اللهم صلي على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
من أين جاء الحجر الأسود
كثرت الأقوال، واختلفت الآراء، والتساؤلات عن الحجر الأسود، من أين أُتي به؟ ومن أيّ شيء هو؟ وهل يضرُّ أو ينفع؟ وما هذهِ الهالة التي أُحيط بها في الروايات والأقوال وهو لا يعدو كونه حجراً عادياً؟..
وقد توفرتُ على كثير من هذهِ الأقوال والآراء، وقبل أن أذكر بعضاً منه، أقول: كلّ هذهِ الأقوال والآراء - التي دوّنت بعضها وتركتُ بعضها الآخر لا لشيء إلاّ للاختصار. ليست هي السبب في فضله، وقدسيته عندنا وفي تعظيمنا له، لأنّ ذلك الفضل وتلك القدسية وهذا التعظيم، وأيضاً وجوب البدء به في كلّ شوط من الطواف والانتهاء إليه، واستحباب التبرّك به تقبيلا ولمساً أو استلاماً والدعاء عنده... كلّ هذهِ الأُمور ثبتت عندنا بالسنّة الصحيحة لرسول الله صلى الله عليه وآله فعلا وقولا وتقرير، وسار عليها الصالحون وعموم المسلمين تعبد، واقتداءً واتّباعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وتأسيّاً به، ولا يهمنا بعد هذا ما تحمله تلك الأقوال والآراء ككونه درّة بيضاء في الجنّة، أو أنزله جبريل من السماء، أو كان ياقوتاً أو جوهراً أو شيئاً آخر، أو أنه كان رجل من القرامطة، قال لرجل من أهل العلم بالكوفة، وقد رآه يتمسّح به وهو معلّق على الأُسطوانة السابعة: ما يؤمنكم أن نكون غيّبنا ذلك الحجر وجئنا بغيره؟ فقال له: إنّ لنا فيه علامة، وهو أننا إذا طرحناه في الماء لا يرسُب، ثمّ جاءَ بماء فألقوه فيه، فطفا على وجه الماء.
نعم، قد تزيدنا هذه الأقوال والآراء معرفةً به، واطلاعاً عليه، لو ثبتت أمام التحقيق العلمي لها. أما لو تركنا نحن وهذهِ الأقوال والآراء - وبعيداً عن السنّة المباركة - فإنّنا لا نستفيد تلك القدسية ولا ذلك الوجوب أو الاستحباب.
صحيح أن قراءة روايات الحجر الأسود، وقراءة سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله من الوقوف مستقبلا هذا الحجر والدعاء عنده، ولمسه أو استلامه وتقبيله... هذه القراءة تبين لنا أنه حجر ذو شأن كبير وأثر عظيم، وأنه ليس كباقي الأحجار الأُخرى التي قد يحمل نفس مكوّناتها.
وعلى فرض صحة ما ذكرناه من أن إبراهيم عليه السلام قال لإسماعيل: ائتني بحجر ليكون علماً للناس، يبتدئون منه الطواف، لكن هذا لا يمنع من أن تكون له أغراض أُخرى، - غير كونه علماً يُبتدأُ منه الطواف - إن لم تكن في الدنيا ففي الآخرة كما تحدّثت عنها روايات الفريقين، وليس عجيباً وغريباً أن يدلي بشهادته في ساحة الحساب الأكبر يومَ تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه...
قال تعالى: ﴿...الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ...﴾ فصلت: 21.
فينطق الحجر الأسود، ويشهد على كلِّ عهد، وكلِّ ميثاق تمّ في ساحته، حيث بداية مسيرة الطواف، فيستقبله كلُّ حاج ويدعو ويتعهّد عنده بالتخلي عن كلّ ما ارتكبه من انحراف ومن ذنوب ومخالفات. وأنه يجدّد البيعة لرسول الله صلى الله عليه وآله والالتزام بما جاء به من عند الله تعالى ويتعهد أيضاً بالطاعة والانضمام إلى موكب التائبين كما ستقرأ ذلك في الأدعية المأثورة عند الحجر وأول الطواف.
وعندئذ سيكون نطقه وستكون شهادته ضارةً أو نافعة لنا وبالتالي يمكن وصفه بأنه ضارٌ أو نافعٌ.
ولكنّا لو تركنا هذا كلّه وقلنا: إنه حجر كباقي الأحجار المبعثرة هنا وهناك، وإنه لا يستحق هذهِ الكثرة من الروايات والأقوال والآراء.. وبالتالي ليس هناك سببٌ لأن يحظى بالقدسية والاهتمام. ويبقى مجرد علامة يستدلّ بها الحجاج على بدء أشواط الطواف. إن قلنا هذا فسنواجه أسئلة كثيرة قد تثار، منها:
ما هذهِ الفضيلة والقدسيةُ اللتان أُعطيتا له من قبل المسلمين بكلّ مذاهبهم وعبر تأريخهم الطويل؟
وما هذا الاهتمام والاعتناء به والحرص عليه من قبل المسلمين؟ ناهيك عن أهل الجاهلية الذين كاد الأمر يصل بهم إلى سفك الدماء وقتل الأنفس من أجل نيل شرف وضعه في مكانه لولا رحمةُ الله تعالى وحكمة الصادق الأمين كما قرأنا.
ولماذا لم يوضع حجر آخر مكانه عند سرقته من قبل القرامطة، فقد ترك مكانه خالياً طيلة فترة غيابه عندهم؟ ولماذا لم يبدل بشيء آخر أو بحجر غيره كما بدلت أحجار الكعبة في كلّ عملية هدم وبناء تعرضت لها الكعبة في تأريخه، وقد شمل التبديل حتى القواعد من البيت؟ فإن التاريخ لم يذكر لنا مثل ذلك. فقد بقي الحجر الأسود منذ أن وضعه إبراهيم عليه السلام في مكانه، يحمل الشكل نفسه والصفات ذاته، إلاّ اللون الذي كان أبيضَ ناصعاً فاسودّ كما نقلت ذلك الروايات و....
وجوابنا هو: أنه حتى وإن قلنا: بأنه حجر كباقي الأحجار لا يفوقها بشيء، وتعرضنا لمثل هذهِ الأسئلة، جوابنا أن الله تعالى قد تعبدنا به كما تعبدنا بغيره، وليس لنا -كمسلمين- إلاّ الانقياد لذلك، لأن الانقياد إلى الله تعالى، وللذي تعبدنا به هو جوهر الدين وحقيقته، وإن لم نعرف العلة والحكمة من ذلك، ويجب علينا المحافظة على ما تعبدنا الله تعالى به، ورعايته بل وتقديسه.
ثم علينا بعد هذا أن نسكت عما يسكت الله تعالى ورسوله عنه. ولو توقفت المصلحة على التفاصيل لكان على الله تبيانها ولو من باب اللطف ومن الحسن أن لا نخوض في أمور لا يزيدنا الخوض فيها إلاّ جهلا وإلاّ غموضاً وتعقيد، وتكون بالتالي ميداناً لأن يُلقي بعضٌ بخرافاته وأوهامه، وبعض يهرع بما لا يعرف... وبالتالي نفقد أشياء كثيرة في خضم هذه الأجواء.
بعد هذا تأتي إلى ذكر بعض ما قالوه في الحجر الأسود:
عن محمد بن علي بن الحسين قال: روي عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام: ...وكان أشدّ بياضاً من اللبن فاسودّ من خطايا بني آدم، ولولا ما مسّه من أرجاس الجاهليّة ما مسّه ذو عاهة إلاّ برئ.
قال سلمان رحمه الله: ليجيئن الحجر يوم القيامة مثل أبي قبيس له لسان وشفتان، ويشهد لمن وافاه بالموافاة.
عن الإمام الرضا عليه السلام: "إن الله لمّا أخذ مواثيق بني آدم التقمه الحجر، فمن ثمن كلّف الناس بتعاهد ذلك الميثاق.. ويقال عنده: أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة".
قال الإمام أبو عبد الله عليه السلام: "إن للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة.."، ثمّ ذكر حديث خلق آدم وأخذ الميثاق على ذريّته، وأن الحجر التقم الميثاق من الخلق كلّهم، إلى أن قال: "فمن أجل ذلك أُمرتم أن تقولوا إذا استلمتم الحجر: أمانتي أديته، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة".
وفي قول آخر لأبي عبد الله أيض: "والميثاق هو في هذا الحجر الأسود، أما والله، إنّ له لعينين وأذنين وفماً ولساناً ذلقاً...".
وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "مرّ عمر بن الخطاب على الحجر الأسود فقال: والله يا حجر إنّا لنعلم أنّك لا تضرّ ولا تنفع إلاّ أنّا رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله يحبّك فنحن نحبّك، فقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: كيف يا بن الخطاب؟! فوالله ليبعثنه الله يوم القيامة وله لسان وشفتان، فيشهد لمن وافاه، وهو يمين الله - عزّ وجلّ - في أرضه يبايع بها خلقه، فقال عمر: لا أبقانا الله في بلد لا يكون فيه علي بن أبي طالب".
عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وآله قال لعائشة وهي تطوف معه بالكعبة حين استلما الركن: يا عائشة لولا ما طبع الله على هذا الحجر من أرجاس الجاهلية وأنجاسها إذاً لاستشفي به من كلّ عاهة... وإنه لياقوتة بيضاء من ياقوت الجنّة، ولكن الله - عزّ وجلّ - غير حسنه بمعصية العاصين.. وإن الركن يمين الله - عزّ وجلّ - في الأرض وليبعثه الله يوم القيامة وله لسان وشفتان وعينان ولينطقنّه الله يوم القيامة بلسان طلق ذلق ليشهد لمن استلمه بحق استلامه اليوم، بيعة لمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وآله".
وذكر وهب: "أن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة أنزلا فوضعا على الصف، فأضاء نورهما لأهل الأرض ما بين المشرق والمغرب كما يضيء المصباح في الليل المظلم يؤمن ويستأنس إليهم، وليبعثنّ الرّكن والمقام وهما في العِظم مثل أبي قبيس يشهدان لمن وافاهما بالموافاة. فرفع النور عنهما وغير حسنهما ووضعا حيث هما".
وقال عياض: "الحجر الأسود يقال هو الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وآله، حين قال: إني لأعرف حجراً كان يسلّم عليّ، إنه ياقوتة بيضاء أشد بياضاً من اللبن فسوّده الله تعالى بخطايا بني آدم ولمس المشركين إياه".
عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله قال: "نزل الحجرُ الأسود من الجنة وهو أشدّ بياضاً من اللبن فسوّدته خطايا بني آدم".
عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله قال في الحجر: "والله ليبعثنهُ اللهُ يوم القيامة له عينان يُبصر بهما ولسانٌ ينطق به يشهدُ على من استلمه بحقٍّ".
وقال عبد الله بن عباس: "ليس في الأرض شيء من الجنة إلاّ الركن الأسود الحجر والمقام، فإنهما جوهرتان من جوهر الجنّة، ولولا من مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة إلاّ شفاه الله".
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: "الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنّة طمس الله نورهم، ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب، وقال محمد بن علي: ثلاثة أحجار من الجنة: الحجر الأسود والمقام وحجر بني إسرائيل".
ومما قاله صاحب كتاب "المساجد في الإسلام" حول الحجر الأسود: "... وفي البيت الحرام يوجد الحجر الأسود، ويسميه المسلمون على سبيل التكريم بـ الحجر الأسعد، وقد اختلفت الآراء في حقيقة الحجر المذكور، وذهب الناس في الكلام عنه كلّ مذهب، والتقاليد المتداولة بين عامة المسلمين تقول: بأن هذا الحجر المقدس أصله من الجنة، وأنه كان أبيض اللون، واسودّ نتيجة ارتكاب أهل الدنيا للآثام والمعاصي. وهناك من يقول: بأن هذا الحجر قد يكون شهاباً نيزكاً هوى من بعض الكواكب، أو أنه جزء من معبد مقدس رفعه النبيُّ إبراهيم عندما خطّط المعبد الذي يحيط به البيت الحرام وهذا الحجر كان مقدساً عند المسلمين وقبلهم لدى أهل الجاهلية".