تشهد الساحة الدينية (الإسلامية) في الآونة الأخيرة، الكثير من الفتن المشتعلة بين الشيعة والسنة، فهناك من كلتا الطائفتين من يشعلها ومن يطفيها، فبعضهم لا هم له إلا أن يثير بعض القضايا الشائكة التي تؤدي إلى المزيد من شحن الناس وتعبئتهم واستفزاز عواطفهم ضد المذهب الآخر، لإثبات بأنه مذهب باطل وضال و... لا ينجي من العذاب في الدار الآخرة.
وفي المقابل هناك من يحاول أن يعالج مثل هذه الأخطاء التي يمارسها بعض المتعصبين من الطائفتين (الشيعة والسنة)، وذلك بإعلان البراءة منها باعتبارها آراء ومواقف شخصية لا تتبناها الطائفة التي ينتسب إليها.
بمثل هذا المشهد المتكرر بين الفينة والأخرى تنشغل الساحة الإسلامية في أمور نحن في غنى عنها، فلو لم يثيرها بعض السفهاء لما كان للكلام فيها أي معنى، ولكن للأسف بأن أعداد هؤلاء السفهاء وتأثيراتهم في ازدياد مستمر، فنحن نسمع عامة الناس في مجتمعاتنا وهي تطرب لمثل هذه الأحاديث، حيث يتداولونها بسرعة كالبرق، وهم في غاية السعادة والسرور، لأن كل طرف يرى بأن أطروحات مذهبه هي الأطروحات المفحمة للمذهب الآخر، دون أن يكون واعياً في الكثير من الأحيان لما تحمله هذه الأطروحات، فكل مشغول بتمجيد مذهبه ورموزه سواءً فهم ما يقولون أم لا !
ولهذا نرى من يؤيد ويشجع رموز مذهبه بكل حماسة، لأنه يعتقد بأنهم مع الحق الذي يجهله أو يتعصب ضده الآخرون المخالفين لهم وله، ولكن هو لا يستشعر بأن الآخرون أيضاً يرون فيه كالذي يراه هو فيهم، وكما يقول عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي : "فنحن حين نتهم المخالف لنا بالتعصب أو العناد أو الجهل لا ندري أنه هو نفسه يتهمنا بمثل ما اتهمناه به. وهذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم إذ قال: ((كل حزب بما لديهم فرحون))"[1]. فهذا الأمر موجود في الاختلافات التي بين الشيعة والسنة كما هو موجود في غيرها من الاختلافات الأخرى.
فكل فرح بما لديه كما تعبر الآية المباركة، ولهذا فهو سيدعم من يوافقه ويتبع نفس منهجه، ولن يرضى عن من يخالفه حتى يتبع ملته أو مذهبه أو طريقته ... قال تعالى: ((أو المذاهب أو التيارات الفكرية، فلن يرضى بعضهم عن البعض الآخر (المخالف لهم) حتى يتبعوا نفس طريقتهم أو ... وهذا ما بدا واضحاً في الآونة الأخيرة بين السنة والشيعة، إذ أن السنة لن ترضى عن الشيعة حتى يتبعوا مذهبهم وكذلك العكس، وأني أحسب هذه قاعدة كونية لدى كل البشر -إلا ما رحم ربي- وليست خاصة باليهود والنصارى.
وإذا كان كذلك، فما الفائدة من إثارة هذه المواضيع بهذه الكيفية التي نراها اليوم؟ !!
للأسف بأن بعضهم يحب الكلام في هذه القضايا الخلافية التي لا طائل من ورائها، مدعياً بأنه في ذلك يدعو للإسلام المحمدي الأصيل الذي جاء به الوحي الإلهي المقدس، ومع ذلك نراه فارغاً من المحتوى، إذ أنه لا يملك رصيداً معرفياً مشرفاً حتى عن أبجديات الإسلام (مبادئه وقيمه الأساسية)، التي يدعي الإيمان بها والانتساب إليها والدفاع عنها.
وبناءً على هذا أرى بأننا بأمس الحاجة لدعوة المسلمين (شيعة وسنة) للإسلام، لأنهم كثيراً ما يكونوا جاهلين به أو غافين عنه، فحري بنا قبل أن نشغل أنفسنا بدعوة السنة للتشيع أو الشيعة للتسنن، أن نشغل أنفسنا بالإسلام بمبادئه وقيمه وتعاليمه، لأن كثيراً منا يحمل اسم الإسلام ولكنه يجهله ولا يعرف منه أكثر من اسمه، ولهذا نحن بحاجة ماسة لدعوة المسلمين للإسلام قبل أن ندعو غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، وذلك لأننا انشغلنا به عنه !
وبالتأكيد بأن كلا المذهبين يعتقد بأنه هو الممثل الرسمي للإسلام الأصيل، ولهذا لكي نرضي الطرفين نقول بأن على السنة دعوة أبناء السنة للالتزام بالتسنن قبل أن يدعو غيرهم له، وكذلك الأمر بالنسبة للشيعة فعليهم أن يقوموا بتشييع الشيعة قبل أن يبذلوا الجهود لتشييع السنة، لأن هذا الأمر هو الأولى، نقول هذا لأننا نلاحظ أن هناك من يخالف أصول ومبادئ وتعاليم مذهبه مع أنه يدعي الدفاع عنه !
ولكن ماذا نصنع والبعض منا يرى في إثارة هذه المواضيع هواية تجلب له المتعة والسعادة، فبعضهم يدعم ويشجع مذهبه ويدعمه بنفس الطريقة التي يشجع فيها هواة الرياضة لنواديهم الرياضية التي يفضلونها، وبلا مبالغة، فلقد أصبحت المذاهب بوجه من الوجوه كالأندية الرياضية، فكما أن هناك من يشجع برشلونه في الدوري الرياضي الأسباني هناك من يشجع ريال مدريد، وكما هناك من يشجع الهلال في الدوري السعودي، هناك من يتعصب ضده ويشجع النصر، وكما أن هناك من يشجع الأهلي المصري هناك من يقف ضده ويشجع الزمالك... وهكذا.
وبنفس الطريقة تقريباً، فكما هناك من يشجع ويدعم ويتعصب للشيعة، هناك من يشجع ويدعم ويتعصب للسنة، لأن الأمر أصبح نتيجة للحماسة أكثر من أي شيء آخر، فالعملية إذاً متقاربة ومتشابهه بوجه من الوجوه، إذ أن كل جمهور يدعم ويشجع ويتحمس ويتعصب لمذهبه كما يشجع ويتعصب بعض هواة الرياضة لنواديهم المفضلة، إذ يحاولون إثبات تميزه ويتناسون مشاكله وعيوبه الداخلية التي يعاني منها، لأنهم لا يروا أو لا يريدوا أن يروا إلا المشاكل والعيوب التي لدى المخالفين لهم، وصدق الشاعر القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
مع فكرة المؤامرة:
وفي مقابل من يخوض في هذه الأحاديث وينشغل بها ويكثر منها، هناك من لا يميل للانشغال بها، إذ يستنكر على من يتداولها، لأنها كما يعتقد قضايا تديرها يد خفية، هدفها التربص بالأمة الإسلامية وتهديد وحدتها وتمزيق شملها، فكل هذه المواضيع التي نشهدها هي نتيجة لمؤامرة تحوكها قوى الاستكبار العالمي ضد هذا الدين، طبعاً كما يعتقد هؤلاء.
وإنني وإن كنت مختلفاً مع من يبالغ في الحديث عن هذه القضايا إلا أنني أيضاً لا أتوافق من يبالغ فيها ويهول منها وينسبها لنظرية المؤامرة، لأنه وإن كانت هناك مؤامرة فعلية ضد المسلمين، فإن هذا ليس هو السبب الفعلي لما نحن فيه، وإنما سبب ذلك أننا لم نتفهم طبيعية الخلافات التي تدور بيننا ولم نحسن طريقة إدارتها.
فالمؤامرة من الطبيعي أن تحدث، نظراً لاختلاف المصالح والتوجهات، ولكن المشكلة ليست في المؤامرة، وإنما فينا نحن، فلماذا نستجيب لها ونخدم أهدافها مع أنها ليست من صالحنا؟! ولماذا دائماً ما نحذر منها دون أن نتمكن من وضع حداً لها ؟! لأن المؤامرة وإن كانت موجودة فإنها لن تسلبنا حق الاختيار بالكامل، وما يحدث هو في الكثير من الحالات نتيجة لاختيارنا وليس فرضاً مفروضاً علينا.
والأمر الآخر لو افترضنا جدلاً بأن المؤامرة ليست موجودة، فكيف سنتصرف مع بعضنا البعض يا ترى؟ بمعنى هل ستنتهي كل هذه المشاكل والفتن أم لا؟ أتسائل بمثل هذه التساؤلات لأننا نلاحظ بأن هذه الفتن -بين المذاهب والتيارات الإسلامية- قديمة جداً، فلقد بدأت منذ وقت مبكر من تاريخ الإسلام، فهل ثمة مؤامرة تحاك أيضاً في تلك الحقبة الزمنية[3]؟ !!
كما ينبغي الالتفات إلى أن تاريخ غيرنا من الديانات الأخرى ليس خالياً هو الآخر من أشباه هذه الفتن؟ فالتاريخ المسيحي يثبت لنا الكثير من الفتن التي وقعت بين المذاهب المسيحية المختلفة، كالتي بين الكاثوليك والبروتستانت، فهل هذا أيضاً نتيجة لمؤامرة غير المسيحيين على المسيحيين أو على الديانة المسيحية؟ فكيف سنفسر كل ذلك يا ترى[4]؟ !!
ما أود قوله هو أننا ستكون لدينا نفس هذه المشاكل والفتن سواءً وجدت مؤامرة أم لا، فالفارق بين الحالتين فقط هو في درجتها لا في أصل وجودها، وذلك لأن السبب من وجودها ليست المؤامرة لوحدها، وإنما هي بسبب طبيعتنا ونظرتنا وطريقة تفكيرنا، فنحن إلى الآن لم نتفهم طبيعة الاختلافات والتنوع البشري، وبالتالي فإننا لم نستطيع أن نتعامل معه كما ينبغي ويجب.
ولهذا ترانا ننظر لأي تنوع يخالفنا في الرأي أو العقيدة أو التوجه ... بأنه جريمة كبرى لا تغتفر لأنه بسبب التعصب أو العناد أو كره الحق كما يعتقد الكثير منا، لأن بعضنا لا يحيل ذلك إلى القناعات الفكرية أو إلى أي أمر آخر، وإنما ينسبه مباشرة لسوء النية وخبث السريرة، ولهذا أقول: ما دمنا نفكر بهذه الطريقة، فإننا مستمرون في هذا الحال سواءً وجدت مؤامرة أم لم توجد.
[1] راجع كتاب مهزلة العقل البشري للدكتور علي الوردي ص.
[2] راجع سورة البقرة الآية 120 .
[3] إن من يراجع تاريخ المسلمين يجد الكثير من الفتن التي حدثت حتى بين أتباع نفس المذهب، كالفتنة التي حدثت حول مسألة خلق القرآن الكريم.
[4] من المفيد مراجعة كتاب معارك في سبيل الإله لكارين أرمسترونج ترجمة د.فاطمة نصر ود. محمد عناني الطبعة الأولى 2000 لمجلة سطور، ففيه تتطرق المؤلفة للأصولية في الأديان الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.
سلمان عبد الأعلى -