في حدود حفنة قليلة العدد من الجنود المنحرفين الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، كما يحاول أن يقنعنا المسؤولون الأمريكيون والبريطانيون.
ولكن هل يعقل في العرف العسكري أن يقوم الجنود بأعمال -وخاصة من هذا النوع الإجرامي- دون أوامر من قادتهم ووفق قواعد التسلسل الهرمي للقيادة ؟ ومنذ متى كانت عمليات التعذيب في السجون وهتك الأعراض وإهانة الإنسان يجري تصويرها بآلات التصوير الحديثة إلا إذا كان ذلك وفق ترتيبات وإجراءات معلومة لدى المستويات العليا لإدارة السجون في العراق، التي هي بدورها واقعة تحت إدارة السلطات العسكرية للاحتلال؟
إن الأكثر جدوى من الناحية العملية الآن بدلاً من الإدانة الكلامية والتشفي بإلقاء اللعنات الشفوية على الإدارتين البريطانية والأمريكية هو البحث عن الجهة التي ستحاكم الذين ارتكبوا تلك الجرائم، وعملية البحث هذه ليست سهلة كما يتصور البعض؛ وخاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية سبق لها أن رفضت التوقيع على إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، حتى لا تعرض جنودها وقادتها العسكريين للعقوبات، ولتوفر لهم حصانة ضد أية جرائم يرتكبونها، وهذا هو أحد أهم الأسباب التي شجعتهم على اقتراف جرائمهم بحق العراقيين العزل.
سوابق قانونية دولية
إن العقلانية والرشادة في التفكير تفرضان على مؤيدي أمريكا قبل معارضيها القيام دون إبطاء بثلاث مهمات عملية هي:
1ـ المطالبة بضرورة الاحتكام إلى قواعد القانون الدولي الإنساني الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان في حالة الحرب.
2ـ حث المؤسسات والهيئات الدولية الحكومية وغير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان على القيام بحصر وتوثيق الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال في العراق ؛ كأحد الإجراءات اللازمة لمحاكمة عادلة وعلنية للمشاركين في ارتكاب تلك الجرائم.
3ـ الدعوة لتشكيل محكمة دولية في أقرب وقت ممكن، على أن تتكون من أطراف محايدة تختص بمحاكمة مجرمي الحرب في العراق على جرائمهم.
ومن المفيد في هذا الصدد العودة إلى السوابق القانونية الدولية في قضايا جرائم الحرب، وهي تشير -وخاصة تلك التي أسفرت عنها محاكمات مجرمي الحرب العالمية الثانية في نورمبرج وطوكيو- إلى أن المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب بكل أنواعها، يتحملها حكام الدول المعتدية وقواد جيوشها وجنودها الذين شاركوا في ارتكاب الجرائم، ورجال الإعلام والصناعة والمال الذين مولوا العمليات العدوانية، وأمدوا المنفذين لها بالتوجيهات والإرشادات وأدوات التنفيذ، والذين قاموا بالدعم المعنوي وكل ما من شأنه تسهيل الاستمرار في العدوان وارتكاب الجرائم.
أما أنواع الجرائم التي ارتكبها جنود الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني في العراق فيمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات طبقاً للسابقة الدولية التي أسفرت عنها محاكمات نورمبرج وطوكيو التي أشرنا إليها، وهذه المجموعات هي:
1ـ جرائم ضد السلام، وهي تشمل القيام بشن حرب عدوانية، وإدارتها، والتخطيط لعملياتها، ومتابعتها، وخرق المواثيق الدولية الخاصة بقواعد شن الحرب.
2ـ جرائم الحرب، وهي تشمل انتهاكات قوانين الحرب وأعرافها وأخلاقياتها، وتتضمن القتل العمد، وإساءة معاملة السكان المدنيين، وإقصاءهم عن ديارهم، وإجبارهم على القيام بأعمال شاقة، وقتل الأسرى عمداً، وإعدام الرهائن، ونهب الأموال العامة أو الخاصة، وتهديم المدن والقرى.
3ـ جرائم ضد الإنسانية، وهي تشمل كل الأفعال التي تتضمن شناعة خلقية، وتلحق الضرر بالضمير الإنساني، وتحط من الكرامة الآدمية، ومن ذلك القتل غدراً، والاغتصاب الجنسي أو التهديد به، والتعذيب، والإهانة بالسب والشتم، والتجويع، ويضاف إلى ذلك كل الأعمال العدوانية التي تلحق الضرر بالتراث الثقافي والديني والإنساني مثل تهديم دور العلم، وقصف المساجد وأماكن العبادة، وإحراق وسرقة المكتبات والمتاحف ودور الآثار، وقتل العلماء والمفكرين، أو إهدار كرامتهم.
لقد سقطت كل الدعاوى التي ساقتها الولايات المتحدة لتبرير عدوانها على العراق واحتلاله، بما في ذلك جلب الحرية للعراقيين وتخليصهم من الاستبداد. ولعل حال أغلبية قادة النظام السابق بمن فيهم صدام حسين أفضل كثيراً من حال المعذبين على أيدي قوات الاحتلال دون ذنب اقترفوه أو جناية ارتكبوها. وتؤكد وقائع الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق على مدى ثلاثة عشر شهراً الماضية أن قوات الاحتلال ارتكبت كل أنواع جرائم الحرب التي نصت على تجريمها اتفاقيات جنيف الأربع؛ بدءاً بتجاهل مقررات الشرعية الدولية، وعدم الاعتداد بقرارات مجلس الأمن، مروراً بخداع العالم بخدعة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وصولاً إلى انتهاك آدمية الإنسان العراقي في السجون والمعتقلات وهو مجرد من كل شيء تحت سمع وبصر العالم عبر كاميرات التصوير.
وهم القوة المطلقة والإفلات من العقاب
تعتقد الإدارة الأمريكية أنها في مأمن من المحاسبة الجنائية الدولية بامتناعها عن التوقيع على إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، ولهذا تتمادى في الازدراء بالقيم والأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، ولكن هناك أسباباً أخرى تفسر مبالغتها في هذا التمادي.. ومن أهم هذه الأسباب شعورها بجنون القوة المطلقة ؛ حيث تتصرف الإدارة الأمريكية على المسرح الدولي بمنطق المباراة الصفرية التي تقوم على أن كل مكسب تحققه لابد أن يمثل خسارة للطرف الآخر الذي تواجهه، وأنها لابد أن تحقق كل أهدافها وكسب كل شيء، بينما يخسر الطرف الآخر المواجه لها كل شيء. وهذا التصرف أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة ؛ ذلك لأنه مبني على افتراضين خاطئين هما:
الأول: افتراض ثبات معادلات القوة على مسرح السياسة الدولية، والواقع أن هذه المعادلات في تغير مستمر، وأن تغير المصالح يؤدي بالضرورة إلى تغير في التحالفات وموازين القوى، وكلما طال أمد المواجهة تكشفت أوجه كثيرة للمصالح المتناقضة بين القوى المتحالفة مع الولايات المتحدة ضد العراق، الأمر الذي يزيد من الأعباء التي ستتحملها الإدارة الأمريكية، وليس أقلها مطالبة جورج بوش للكونجرس في 5/4/2004 بتوفير 25مليار دولار إضافية لدعم استمرار احتلال العراق، وأشارت مجلات أمريكية إلى أن الإدارة الأمريكية تنفق شهرياً على احتلالها للعراق 4.7 مليار دولار.
الثاني: افتراض أن التفوق المادي -والعسكري منه على وجه التحديد- يمثل ميزة مطلقة، وخاصة في حالة المواجهة ضد طرف لا يملك من هذه القوة العسكرية شيئاً مثل الشعب العراقي. والواقع أنه بقدر ما توفر القوة المادية العسكرية من مميزات لصاحبها بقدر ما تلقي عليه من أعباء اقتصادية ومعنوية، وبخاصة إذا كان فارق القوة كبيراً كما هو الحال في المواجهة بين قوات الاحتلال والمقاومة العراقية . فتقارير مراكز البحوث الاستراتيجية والعسكرية الدولية -ومنها مركز التقويمات الاستراتيجية بالولايات المتحدة- تؤكد أن تكلفة المواجهة التي تتحملها قوات الاحتلال باهظة جداً على المستوى الاقتصادي البحت، إضافة إلى ارتفاع التكلفة السياسية المتوقع أن تدفع الإدارة الحالية ثمنها داخلياً في الانتخابات المقبلة في نوفمبر وأمام دافعي الضرائب الأمريكيين، وقد أشارت استطلاعات للرأي أجريت قبيل نشر صور المعتقلين العراقيين يخضعون للتعذيب والإهانة إلي تراجع عدد الأميركيين الذين يعتبرون اجتياح العراق مبررًا، ولم تعد نسبة مؤيدي العملية العسكرية سوى 47% مقابل 58% قبل شهر. كما أن أسلوب بوش في إدارة احتلال العراق لم يعد يحظى سوى بموافقة 41% من الأميركيين، مقابل 49% قبل شهر و59% في كانون الأول/ ديسمبر 2003. أما خارجياً أمام الرأي العام العالمي فلم يسبق أن ارتفع ازدراؤه للإدارة الأمريكية إلى الدرجة التي وصل إليها نتيجة استمرارها في احتلال العراق وانتهاكها لحقوق الإنسان فيه. وعلى الجانب الآخر نجد أن الضعف المادي والعسكري للطرف العراقي هو من جهة أخرى ميزة اقتصادية غير مباشرة من منظور المكسب والخسارة في مثل هذه المواجهة ؛ ففي مقابل المليارات التي خسرتها الإدارة الأمريكية لم يخسر الشعب العراقي شيئاً يذكر.. فقد كان منهوباً في ظل الحكم السابق، ولا يزال يعاني من نفس سياسات النهب، وليست هناك تخوفات من المحاسبة السياسية لدافعي الضرائب ؛ لأن العراقيين ببساطة ليس لديهم سوى أناس يدفعون أرواحهم فداء لوطنهم ودفاعاً عن أعراضهم ومقاومة للاحتلال الأجنبي الذي يجثم على بلادهم.
سيقول البعض: إن الإدارة الأمريكية انزعجت وأعربت عن أسفها وقدمت الاعتذار للشعب العراقي عما وقع في حق أبنائه من جرائم التعذيب والإهانة، ولكن أغلب الظن أن سبب الانزعاج والمبادرة بالاعتذار هو سبب سياسي خاص بسباق الانتخابات الأمريكية، وليس سبباً إنسانياً نابعاً من مبادئ الفطرة الإنسانية التي لا تفارق أكثر الجماعات البشرية بدائية. وعلى العالم ممثلاً في هيئة الأمم -إن كانت لا تزال موجودة- والمؤسسات والهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، والأحرار في كل مكان أن يحاسبوا الإدارتين الأمريكية والبريطانية أمام محكمة دولية تشكل لهذا الغرض، لخرقهما القانون الدولي، وتعريضهما الأمن والسلم الدوليين للخطر، وإشاعة الفوضى وتغذية مصادر العنف والإرهاب عبر العالم.
د.إبراهيم البيومي غانم 21/3/1425