نظرة إلى قيمة الصحابة ,
من مصائب الأمة اليوم دون شك , أنها استجابت نوعا ما لدعوة أهل الطعن فى الصحابة ونظرت إلى الروايات التاريخية المزيفة التى رواها رواة التاريخ غير العدول على أنها روايات صحيحة رغم أنها تحمل مطاعن فى أشرف جيل للإسلام وهو الجيل الذى حمل الرسالة وكان وسيلة إيصالها لأقطار الأرض وإيصالها للأجيال وراء الأجيال
والأمر لا يخلو من حماقة وغباء مطلق ,
ففي البداية مثل هذه المطاعن كيف يمكن قبولها ومن رواها هم الكذابون المعروفون بحقدهم ضد هذا الجيل مثل رواة الشيعة , بالإضافة إلى ما هو أطم أننا غفلنا عن القرآن الكريم الذى يمثل الثبوت المطلق والدليل المنفرد بذاته على تزكية هذا الجيل كله ,
فأهملنا دليل القرآن فى تزكيتهم وقبلنا دليل الزنادقة ,
والطعن فى جيل الصحابة قديم وموجود فى كتب التاريخ التى نقلت لنا الروايات جميعها وأخضعها أهل التحقيق لتحقيقهم وبينوا زيفها غير أن الجهل العام فى عالمنا المعاصر دفع العلمانيين والشيعة ومن تابعهم فى حرب الإسلام إلى استغلال رواج تلك الروايات ليصلوا إلى أغراضهم فى التشكيك بهم والتشكيك بهم يعنى التشكيك فى الدين الذى نقلوه , وهذا هو الهدف الوحيد لكل طاعن بالصحابة
لكن المشكلة أن بعض الكتاب والمفكرين ومعظم العوام ذهبوا إلى تلك المرويات فقبلوها وكتبوا عن تلك الاتهامات الموجهة للصحابة ونشروها وهم ليسوا من أهل الصنعة ولا الخبرة حتى يميزوا بين الروايات الصحيحة والروايات العرجاء
والأهم من ذلك أنهم غفلوا عن جلالة هذا الجيل وتعاملوا معهم كما كانوا من أرباب هذا العصر الذى نعانى منه , بينما الصحابة عاشوا فى عهد النبوة حيث كان ولا زال جيلهم بشهادة الله عز وجل ونبيه عليه السلام أفضل أهل الأرض بعد الأنبياء والرسل ,
فلا يوجد مثيلهم أبدا لا فى الزهد ولا فى الإيمان ولا فى التقوى وأمثالهم تهرب منهم الذنوب وتتنافر مع طبيعتهم , وهم وإن كانوا غير معصومين فهذا لا يعنى إطلاقا أن نتصور فى أحدهم إقدامه على ذنب عامدا متعمدا لأجل دنيا
فلما نظر هؤلاء المفكرون إلى الصحابة نظرتهم إلى أى جيل وعالجوا عصرهم كما كان عصرا عاديا من السهل أن تجد فيه أطماع الحكم وشهوات الدنيا , تسربت بناء على ذلك إلى النفوس تلك النظرة الخاطئة عن هذا الجيل الفريد
فازداد تعلق العامة بهذه الروايات وأصبح من قبيل الثقافة العامة أن تجد تلك المطاعن منتشرة بينهم , رغم أن فتن الحكم ومطالب الدنيا لم تكن تمثل فى عرف الصحابة شيئا يذكر ولا يوجد دليل أو شبهة دليل صحيح تقول بذلك
و إذا نظرنا للقرآن الكريم وتأملنا بالعقل وحده كيف انتشر فى ربوع آياته تزكية هؤلاء الأطهار لعلمنا أن الأخبار المنقولة بخلاف ذلك إنما هى من الإفك المبين , وهذا ما ينبغي لكل عاقل أن يدركه لأننا نقارن هنا بين الدليل من القرآن والدليل من مروجى الأخبار فكيف ندع الأول ونأخذ الثانى !
يقول عز وجل ,
[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر:8}
والآية قطعية الوضوح والصراحة فى أن المهاجرين جميعا هم من نصر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وشهد لهم الله تعالى الذى يعلم سرائرهم أنهم هم الصادقون فهل من الممكن أن نقبل بعد هذا بتشكيك مشكك فى عدالتهم ؟!
ويقول أيضا :
[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:100}
وهذه الآية جمعت الجيل كله المهاجرون والأنصار ومن تلاهم من بعد الفتح فأسبغ عليهم الله تعالى الإحسان وشهد لهم بأنهم أصحاب الجنة والرضوان
ويقول أيضا :
[لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:117}
وهذه الآية الكريمة تتحدث عن غزوة تبوك التى خرج فيها النبي عليه الصلاة والسلام بكل صحابته للقتال , ولم يسمح لأحد بالتخلف , فأنزل الله تعالى بحقهم هذه التوبة ومعنى هذا أنها شملت اثنى عشر ألف صحابي خرجوا مع النبي عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار ومسلمة الفتح ولم يستثن القرآن الكريم أحدا منهم قط , حتى الثلاثة من الصحابة الذين تخلفوا بلا عذر , أنزل الله توبته ومغفرته عليهم لينضموا إلى إخوانهم فقال جل شأنه
[وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] {التوبة:118}
ولم يقتصر القرآن الكريم على وصف هؤلاء الأطهار بل وصف حال من سيأتى بعدهم من أجيال وجعل الإيمان رهنا فقط بالذين اتبعوهم بإحسان فاستثنى بذلك الله عز وجل كل إنسان خاض لسانه فى هذا الجيل , حيث يقول تعالى
[وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {الحشر:10}
أى أن وظيفتنا نحن الذين تبعناهم أن نقول ربنا اغفر لنا ولهم ولا نجعل فى قلوبنا غلا لأحد منهم قط ,
وهذا هو الأمر الطبيعى البدهى لأن إيماننا ما كان له أن يتحقق لو لم يصمد هؤلاء النفر مع النبي عليه الصلاة والسلام ويحملوا أمانة الرسالة ويبذلون الدم والنفس والأهل والمال فى سبيل إعلاء كلمة الحق ,
وفى ذلك يقول الإمام علىّ رضي الله عنه مخاطبا شيعته من على منبر الكوفة كما فى نهج البلاغة
( ولقد رأيت أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم فما رأيت أحدا يشبههم منكم ولقد كانوا يصبحون شعثا غبرا ويقبضون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب المعزى ـ يعنى علامة السجود ـ )
فجاءت الأجيال بعد ذلك وتحت مختلف الأغراض تحمل هم الطعن والتشكيك فى هذا الجيل الفريد بل وفى حق أعلامهم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلىّ رضي الله عنهم , والعاقل لا يحتاج ردا على تلك الشبهات التى يثيرها المغرضون , والذين ارتضوا لأنفسهم أن يقفوا فى خندق واحد مع العلمانيين والمستشرقين أعدى أعداء الإسلام لكى يمارسوا معهم نفس الفعل فى الطعن واللعن على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام
فالعاقل لابد له أن يقرن هذه الأقوال بآيات القرآن الكريم لكى يطرح عن نفسه أى حاجة لتفنيد أى شبهة بحق أى صحابي , فليس بعد قول الله قول
بالإضافة لما هو أهم وهو أن النظر إلى هؤلاء الطاعنين ممن يدعون الإسلام يكفي وحده لاكتشاف هويتهم , لأنهم ـ كما قلنا ـ وقفوا فى خندق واحد مع أعداء الإسلام ومجرد الاتحاد فى الغرض والفعل يكفي لرفض أى قول لهم بحق أى صحابي
وما أصدق قول الإمام أبي زرعة الذى قال
( إذا رأيت الرجل يطعن فى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فاعلم أنه زنديق , ذلك أن الدين عندنا حق وإنما أداه لنا هؤلاء الصحابة والذين يطعنون فيهم أرادوا أن يجرحوا شهودنا والجرح بهم أولى وهم زنادقة )
وكعادة جميع الأفاكين يأتون بشبهات عرجاء وبأحداث ملفقة ليتمكنوا من التشكيك فى الصحابة , فيأتون لآيات القرآن الكريم التى نزلت فى المنافقين فيسقطونها على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ؟!
ومن ذلك
[وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] {التوبة:101}
والسؤال المنطقي أين وجه الدلالة فى الآية لكى يطعنوا بها على الصحابة , فنعم كان هناك منافقون بالمدينة يعلم النبي عليه السلام بعضهم والبعض الآخر لا يعلمهم
أما الذين علمهم فهم عبد الله بن سبأ وشيعته , وأما الذين لم يعلمهم فهؤلاء هم جيل المرتدين الذى منعوا الزكاة فحاربهم أبو بكر رضي الله عنه ,
ونلفت النظر إلى أننا جئنا بآيات محكمات واضحات فى تزكية المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة فلو كان بينهم استثناء لبينه الله أو بينه النبي عليه الصلاة والسلام
بينما نجد النبي عليه السلام شدد فى الوصية على مدح أصحابه سواء فرادى بأسمائهم أو بمجموعهم ومن ذلك قوله عليه السلام
( الله الله فى أصحابي ........ الحديث )
وقوله عليه السلام ( لعنة الله على من سب أصحابي )
وقوله عليه السلام ( لا يدخلن النار أحد بايع تحت الشجرة .... الحديث )
بخلاف الأحاديث المستفيضة فى مدح أعيان الصحابة مثل العشرة المبشرين زعماء الصحابة وأيضا بقيتهم مثل جليبيب وعمار والمقداد وأبو ذر وأبو هريرة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومعاوية وعشرات غيرهم
ومن الأدلة العقلية الصريحة أن الله عز وجل قال فى كتابه
[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ] {آل عمران:110}
فهذا المدح العظيم للأمة الإسلامية ورد أول ما ورد فى حق الصحابة وجيلهم الفريد , وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه مدح ثلاثة أجيال أولها جيل الصحابة وتابعيهم من بعدهم ومن بعدهم وهى القرون الثلاث الأولى خير القرون للأمة الإسلامية والتى صارت فيها كلمة الله هى العليا
فلو لم تكن هذه الزمرة هى خير أمة فمتى كنا خير أمة إذا ؟!
فإذا عجز الأفاكون أمام النصوص الصريحة الصحيحة ذهبوا سريعا إلى الروايات المكذوبة الموضوعة مستغلين جهل الناس بمصداقية الروايات وكيفية الكشف عنها وجهلهم بمنهج كتابة التاريخ الإسلامى فى المصادر الأصلية كما سنرى
منهج كتابة التاريخ الإسلامى
الجريمة الكبري التى تمت بحق التاريخ الإسلامى أن بعض المؤرخين والمثقفين المعاصرين أخذوا عن تاريخ الطبري واعتبروا مجرد ورود الروايات فيه معناها أن الطبري يعتقد صحتها وهذا غير صحيح حيث نص الطبري فى مقدمة تاريخه على أنه جمع كل الروايات التى أتت إليه وبين إسنادها ومصادرها وترك للمحققين من بعده النظر فى صحتها وتلخيصها
وهذه جريمة تتابعت على مر الزمن لأن التاريخ مثله مثل الحديث النبوى خضع للتحقيق والتصحيح والتضعيف عن طريق تفنيد ونقد المصادر الأولى
ولو أخذنا تاريخ الطبري مثالا وهو المرجع الأم الأكبر فى مجاله فإن مرويات الكذابين من الشيعة الإخباريين أحصاها الدكتور خالد كبير علال فزادت عن ثلاثة آلاف رواية باطلة سندا ومتنا وأصحابها أربعة فقط من رواة الشيعة المطعون فيهم
والمشكلة الكبري أن تلك الروايات تعالج الفترة الأكثر حساسية فى التاريخ الإسلامى وهى الفترة من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام إلى استشهاد الإمام الحسين رضي الله عنه "1"
وانتشرت تلك الروايات المغلوطة بين العامة وبين أقلام المثقفين المعاصرين باعتبارها من المسلمات التاريخية رغم أن العلماء قديما وحديثا بينوا مدى بطلانها
وما حدث فى الفتنة يمكن تلخيصه فى الآتى
أولا : أجمع المسلمون بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام على تولية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لسابقته وفضله وولايته أمر الصلاة فى حياة النبي عليه السلام عند مرضه حيث أصر النبي عليه السلام على أن يتولى أبا بكر الصلاة وقال فى ذلك حديثا شهيرا ورد بعدة طرق منها كما فى البخارى
( يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر)
وقد روى البخارى حادثة السقيفة التى نجمت عنها مبايعة الصديق بالرواية الصحيحة حيث تم الاتفاق على البيعة بلا منغصات وقبلها جميع الصحابة فيما بعد بالشورى حيث أن النبي عليه الصلاة والسلام ترك الأمر فى الحكم والخلافة شورى بين المسلمين وانتهى بذلك عصر النبوة والعصمة
وعليه فالروايات المزيفة التى تروى عن رواة الشيعة كأبي مخنف لوط بن يحيي الأزدى أن هناك خلافا وصراعا دب على السلطة كلها عبارة عن ترهات دسها هؤلاء الإخباريون ولم تثبت قطعا بأى سند صحيح , وقد لجأ المؤرخون لرواية الطبري ونقلها بعضهم وهى رواية منقولة عن الشيعي أبي مخنف لوط بن يحيي الذى أجمع المحدثون على أنه من أهل الكذب "2"
والرواية الصحيحة الواردة فى البخارى تغنى كل طالب حق عما سواها
وفضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أكبر من أن يسعها مقام الكلام , فيكفيه أنه كان ثانى إثنين إذ هما فى الغار وخصاله وفضائله التى بينها النبي عليه الصلاة والسلام لا تكاد تحصي وقد نصر الله به الإسلام أولا وآخرا , حيث شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بأنه الوحيد الذى لم يكن فى إيمانه تردد ولا تلعثم
ولقبوه الصديق يوم أن كان الذى بادر إلى تصديق النبي عليه الصلاة والسلام فى رحلة الإسراء والمعراج مع إنكار القوم لها ,
وهو الذى دعا أساطين الصحابة فيما بعد للإسلام كما نصر الله به المستضعفين حيث بذل ماله كله فى سبيل الله وفى ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام
( ما نفعنى مال مثلما نفعنى مال أبي بكر )
وعندما تولى الخلافة وبدأت أحداث الردة وارتجفت الأرض نارا من حول المسلمين ما بين ردة القبائل داخل الجزيرة وبين طمع الروم فى حرب المسلمين أيضا
ولكن كان هناك أبو بكر ,
صاحب العزيمة التى لا تلين والثقة التى لا تنضب فحارب المرتدين فى نفس الوقت الذى نفذ فيه أمر النبي عليه الصلاة والسلام فى إنفاذ جيش أسامة بن زيد إلى حدود الروم وردعهم , رغم ما يعنيه هذا من خطورة عندما تبقي المدينة بلا جيش فى مواجهة المتربصين , وقال فى ذلك كلمة تكتب بماء الذهب
( والله لو لعبت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين فى المدينة ما تركت أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام )
ثم شكل القيادات والسرايا والبعوث وأخمد نار الفتنة فى الجزيرة ولم يتوان بعدها أو يستريح بل شكل الجيوش الإسلامية لفتح فارس والشام , فكانت البداية التى تواتر عقدها بعد ذلك فى عهد الفاروق
وتوفي رضي الله عنه ودفن إلى جوار النبي عليه الصلاة والسلام طاهرا مطهرا , وقد لعبت الروايات الشيعية دورا فى محاولة تشويه صورته بأسلوب ساذج فأثاروا الشبهات حوله وتكفل العلماء بالرد عليها تفصيلا "3"
ثانيا :
قبيل وفاة أبي بكر رضي الله عنه أوصي بعد استشارة أصحابه على تولية عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة للمسلمين فناقشه فى ذلك بعض الصحابة لما يعرفون من شدة عمر فى الحق فأقنعهم أبو بكر بأنه يترك عليهم خير خلق الله فى زمانه كما هو فى رواية بن سعد فى الطبقات الكبرى "4"
وخرج كتاب البيعة لعمر مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وقرأه على الناس وهم جميعا حاضرون فقبلوه وتولى الفاروق أمر الأمة فكانت أزهى عصور الخلافة
حيث سقطت فى عهده دولتى فارس والروم معا وكانت الجيوش الإسلامية تحارب على الجبهتين معا , فسقطت فارس فى يد كبار مجاهدى الجبهة مثل المثنى بن حارثة وخالد بن الوليد قبل انتقاله لجبهة الشام وأيضا سعد بن أبي وقاص قائد جبهة الفرس فى موقعة القادسية ونهاوند
وسقطت الروم وافتتح بيت المقدس على يد مجموع الجيوش الإسلامية فى الشام بقيادة خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص وزياد بن أبي سفيان ومعاوية شقيقه
أما فى العدل فحدث ولا حرج حيث لا زالت سيرة عمر بن الخطاب تمس الأفق فى عدله وورعه , بل تجاوزت سمعته فى العدل والإنصاف حدود دولة الإسلام إلى الغرب حيث أنصفه الأوربيون فوضعوه ضمن أعظم مائة شخصية فى الإسلام "5"
وفى التنظيم الإدارى قدم للخلافة الدواويين وأنشأ عدة أنظمة إدارية للعطاء والخراج فحقق فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام فى الحديث الصحيح
( لم أر عبقريا يفري فريه )
وفضائله ومآثره كثيرة جدا وكلها تشي بفرط عدله وحياديته فى الحكم وتبجيله وتوقيره للصحابة رضي الله عنهم ,
ولا ننسي أن نشير إلى رواية غير صحيحة تداولتها كتب التاريخ قديما وحديثا وهى رواية لا تثبت , وهى قصة إسلام عمر بن الخطاب حيث تقول القصة الشهيرة أنه أتى يريد قتل النبي عليه السلام فى دار بن الأرقم فسمع أن أخته فاطمة بنت الخطاب أسلمت وزوجها فحول وجهته إلى بيتها وضربها على وجهها فلما سال الدم رق لها وطلب منها أن يري صحيفة القرآن , وعندما رآها وقرأ ما فيها دخل فى الإسلام
هذه الرواية لا تصح ولم تثبت سندا رغم شهرتها الواسعة لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فى بطحاء مكة عند الكعبة على يد النبي عليه الصلاة والسلام بعد حوار قصير بينهما
ونلفت النظر هنا إلى نقطة هامة للغاية وهى أن الشيعة استغلت هذه الرواية الشهيرة عن ضرب عمر لفاطمة شقيقته لكى تسقط الرواية على فاطمة الزهراء رضي الله عنها فاخترعوا أسطورة أن عمر ضرب الباب على فاطمة رضي الله عنها وكسر ضلعها وذلك لإجبار على بن أبي طالب على البيعة لأبي بكر
وكأن عمر وأبا بكر وغيرهما من الصحابة أعضاء فى حكومة ثورية كالتى يشهدها عالمنا المعاصر !
ونحن لا نحتاج قطعا إلى أن نثبت زيف هذه الأسطورة التى تمثل عارا على جبين الرافضة إلى اليوم حيث أنها أظهرت علىّ رضي الله عنه بصورة العاجز عن الدفاع عن زوجته أمام اعتداء مباشر , !
ومن الملاحظ أن عددا من مراجع الشيعة اليوم مثل محمد حسين فضل الله المرجع الشيعي اللبنانى شعروا بخزى هذه الرواية التى ينشرونها بين عوامهم لمجرد تشويه صورة عمر رضي الله عنه بما لا يقبله العقل ولا يقره النقل فأنكروها إنكارا شديدا
وكما قلنا سابقا أن الحقد الشيعي على عمر متأجج بشكل فادح بسبب دوره فى إسقاط فارس ولهذا لعب الفرس الذين تستروا بالتشيع لعبتهم فى اختلاق هذه الروايات التى تناسب طبيعتهم ومجتمعهم ولكنها تتنافي حتى مع أخلاق العرب فى الجاهلية فضلا عن الإسلام
ثالثا :
بعد اغتيال عمر بن الخطاب واستشهاده رضي الله عنه بيد أبي لؤلؤة المجوسي الفارسي لعنه الله , أوصي قبيل موته بأن يكون الأمر شورى فى الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة , يتداولوا الأمر ويرتضون الخليفة الثالث فيما بينهم
ومن فرط عدله رضي الله أبي أن يدخل فى الشورى صهره سعيد بن زيد رغم أنه من العشرة وذلك تلافيا للمجاملة التى قد تكون نظرا للقرابة بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فتخيلوا أى حيادية وأى عدل كان يمثله الفاروق رضي الله عنه , فرغم أن سعيد بن زيد من العشرة وفضله معروف ويحق له الدخول فى الشورى والاختيار إلا أن مجرد قرابته من عمر وشكه أن الناس قد تجامله لذلك قام باستبعاده على الفور
ومن الإشاعات المغرضة التى روجتها الروايات الباطلة أنه أمر بقتل أصحاب الشورى إذا لم يتفقوا وهذا مما يدل على الغباء فى التزوير قبل أن يدل على خبث الطوية , فكيف يجرؤ عمر رضي الله عنه على هذا الأمر بحق كبراء الصحابة , وما هو هدفه من ذلك وهو على فراش الموت
والرواية الصحيحة الثابتة أنه اختار أهل الشورى وأمرهم أن يجمعوا أمرهم بينهم على خليفة قبل مضي ثلاثة أيام درء للفتنة
وكان أصحاب الشورى ستة هم عثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف , وفى أول اجتماع تنازل عبد الرحمن بن عوف وفضل أن يكون حياديا دون تزكية أحد , فارتضي به الخمسة حكما بينهم
وتنازل طلحة والزبير وسعد لصالح الصحابيين الجليلين عثمان وعلىّ وبقي الخيار بينهما , فقام عبد الرحمن بن عوف بأوسع استفتاء شهدته الخلافة التى ما رأت من قبل انتخاب خليفة على مستوى القاعدة الشعبية بأكملها قبل ذلك , لأن الخلافة كانت تتم بالتشاور بين أهل الحل والعقد فى المدينة ثم تطرح هذه الزمرة الفاضلة ــ التى كانت تشكل مجلسا أشبه بالمجلس التشريعي ـ اسم الخليفة وتعلنه بين العامة فى المدينة وباقي الأمصار فيتولى الخلافة
أما فى أمر أصحاب الشورى فقد جاب عبد الرحمن بن عوف بيوت أهل المدينة جميعا لثلاثة أيام يستفتى الناس ويري اختيارهم فاختاروا عثمان بن عفان رضي الله عنه إجماعا , فكانت بيعته البيعة الأولى من نوعها فى شعبيتها وذلك لأنه ما من أحد اختلف على تقديمه لسابق فضله
وبايع الإمام علىّ مع المبايعين ولا إشكال وعمل كعادته وزيرا مع الخليفة الراشد عثمان كما كان من قبل وزيرا لأبي بكر وعمر وأصبح من المتعارف عليه بين الصحابة والمجتمع الإسلامى أن العشرة المبشرين هم أسياد الصحابة وأفضلهم الأربعة الأوائل بالترتيب ثم يتساوى الستة الباقون ثم يتبعهم فى الفضل أصحاب بدر ثم أصحاب أحد ثم بقية المشاهد ثم يتساوى الميزان مع سائر الصحابة , وفى هذا المعنى قال عبد الله بن مسعود فى رواية السيوطى بتاريخ الخلفاء
(كنا نفضل الناس بأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علىّ ثم سائر العشرة ثم أهل المشاهد ثم نترك الناس لا نفاضل بينهم)
وكانت سنوات خلافة عثمان امتدادا للعظمة الراشدة التى أقرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاستمرت الفتوحات شرقا وغربا واتسعت إلى مدى هائل شمل سائر إفريقية وبلغ خراسان
وتوسعت المعيشة وازداد الرغد بسبب تدفق الغنائم , ومضت السنوات على عهد النبي عليه الصلاة والسلام واتسعت دائرة المسلمين فشملت أقواما من العجم فيهم ما فيهم سواء من النفاق أو الصلاح
وافتعل عبد الله بن سبأ وبعض أقرانه من الفرس فتنة عمياء فى مصر والعراق تهتف ضد الخليفة الراشد وتدعو للثورة عليه وخلعه فى مفاهيم كانت جديدة على العالم الإسلامى الذى كان لا يزال يعيش مشكاة النبوة ,
ومارس رواة الشيعة دورهم المعتاد فألفوا عشرات الروايات عن مطاعن تمس عثمان رضي الله عنه وتروى الفتنة بوجهة نظر لم تكن واقعا ملموسا وأثبت المحدثون وعلماء الأخبار كذبها جميعا "6"
ولم تكن الثورة على عثمان ثورة كما صورها هؤلاء المؤرخون بل كانت شغبا قادته شراذم تعد بالعشرات وتتبعها طبقات من الجهلاء والعوام اجتمعوا فى المدينة المنورة وتجمعوا حول دار الخليفة مطالبين بعزله
هنا ثار الصحابة إلى السلاح لتطهير المدينة من تلك العصابات والدفاع عن الخليفة لا سيما وأن شيئا مما عابه الثوار على عثمان لم يكن أثر واقع , ثم تطورت الأمور بعد رحيلهم واستجابتهم لتهديد الصحابة ليعودوا مرة أخرى إلى المدينة زاعمين أن عثمان أرسل لعامله على مصر عبد الله بن سعد بأن يقتل هؤلاء الثوار وأبرزوا كتابا مفترى على عثمان لا أصل له
واتضحت أبعاد المؤامرة عندما سألهم الإمام على بن أبي طالب كيف اجتمعتم مرة أخرى وقد ذهب أهل العراق باتجاه العراق وذهب أهل مصر باتجاه مصر , كيف عرف أهل العراق بحكاية الكتاب حتى يعودوا فى نفس التوقيت مع أهل مصر ؟!
وكان واضحا للجميع أن الأمر مدبرا بليل فلبس الإمام علىّ سلاحه وطلب من عثمان أن يمنحه الإذن بالقتال فأبي عثمان بإصرار شديد تورعا من تبعات الدماء وراجعه جميع الصحابة فأصر على الرفض
ثم طلب عثمان من أولاد الصحابة الذين يبيتون حوله يحرسونه أن يخرجوا إلى منازلهم وأقسم عليهم بطاعته , فاستغل الثوار الفرصة ووثبت شرذمة منهم إلى دار الخليفة فقتلوه وهو يقرأ فى المصحف
وكانت حادثة الاغتيال غير متصورة فى عقول سائر أهل المدينة لكونهم لم يفكروا فى أن الأمر سيصل بهؤلاء إلى مثل تلك الجريمة لكن ما لم يحسبه الصحابة أن قادة الفتنة كانوا قد انتظموا وصارت لهم أتباع بالآلاف وكلهم من الغوغاء
واهتزت المدينة للحادث الجلل وكاد زمام الأمور يفلت لولا أن استجاب الإمام علىّ للبيعة فخرج للمسجد وبايعه الناس وأولهم الصحابة .,
أما الإفك المبين فكان متمثلا فى عدة روايات اختلقها الرواة الشيعة وكلها مطعون فيها بلا جدال , ومنها على سبيل المثال
* أن الصحابة رضي الله عنهم من ثاروا على عثمان لإنكارهم عليه بعض تصرفاته , وهذا من الكذب بلا جدال فلم يكن بين المشاغبين صحابي واحد ولا حتى عامى من أهل المدينة , ومن أكبر الإفك أن من روجوا هذه الشائعة جعلوا سبب ثورة الصحابة أن عثمان رضي الله عنه ساوى بين الصحابة فى العطاء وكان عمر رضي الله عنه قد فرق فى العطاء بين الصحابة القدماء وبين الذين أسلموا بعد الفتح ,
وهذا المطعن يسقط بمجرد النظر إليه لأنه يتنافي وأخلاق الصحابة فى ذلك العهد وهوان شأن الدنيا عليهم إلى الحد الذى جعلهم يبذلون ما يأتى إليهم من أموال فى سبيل الله ولا يحتفظون لأنفسهم بشيئ ! فكيف يثور أمثال هؤلاء على المال ,
هذا بالإضافة لخلو كتب التاريخ الموثقة من أى ذكر صحيح لو برواية واحدة تشير إلى اشتراك الصحابة فى هذا الأمر بل الروايات تجزم بأن من وقف للفتنة دفاعا عن عثمان هم الصحابة أنفسهم وعلى رأسهم على وطلحة والزبير وبن عمر وغيرهما "7"
والفتنة كانت سببها المؤامرات التى قادتها تلك الشراذم بعد أن انتشرت أموال الفتوحات وعاش الناس فى رغد , فاستغل مروجوا الفتنة غوغاء العوام فى تأليبهم على الخليفة تطبيقا للنظرية الواقعية وهى أن انتشار المال يكون سببا فى البطر وعدم الرضا , "8"
وقد روى عن عروة بن الزبير قال :
( أدركت زمن عثمان وما من نفس مسلمة إلا ولها حق فى مال الله ) "9"
* ومن المطاعن الساذجة أيضا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ضعيف الشخصية , وهذا قول استغل المرجون له ما اشتهر عن حياء عثمان رضي الله عنه ولم يفرق هؤلاء بين خلق الحياء وبين الضعف ,
والثابت من قراءة تاريخ خلافة عثمان رضي الله عنه أنه كان لا يقل حزما وقدرة عن عمر بن الخطاب وأول مظاهر حزمه نجاحه فى الوقوف أمام انقلاب الروم والفرس على الولايات التى فتحها المسلمون , فثارت بعض ولايات العراق وكذلك عاد الروم مرة أخرى لمصر بعد أن أخرجهم عمرو بن العاص وتعرضت الخلافة لهزة مشابهة لتلك التى حدثت فى عهد أبي بكر
فقام عثمان رضي الله عنه بتجهيز الجيوش ووجهها لنقاط التمرد وقضي عليها جميعا وأحكم قبضة الخلافة على أراضيها ,
ولم يكتف بذلك بل قام بإنشاء أول أسطول بحري للمسلمين رغم أنهم كعرب كانوا منعدمى الخبر فى قتال البحر وعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالرغم من قوة قلبه لم يتخذ قرار تكوين أسطول بحري للمسلمين وغزو الروم من الحر لخوفه من هلاك الجيوش أمام خبرة الروم
فجاء عثمان وبشجاعة القائد كون الأسطول ووجهه إلى المعركة الشهيرة ( ذات الصوارى ) وكان انتصار المسلمين ساحقا بكل المقاييس
كما أنه كان حازما فى حسابه للولاة والعمال على عكس ما نشره الأفاكون فقد بلغه أن الوليد بن عقبة وهو أحد ولاته شرب الخمر وجاء للشهادة شاهدين فعزله عثمان على الفور وأقام عليه الحد بلا تردد رغم أنه من أقربائه إلا أنه لم يحابيه فى دين الله ,
بالرغم من أن تهمة شربه للخمر لم تثبت أصلا بشاهدين عدل لأن الشاهدين كانا من المطعون فيهما من أهل الكوفة كما بين ذلك القاضي أبو بكر بن العربي فى كتابه الهام ( العواصم من القواصم ) "10"
* ومن أشهر ما اشتهر عن عثمان رضي الله عنه هو موضوع توليته لأقاربه , ورددته الألسنة بغير تحقيق للأمر , فإذا نظرنا إلى أقارب عثمان رضي الله عنه فهم
معاوية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والوليد بن عقبة وسعيد بن زيد وعبد الله بن عامر
أما بقية ولاة عثمان فهم من باقي الصحابة وبلغ عددهم 17 واليا , بينما أقاربه خمسة ,
فكيف يمكن أن نعمم الإتهام عليه رضي الله عنه ومن تولى من أقاربه خمسة فى مقابل 17 واليا من غيرهم
وحتى هؤلاء الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه لم يحابيهم لأنه ببساطة وضعهم فى نفس الأماكن التى وضع فيها النبي عليه الصلاة والسلام وعمر وأبو بكر رضي الله عنهما أمثالهم من بنى أمية لأنهم أهل عزة وكرم وشرف وسؤدد ولم يتول منهم أحد الإمارة إلا أدى حقها
, فلم يبتدع شيئا جديدا وهؤلاء كانوا أكفاء للولاية وسبقه إلى ذلك من سبقه للحكم
هذا فضلا على أن هؤلاء الخمسة لم يولهم عثمان فى وقت واحد بل ولاهم على مراحل وعزل منهم الوليد بن عقبة كما تقدم وعندما توفي عثمان لم يتبق من أقاربه أحد فى سدة الإمارة إلا ثلاثة فقط وهم معاوية وعبد الله بن سعد وعبد الله بن عامر
والثلاثة قاموا بواجب الإمارة على أحق ما يكون , فمعاوية رضي الله استقر له أمر الشام رغم مجاورته للروم وعبد الله بن سعد هو الذى فتح إفريقية
بالإضافة لما هو أهم وهو أن على بن أبي طالب ولى أقاربه أيضا لأنهم استحقوا التولية , ولم يكن بين ولاة على رضي الله عنه من هو أفضل من ولاة عثمان إلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
وكما سبق أن بينا أن هذا الجيل لم تكن فيهم المحاباة والدليل على ذلك ما فعله عثمان مع الوليد بن عقبة رغم أنه من أقاربه
أما فضل عثمان بن عفان ففيه من السيرة العطرة ما يشرف أى أمة تنتسب إليها مثل الشخصية الفريدة ,
فيكفيه شرفا قول النبي عليه الصلاة والسلام أن عثمان تستحي منه الملائكة كما ثبت فى الصحيح , ويكفيه أنه كان زوج ابنتى النبي عليه الصلاة والسلام رقية وأم كلثوم وهذا نقطة تشير إلى مكانته الفريدة حتى يرتضيه النبي عليه السلام زوجا لبنتين من بناته
وأعز الله به الإسلام سواء فى بداية الدعوة أو فى المدينة أو بعد خلافته , ففي خلافته أشرقت البلاد بالرغد وانتشر الإسلام إلى مزيد من أقطار الأرض , وقبل الخلافة كان مناصرا للنبي عليه السلام بنفسه وماله وكان هو الذى اشتري للمسلمين بئر رؤمة التى كانت ملكا ليهودى بالمدينة استخدمها للضغط على المسلمين وابتزازهم فاشتري عثمان منه نصف البئر ثم اشتراه كاملة بعد ذلك ووهبها للمسلمين بلا أجر
وفى أحد أعوام المجاعة بالمدينة أقبلت إحدى قوافله التجارية للمدينة تسد البصر , فهرع إليه التجار من كل ناحية يرغبون فى شراء بضائعه فأبي بيعها ووزعها كاملة فى سبيل الله وأعلن أنه لا يتاجر فى القوت والناس على جوع وفاقة ,
وفى غزوة العسرة تلك الغزوة الشريفة التى قال الله عنها فى كتابه
[لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:117}
لما حفلت به تلك الغزوة من مشقة فى التجهيز , فجاء عثمان رضي الله عنه فجهز جيش العسرة كله من خالص ماله وانبهر به النبي عليه الصلاة والسلام فقال
( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم )
كما شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة وبشره بها على بلوى تصيبه وهى الفتنة , وبسبب هذه البشارة وهذا العهد امتنع عثمان رضي الله عنه من فض الثوار والغوغاء بالقوة وأمر أصحابه بترك السلاح وفدى الأمة بنفسه رضي الله عنه ولم يقبل أن يقتل بسببه صحابي واحد فى الدفاع عنه
رابعا :
تولى الإمام علىّ فى ظل ظروف الفتنة القائمة وكان أهم ما يشغله أن يطهر المدينة من الشراذم التى شاركت فى القتل ثم يبدأ فى البحث والتحقيق عن قتلته للقصاص , لا سيما أن الفاعلين كانوا مجهولين بأعيانهم وكل ما عرفه الإمام علىّ أنهم شراذم من البصرة والكوفة ولكن الرأس المدبر لم يكن واضحا
وأرسل الإمام علىّ بولاته للأمصار راجيا أن تستتب الأمور أولا قبل الشروع فى تحقيق القصاص
ولكن طلحة والزبير طالباه بسرعة القصاص خوفا من أن يتكرر انفلات الأمور ويفلت الجناة بفعلهم أو يحتموا بقبائلهم كما حدث فعلا بعد ذلك .
فرفض الإمام علىّ التعجل لا سيما وأنه كان يفتقد القوة العسكرية اللازمة لتطهير المدينة , فاستأذن طلحة والزبير رضي الله عنهما للخروج إلى مكة وخرجا فعلا وهما ينويان تشكيل جيش يأخذون به القصاص من الذين فروا بفعلتهم إلى الكوفة والبصرة وهناك التقوا مع أم المؤمنين عائشة التى وافقتهم الرأى على ضرورة الأخذ بثأر الخليفة الشهيد بعد أن تزلزل كيانهم من الفعل الشنيع , وبعد أن زج المنافقون بأسماء الصحابة فى مؤامرة تشويه الخليفة الراشد فزوروا خطابات بأسماء على وطلحة والزبير وعائشة تدعو الناس إلى قتال عثمان ,
وهذا مما زاد من غضب الصحابة رضي الله عنهم
وخرج جيش طلحة والزبير والسيدة عائشة إلى العراق بهدف إدراك حق عثمان من الذين فروا ولم ينتبهوا إلى أن رءوس الفتنة لا زالوا مندسين بالمدينة وفى قلب الجيش الذى شرع الإمام علىّ فى تشكيله
ووردت أنباء جيش طلحة والزبير للإمام علىّ فشد الرحال إلى العراق ليري الأمر وأدركهم هناك بعد أن خاضوا جولة أو جولتين وتفهم الطرفان الموقف واتفقا على اتحاد الجيشين والعمل تحت قيادة واحدة
ومن أعظم الإفك ما رددته الروايات المألوفة من أصحاب الفتن من أن جيش أم المؤمنين خرج بنية الخروج على الإمام علىّ ونقض بيعته , وكيف يكون ذلك وقد خرج الجيش إلى العراق أساسا , بينما الإمام على فى المدينة !
وبالإضافة لتلك الروايات زاد الرواة إشاعة شهيرة وهى أن طلحة والزبير شهدا شهادة زور أمام أم المؤمنين عند ماء الحوأب وهذا من الإفك المبين الذى لا أصل له فى نقل ولا عقل " "
ونعود للقصة الحقيقية حيث التقت أطراف التفاوض لتسوية الأمر وهو ما تم فعلا
وكما يقول بن كثير (بات المؤمنون بخير ليلة وبات المنافقون بشر ليلة ) "11"
فعندما بلغت أنباء التفاهم بين الطرفين آذان عبد الله بن سبأ وزمرته أدركوا على الفور أن هذا التصالح سيمنح الفرصة للإمام علىّ فى كشف الأمر واستخراج القتلة من جيشه بسهولة بعد استقرار الأمور
فما ضيعوا وقتا , وعملت كتيبة منهم على اقتحام جيش طلحة والزبير ليلا وهم نيام وأعملوا فيهم طعنا وقتلا ونادوا بأن جيش علىّ غدر بهم وفى جيش الإمام علىّ فى نفس التوقيت فعلت كتيبة أخرى المثل واشتعلت المعركة على حين غرة
وهذه كل الروايات المثبتة فى شأن وقعة الجمل من كتب التاريخ المحققة
* يقول الباقلاني ( التمهيد فى الرد على الملحدة ـ 223)
وقال جلة من أهل العلم إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة على الحرب بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لأن الأمر كان قد انتظم بينهم وتم الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم والإحاطة بهم ، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت أراؤهم على أن يفترقوا ويبدؤوا بالحرب سحرة في العسكرين ،
ويختلطوا ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير، ويصيح الفريق الآخر الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي، فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق منهم مدافعاً لمكروه عن نفسه، ومانعاً من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى إذا وقع، والامتناع منهم على هذا السبيل، فهذا هو الصحيح المشهور، وإليه نميل وبه نقول
* يقول ابن العربي فى ( العواصم من القواصم ص159 )
وقدم علي البصرة وتدانوا ليتراؤوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء، وبادروا بإراقة الدماء، واشتجر بينهم الحرب، وكثرت الغوغاء على البغواء، كل ذلك حتى لايقع برهان، ولا تقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان، وإن واحداً في الجيش يفسد تدبيره فكيف بألف
* يقول ابن حزم (الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/238-239 )
وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة - رضي الله عنهم - ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها... فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ... وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير، وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم فرُدِعُوا حتى خالطوا عسكر علي، فدفع أهله عن أنفسهم، وكل طائفة تظن ولا تشك أن الأخرى بدأتها بالقتال، فاختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه، والفسقة من قتلة عثمان، لعنهم الله لا يفترون من شب الحرب وإضرامها
*: ويقول ابن كثير (البداية والنهاية 7/5.)
واصفاً الليلة التي اصطلح فيها الفريقان من الصحابة: وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون، وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس
*: ويقول ابن أبي العز الحنفي ـ شرح العقيدة الطحاوية( ص723)
فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة والزبير، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين
أما القول في أنها خرجت من بيتها،وقد أمرها الله بالاستقرار فيه في قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولـى }
فالرد عليه:
أن عائشة -رضي الله عنها- إنما خرجت للصلح بين المسلمين، ولجمع كلمتهم، ولما كانت ترجو من أن يرفع الله بها الخلاف بين المسلمين لمكانتها عندهم، ولم يكن هذا رأيها وحدها ،بل كان رأي بعض من كان حولها من الصحابة الذين أشاروا عليها بذلــك
يقول ابن العربي :
( وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت للخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله:
( لاخير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)
وبقوله تعالى
( وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فأصلحوا بينهما )
هذا والآية نفسها ترد على من اتهم أحد الطرفين بالخروج عن الإسلام أو الفسق حيث أن نص الآية يقول
( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الحجرات:9[
أى أن القتال بين طوائف المسلمين لا ينفي عنهما الإيمان فضلا عن الإسلام وهذا أمر منطقي فى حالة اقتتال طائفتين تحسب كل منهما باجتهاد المخلص أنها على الحق
وقد صرحت عائشة نفسها بأن هذا هو سبب خروجها، كما ثبت ذلك عنها في أكثر من مناسبة وفي غير ما رواية.
فروى الطبري أن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه -
( وهو والي البصرة من قبل علي بن أبي طالب أرسل إلى عائشة -رضي الله عنها- عند قدومها البصرة من يسألها عن سبب قدومها، فقالت: ( والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يغطّي لبنيه الخبر، إن الغوغاء من أهل الأمصار، ونزاع القبائل، غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين، ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأت:
{لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}
فنهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ونحضكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغيــــيره ) ـ انتهت الرواية ــ
وهكذا ومن خلال اتفاق أهل التحقيق نفهم أن القتال شجر على غير إرادة الطرفين فيه
وعبثا حاول علىّ وطلحة والزبير تدارك الأمور فلم يفلحوا حتى انتهت المعركة بسقوط عشرات القتلى بين الفريقين وسيطر الإمام علىّ على الأمور بصعوبة وقام بتأمين أم المؤمنين عائشة وردها سالمة إلى المدينة المنورة ثم التفت إلى جيشه واتخذ الكوفة عاصمة له فى أكبر خطأ ارتكبه الإمام وندم عليه فيما بعد
لم يكن جيشه يحوى من الصحابة الكثير بل كانت الغالبية العظمى منه من أهل الكوفة وفيهم من شارك بنفسه فى قتل عثمان رضي الله عنه وهؤلاء مثلوا صداعا فى رأس الإمام علىّ لكونهم أهل نفاق فضلا على أن رءوس الفتنة بينهم تقوم بواجبها على أكمل وجه فعاش الإمام علىّ بينهم أسوأ سنوات عمره
وقد تشوهت وقائع معركة الجمل وحملت اتهامات عديدة لأم المؤمنين وطلحة والزبير ولها من روايات الشيعة الباطلة
وثبتت أقوال الإمام على بحق الكوفة وأهلها وسبه لهم لعصيانهم له وخذلانهم لأمره وهم يزعمون أنهم شيعته وأحبابه
فى تلك الفترة بالذات بدأت جذور فكرة التشيع الفارسي العقدى حيث أعلن بن سبأ أن الإمام علىّ كانت له الخلافة حصرا بعد النبي عليه الصلاة والسلام وأنه وصيه كما كان يوشع بن نون وصي موسي عليه السلام
كما كان بن سبأ أول من أظهر السب والطعن بحق أبي بكر وعمر ونشره بين أهل الكوفة
فبلغ هذا الكلام مسامع الإمام علىّ فصعد المنبر وهو يقبض على لحيته ودموعه تسيل على خديه وتبللها وقال خطبته الشهيرة التى بدايتها
( ما بال أقوام تتناول حبيبا رسول الله عليه وسلم وصاحباه ورجلى الإسلام )
كما ثبت عنه من ثمانين وجها أنه قال على المنبر
( من يفضلنى على الشيخين جلدته حد المفترى )
وهم بقتل عبد الله بن سبأ لولا أن أقنعه بعض أصحابه أنه من قال ذلك عن طيش فتركه , فذهب هذا الملعون ينشر أول أقوال عقيدة التشيع وهى عقيدة الإمامة والوصاية بالوراثة على الدين وأن الأئمة محددين نصا وأنهم معصومون إلى غير ذلك من الأفكار التى وجدت فى البيئة الفارسية مرتعا كبيرا
ثم دخل الإمام علىّ فى أمر معاوية رضي الله عنهما , وهى المسألة التى حظيت بأكبر قدر من التشويه على مدى التاريخ الإسلامى حيث حفلت بالأكاذيب التى حققها المحدثون وبينوها
وأصل الخلاف بينهم لم يكن على الخلافة من قريب أو بعيد ولم يجرؤ معاوية طيلة حياة الإمام علىّ أن يطلب لنفسه الخلافة بل وضع شرط القصاص أمام قبوله بيعة الإمام علىّ
ورفض الإمام على هذا الشرط وأصر على أن يبايعه أولا ثم يطلب القصاص باعتباره ولى دم عثمان , وكانت وجهة نظر واجتهاد الإمام على هى الصواب وكان معاوية أيضا مجتهدا فيما ذهب إليه وإن لم يكن الحق معه كما كان مع علىّ
والقتال بينهما احتوته الآية الكريمة
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ {الحجرات:9}
فليس معنى وقوع القتال بين جبهتين أن أحدهما فاسق أو كافر بل جعل اله الوصف للفرقتين هو وصف المؤمنين والبغي المذكور فى الآية لا يعنى التكفير من قريب أو بعيد
يدل على ذلك أيضا ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام عن الإمام الحسن الذى صالح معاوية فيما بعد فبشر النبي عليه السلام بذلك وقال :
( إن ابنى هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)
وقال النبي عليه الصلاة والسلام عن الفئتين أيضا
( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق )
والفرقة المارقة المقصودة هى الخوارج الذين خرجوا على الإمام علىّ فى حرب صفين فقاتلهم علىّ فى معركة النهراون وهزمهم والنبي عليه الصلاة قال أن الذى يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق
معنى هذا أن كلا الطائفتين على ومعاوية كان يجتهدان لبلوغ الحق لا الحكم والدنيا وأن اجتهادهما مأجور والأقرب للصواب هو جانب الإمام علىّ
فأول التزوير والتلفيق
كان فى اتهام معاوية أنه سعي للحكم وهو ما يثبت من أى وجه وفى أى رواية أنه سمى نفسه أميرا فى مواجهة على بن أبي طالب بل ثبت العكس وهو إقراره بفضله ولكنه طلب دماء عثمان أولا
وثانى أوجه التزوير
تمثل فى أن رواة الشيعة أوضحوا أن الطرفين كانا يلعنان بعضهما وهو كذب وزور مفضوح حيث رفض الإمام علىّ سب الخوارج أنفسهم رغم ظهور فسقهم فكيف بأهل الشام , وكان يراهم متأولين وينهى أصحابه وجيشه عن سبهم وكان يقول ( قولوا اللهم أصلح ذات بيننا وبينه )
وثالثة الأسافي فى التزوير
هى انتشار قصة التحكيم المكذوبة الشهيرة التى تداولتها الألسن وهى من رواية لوط بن يحيي الكذاب المشهور وتحمل طعنا فى معاوية وأبي موسي الأشعري وعمرو بن العاص وما جرى منها فى الواقع شيئا
فقد نادى معاوية فريق علىّ بالاحتكام لكتاب الله فقبل علىّ على الفور ولم يجادل كما صورته كتب الشيعة وأرسل لهم أبا موسي ومعه عبد الله بن عباس وتقابل عن جبهة الشام معهم عمرو بن العاص ولم يستغرق النقاش طويلا حتى اتفق الطرفان عمرو وأبو موسي على أن يكون أمر قتلة عثمان ـ لا أمر الخلافة ـ فى يد جبهة مستقلة من الصحابة الذين لم يشاركوا فى القتال
وهذه هى الرواية الصحيحة التى رواها الدارقطنى ونقلها عنه القاضي أبو بكر بن العربي فى (العواصم من القواصم ) وبين مدى الافتراء فى الرواية الباطلة للتحكيم والتى قالوا فيها أن عمرو خد