لا يختلف إثنان حسب تصوراتي بأن سماحة الراحل العلامة آية الله العظمي السيد محمد حسين فضل الله رجل العلم والتواضع الكبيرين كان مجددا بحق في مذهبه الشيعي، إذ خلف مؤلفات عدة تناول فيها قضايا بالغة الحساسية، كما أنه من دعاة تنقية التراث الشيعي على مختلف الصعد.
إن تجديد الراحل لم يقتصر على ساحته الشيعية فحسب، بل تجاوز حالة "التمذهب" التي تسود في الأوساط الإسلامية عامة، حيث أن قلة من الفقهاء المسلمين يستطيعون تجاوز تلك الحالة التي تضغط على كثير منهم، محاولة ثنيهم عن الخروج منها، بيد أن الراحل الكبير استطاع بفكره واجتهاده العصري أن يُفلت من كل تلك الضغوطات التي تمارس عادة على الرموز والمرجعيات الدينية، فأصبح مجددا إسلاميا ومفكرا كبيرا في الساحتين الشيعية والسنية، ولعلي لا أبالغ إن قلت إنه المرجعية الشيعية الوحيدة التي جددت فعلا في الفقه الشيعي في القرن الحالي، وذلك واضح حتى في لغته الكتابية، فضلا عن كثير من فتاواه، منها مثلا عدم شرط موافقة الولي في زواج الفتاة البكر، وعدم رؤيته لنجاسة الكافر.
إنْ ابتعدنا عن الساحة الشيعية سنجد أن "العلامة" يمثل رقما صعبا حتى في الساحة السنية السلفية، وهذا ما وجدته بنفسي حين شرعت في إعداد تقرير صحافي عن الراحل في يوم تشييعه وشارك فيه مجموعة من علماء السلفية وكتاب ومفكرين سعوديين ألتقوا به في وقت سابق في بيروت، وليسمح لي القارئ أن أطلعه على ما قاله بعضهم، يقول لي القاضي السابق المحامي الشيخ محمد صالح الدحيم بأن مرجعية السيد تجاوزت الأطر المذهبية كافة، وأنه حين جلس معه وناقشه في قضايا إسلامية هامة وجده شخصية فذة، وشدد لي بأن السيد يتمتع بطريقة تفكير فريدة وظفها إسلاميا في شكل موفق جدا. ولعل أهم ما قاله لي كمن في تركيز السيد أثناء جلوسه معه على تجاوز الخلافات السنية الشيعية، وقال له رحمه الله "أن علينا أن نطرح مشاريع توحد الأمة الإسلامية بدلا من أن تفرقها". و "إن الخلافات والتركيز عليها لن تجعلنا نخرج بشيء، وأن الخلافات نصنعها نحن ونعيش فيها وتحت أسرها".
هذه الشهادة الكبيرة التي دونها الدحيم لا تختلف كثيرا عن شهادة أخرى قدمها الكاتب عبدالله فراج الشريف، إذ يرى أن رحيل السيد يعد خسارة كبيرة للامة الإسلامية، وأسهب في الثناء على الراحل حيث شدد على أنه "رحمه الله" لا يخص مذهب دون آخر، بل إنه مفكر إسلامي يهم المسلمين جميعا، ولعل أهم ما لفت انتباهي أثناء المحادثة الهاتفية كمن في زيارة الشريف للراحل، إذ يقول ما إن التقيته حتى شعرت بالطمأنينة تسري في عقلي وجسدي..، إن الراحل كان يتحدث عن آماله التي توحد الأمة الإسلامية، وكان يوجه ويقول إن حصل خلاف فإن ذلك محتمل ونستطيع التعايش معه.. كان عالما بارزا من أصحاب تفادي الأحقاد والضغائن، ومن دعاة التوحيد والتعايش الحقيقيين وترك الفتنة.
أما الدكتور عمر كامل فإنه يرى أن السيد من أكثر مراجع الشيعة رغبة في توحيد الأمة الإسلامية، وله اجتهادات مهمة جدا خاصة في تنقية المذهب الإثنى عشري الشيعي، كما أنه تميز برؤية واسعة في حقوق المرأة وحقوق غير المسلمين، واستخرج ما توصل له وأصله من مذاهب المسلمين كافة، كما استخرج نصوصا تؤيد الوسطية من غير المذهب الشيعي، ويشدد على أن الراحل كانت له آراءه تصب في صالح الوحدة الإسلامية والتسامح الديني، وأنه علامة بارزة في المذهب الشيعي.
إن مثل هذه التأييدات تعتبر بالغة الأهمية في الفترة الزمنية التي نعيشها، خاصة أنها مرحلة يشدد فيها الغرب على بث أشكال الطائفية بين المسلمين، إذ يضرب المشروع الغربي المسلم بالمسلم الآخر ضمن سياسة قديمة متبعة"فرق تسد"، بلا شك أن الراحل تصدى بفكره المقاوم لهذه المشاريع، إذ ساهم في شكل فعال في كسب تأييد من جهات دينية مختلفة في العالم الإسلامي.
وفي هذا الصدد آمل من رجال الدين الشيعة قبل السنة أن لا يكتفوا بتأييد الراحل واستخراج البيانات التي ترثية، بل عليهم أن يكرسوا حياتهم لخدمة الأهداف التي سار فيها الراحل، وأهمها رفض الظلم والبغي والعدوان، بث روح التسامح في المجتمعات التي يعيشون فيها، تبني أفكار مؤصلة إصلاحية حقيقية.
استقبلني رغم انشغاله:
حين كنت في زيارة لسوريا في إحدى السنوات توجهت لزيارته "من دون موعد أو تنسيق"، كان معه أحد قيادات الحركات الفلسطينية في سوريا، علما أني ذهبت لزيارته من دون أن أعرف بنفسي، بل كأي إنسان جرد نفسه من كل ألقابه... قالوا لي إن السيد في اجتماع معهم لكننا سنخبره بأن أحدا يود السلام عليه، وما هي إلا 10 دقائق تقريبا ودخلت وسلمت عليه، وخرجت على الفور لأني أدركت أهمية اجتماعه... هذا يدل على خلقه وتواضعه الكبيرين.
لا أعرف ماذا يقول المرء في حضرة انسان ومرجع ومفكر وشاعر كبير غادر هذه الدنيا... غير أني أقول له:
أيها الراحلُ في قلبي ترجلْ
ها هنا المحراب في خديك بالحبل ترجلْ
أيها العابر للموت تغنَّى فوق سبحاتك دمعي...
فترجلْ. هذه لبنان تنعاك على شاطئها.
هذه النجمات تنعاك على ساحلها.
فترجلْ. وترجلْ
منير النمر – إعلامي سعودي
2010-07-08