تحديات العلم الحديث في القرن الواحد والعشرين ومابعده
تتمتع البشرية في غالبيتها الساحقة على وجه البسيطة بثمرات العلم الحديث ومنجزاته الجبارة وتطبيقاته العملية المذهلة دون أن تستوعب أو تدرك كنهها وكيفية توصل الإنسان إلى تلك النتائج الباهرة، وتمكنه من فك طلاسم وأسرار القوانين والنظريات العلمية والاستفادة منها في تطويع الطبيعة والسيطرة عليها وسبر أغوارها، ومن ثم الانطلاق منها نحو الفضاء الخارجي، واختراق المجال الجوي باتجاه أعماق الكون المجهولة، علماً أن الإنسان لا يزال يحبو في خطواته الأولى في هذا الدرب الشائك والخطير.
ما يزال العلم الحديث يقف حائراً، إن لم نقل عاجزاً، أمام تحديات كبرى يواجهها منذ أن ولد الإنسان العاقل على وجه الأرض وإلى يوم الناس هذا، بل وربما إلى الأبد، تتمثل تلك التحديات، عل سبيل المثال لا الحصر، بلغز الحياة وأصلها وسرها ومآلها، وبسر الموت وما بعده، وبأصل الكون ومصيره فضلاً عن خارطته وشكله ومكوناته ومعماريته ، وبحقيقة الخلق ولغز الوجود وسر الكينونة وأصل الأديان التي احتكرت الإجابات عن ذلك منذ آلاف السنين ولم تشف الغليل.
التساؤلات لا تنتهي والإجابات غائبة فيما عدا كم هائل من الفرضيات والافتراضات والنظريات والتخمينات ، وبالتالي بقي هناك الكثير جداً أمام الإنسان ليكتشفه ويجيب عليه.
كانت الثورة الأولى في مجال علم الأحياء هي نظرية تشارلز داروين في التطور وأصل الأنواع والانتخاب الطبيعي، والتي لا تزال تتربع على عرش البيولوجيا، منذ أكثر من قرنين من الزمن. واليوم تمكن العلماء من تقنية الاستنساخ الحيواني، والبشري، ولو بصورة سرية، ونجح العلماء في خلق حيامن منوية ذكرية في المختبر، وقبل ذلك اكتشف العلماء وفككوا شيفرة الحامض النووي دي ان ايه، والذي يعد أهم إنجازات الإنسان العلمية في القرن العشرين، فبفضل هذا الاكتشاف سيتمكن العلماء من خلق أعضاء بشرية وخلايا بعد معرفة وظائفها الجينية في مجال الهندسة الوراثية وتجديد الخلايا التالفة أو المصابة أو الشائخة أو المريضة مما يعني إمكانية القضاء على الشيخوخة في أفق قريب، إلا أن العلماء لم يتمكنوا لحد الآن من معرفة سر الحياة: من أين جاءت وما هو أصلها، على الأقل في شكلها الذي نعرفه على الأرض. هناك شبه اتفاق بين علماء البيولوجيا على أن الحياة ظهرت في الماء على كوكب الأرض قبل 4 مليارات سنة وقد انبثقت من المادة وفق أنظمة التحولات الذاتية للخلايا العضوية الكاربونية من عنصر الكربون، القادرة على التوالد الذاتي والانقسام والتطور نحو شكل متعدد الخلايا.
ومن أجل كشف سر هذه الأنظمة الكيمائية الأولية أو البدائية، يبحث العلماء عن بقايا متحجرة قديمة جداً لتلك الخلايا الأولية فيما يحاول علماء الكيمياء خلق أنظمة حية بسيطة جداً في أنابيب الاختبار. يعود عمر أقدم خلايا مجهرية متحجرة عثر عليها إلى ما يناهز 5،3 مليار سنة من أحواض مياه طبيعية غير عميقة شهدت ميلاد حياة خلوية أولية ميكروسكوبية، وقد تم اكتشافها في استراليا وأفريقيا الجنوبية.
كانت فرضية أن الحياة انبثقت داخل " حساء بدائي" يتغذى بخلايا عضوية صنعت في الجو، هي السائدة ، وهي التي توجه وتقود أعمال وأنشطة وتجارب علماء الكيمياء الذين حاولوا خلق الحياة الخلوية أو الأميبية في المختبر في محاولات للجميع بينالآسيد أو الحامض النووي ـ اي ار ان والبروتينات والأغشية المخاطية أو الصفائح الرقيقة ، ولم ينجحوا لحد الآن. إن تكوين المناخ البدائي ما يزال مجهولاً ولكن من الممكن أن تكون الشهب والنيازك الكبيرة والمكروسكوبية قد زودت الأرض بالمادة العضوية الفضائية أو من خارج الأرض. وقد أثبتت عمليات جمع المتحجرات الحيوية في القطب الجنوبي للأرض وتجارب أجريت في مختبرات وفي الفضاء الخارجي أيدت هذه الفرضية ودعمتها بيد أن العقبة الرئيسية التي تقف أمام صنع خلايا حية هي تعذر توفرالمعرفة الدقيقة لتركيبة الـ اي ار ان . كما أن هذه الصعوبة تضعف فكرة وجود عالم اي ار ان كان قد بدأ الحياة قبل العالم الخليوي .
البديل لمعضلة الـ اي ار ان يتمثل بإرجاع أصل الحياة لإيون غروي أو لجزيئة غروية وهي عبارة عن تراكمات خلوية ، أو بتخيل أنظمة تتطور على أسطح معدنية جمادية . كما أن هناك علماء يعترضون على فرضية الحساء الأولي أو البدائي الذي انبثقت منه الحياة وهم من أتباع فكرة وجود حياة بدائية ما تحت أو ما دون مجهرية قادرة على استخدام ثاني أوكسيد الكاربون الموجود في الغلاف الجوي.
ومن البديهي القول أن المادة المكونة للأرض وما عليها ، وكذلك ما حولها من كواكب ونجوم هي ذاتها، فكل شيء يأتي من غبار النجوم كما يقول المثل العلمي. لذلك يسعى العلم لمعرفة مم يتكون الكون برمته، على الأقل الكون المرئي الذي نعرفه وندرسه. وقد توصل علماء الفلك إلى حقيقة أن كل ماهو موجود في الكون من نجوم ومجرات وكواكب لايمثل سوى أقل من نسبة 20% من مجموع المادة الموجودة في كوننا المرئي وماتبقى أطلق عليها تسمية المادة السوداء أو المعتمة التي لاينبعث منها أي ضوء وبالرغم من ذلك فإن المادة بنوعيها المرئية والمعتمة لاتشكل سوى جزء ضئيل جداً من مكونات الكون لايتعدى الربع، في حين أن الجزء الأهم من مكونات الكون يأخذ شكل الطاقة وهي بنوعين أيضاً الطاقة المرئية وهي قليلة بينما الكمية الساحقة من الطاقة هي طاقة سوداء أو معتمة أيضاً وذات خصائص مجهولة وماهية مبهمة، وبالرغم من عدم انبعاث ضوء من المادة السوداء إلا أننا نشعر بوجودها من خلال الجاذبية الثقالية التي تمارسها على ماحولها وما يحيط بها.
فلو أخذنا مثالاً لتوضيح ذلك لرأينا في المجرات الحلزونية الشكل أن الضوء المنبعث من القرص المركزي أو الدارة المرئية للمجرة، يتناقص مع المسافة في المركز مما يوحي بأن الكتلة متمركزة بشكل أساسي في قلب المجرة وأن سرعة دوران الأجرام والنجوم تبدو مستقلة عن ابتعادها عن المركز وهذا يناقض التكهنات والتوقعات المتعلقة بالثقالة مما يوحي بوجود كميات مهمة من المادة غير المرئية حتى في المناطق البعيدة والتي لاتحتوي على نجوم على الإطلاق.
والوسيلة الوحيدة لتفسير الانحراف أو التشوه هو تخيل وجود هالة أو دارة ضخمة غير مرئية ربما من المادة السوداء، تمتد أبعد 10 إلى 20 مرة أكثر عن قرص النجوم في المجرة. وهذه المادة السوداء موجودة كذلك في حشد أو تجمع المجرات ، ويتصرف بعض من هذه الحشود كالعدسات المكبرة الجبارة لذلك نجد أنها محاطة بأقواس مضيئة ونرصد صور لمجرات واقعة خلف حشود بعيدة مشوهه بفعل الحقل الثقالي لذلك الحشد وإن دراسة تلك الأقواس تسمح يتقدير كتلة الحشد وتشير إلى قيمة تفوق بمعدل 10 إلى 100 القيمة المستنتجة من المجرات المكونة للحشد .
بيد أن العلماء عاجزون إلى اليوم عن معرفة طبيعة وكنه وماهية هذه المادة الشبحية الأثقل من كافة نجوم الكون.
فالمادة الطبيعية المرئية المكونة للذرات لاتكفي لتفسير وجد المادة السوداء ويتوجب اللجوء إلى شكل آخر غير معروف جيداً كالنوترالينو ، وهو جزيء كتلي ثقيل لايتفاعل إلا بشكل ضعيف جداً مع المادة العادية لاستخدامه في التجارب المختبرية بعيداً عن أية تأثيرات ضوئية في مختبرات تحت الأرض على أمل العثور عل المادة السوداء. ونفس الأمر مع الطاقة السوداء أو المعتمة التي اكتشف العلماء وجودها النظري أثناء تحققهم وتدقيقاتهم بتوقعات وتكهنات النسبية العامة لآينشتين المتعلقة بتوسع وتمدد الكون المرئي المكون أساساً من المادة وتأثير الجاذبية الكونية حيث من المفترض أن يتباطأ هذا التوسع مع الوقت والحال أن العكس هو الذي نتج.
فبمراقبة السوبر نوفا البعيدة نوعاً ما والتي تعني إنارتها أو ضوءها مؤشراً على توسع الفضاء كانت دهشة العلماء باكتشافهم أن الكون بدلاً من التباطؤ تسارع تمدده وتوسعه ولا يمكن تفسير ذلك إلا بوجود مكون طاقوي في الكون قادر على تفعيل عملية التسارع التي افترضوا وجودها نظرياً وسموه الطاقة السوداء أو المعتمة المجهولة الماهية الأمر الذي يتوافق مع معادلات النسبية العامة الرياضية شرط إعادة إدخال الثابت الكوني إليها ولكن إذا استمر الكون بهذا الإيقاع من التوسع والتمدد فإنه في وقت ما سوف يصبح وعاء فارغ من كل نجم أو مادة إلا إذا ظهرت لدينا معطيات جديدة تساعد في تقديم تفسيرات جديدة لعمليات الرصد والمراقبة.
ولم يكتف العلم بمحاولة معرفة أين ومتى وكيف ولماذا بدأت الحياة عل الأرض فحسب، بل صار يحاول اليوم معرفة أين ومتى وكيف ولماذا ظهرت أولى العضويات الحية في الكون والتي ننحدر منها؟ وقد ظهر في الآونة الأخيرة علماء متخصصون بالبيولوجيا الفلكية الذين يكرسون أبحاثهم للعثور على آثار لحياة في الكواكب الأخرى في مجموعتنا الشمسية أو خارجها في مجموعات شمسية مماثلة داخل مجرتنا درب التبانة.
وقاموا بعمليات مراقبة وتنقيب فوق الكوكب الأحمر أي المريخ بفضل مهمات الاستطلاع المؤللة غير المأهولة واكتشفوا أن هذا الكوكب في الحقب الأولى لوجوده، كان يحتوي على الماء السائل فوق سطحه مما يسمح بالتفكير بوجود شكل من أشكال الحياة بصيغة البكتيريا النائمة مما يعزز فكرة أن الحياة وصلت إلى الأرض على متن نيازك أو مذنبات قادمة من كواكب أخرى من الفضاء الخارجي سقطت على الأرض وكانت تحمل اللبنات الأولى للحياة البدائية التي تطورت على الأرض عبر مليارات السنين من التطور والانتخاب الطبيعي.
والحال ، إذا كان الانتقال من اللاحي إلى الحي في المادة هو صيرورة كونية باتت شبه بديهية، فإن مجرتنا مليئة بالأنظمة الحيوية أو تحتوي على بيئات صالحة لاحتضان الحياة وستكون قريباً ضمن مديات تلسكوباتنا الأرضية أو الفضائية. وإما إذا كنا حالة فريدة ونادرة في هذا الكون اللامتناهي الأطراف فسوف نكون محاطين بعوالم جدباء قاحلة وموحشة تدل على عبثية الوجود وهذا يخالف بديهية الجمال والتناسق الكوني.
يقدم لنا العلم الحديث بضعة طرق يمكن للبشر أن يسلكها في محاولة جادة للتعاطي مع هذه المسالة الحيوية التي ما يزال كل شيء فيها غامض إلى يومنا هذا. يتوقع العلماء إمكانية تقديم بعض الأجوبة الأولية في المستقبل القريب أكثر جدية مما قدمه أسلافنا العظام كأبيقور الفيلسوف الإغريقي الكبير عندما نوه إلى وجود عوالم مسكونة سبقتنا بثلاثمائة سنة قبل بدء حضارتنا البشرية الحالية.
في القرن التاسع عشر جرب العلماء في ذلك الوقت عدة طرق لإجراء اتصالات مع كائنات قادمة من الفضاء البعيد كالمرايا العاكسة التي نصبت فوق برج إيفل الفرنسي وغيرها من الوسائل البدائية وصولاً إلى الاتصالات الموجية او الرايوية وفق المستوى التكنولوجي الذي كان موجوداً آنذاك، دون تحقيق أية نتائج تذكر.
واستمرت المحاولات حثيثة وتجمعت آلاف الشهادات ونتائج المراقبة والرصد والصور، حيث بلغ عدد الشهود منذ عام 1947 ، ـ وهي سنة سقوط أول طبق طائر على الأرض في مدينة روزويل الأمريكية وذيوع قضية روزويل التي تحولت إلى مزار يحج إليه أنصار هذا الحدث، ـ 150 مليون شاهد عيان عبر العالم ادعوا أنهم شاهدوا أطباقاً طائرة في السماء، وتمت دراسة 120000 شهادة جادة ، 20000 من بينها تحدثت عن حالات هبوط لتلك الأطباق الطائرة، وتم جمع 3500 صورة عن تلك الأجسام الطائرة و 4000 أثر تركته على الأرض تم فحصه من قبل المختصين.
كما تم العثور على رسوم بدائية في كهوف تعود لأزمنة ساحقة في القدم لرجال فضاء ولأجسام طائرة ، والمعروف أن البشر في ذلك الوقت لايرسمون إلا ما يشاهدونه بأعينهم، ويعود زمن بعض الرسوم إلى حقبة ماقبل التاريخ كما في حضارات المايا والبالونكفي المكسيك وأمريكا اللاتينية. أول مقاربة علمية للالتقاط إشارات صناعية مرسلة قصداً أو مصادفة من قبل حضارات كونية أخرى خارج الأرض، تمت على يد هيئة سيتي إذ بمجرد التقاط أية إشارة من هذا النوع ستقدم إجابة قاطعة على سؤال " هل نحن وحيدون في هذا الكون" وقد اعتبر بعض العلماء مشروع سيتي خارج النمط العلمي المعتاد ولن يعطي ثماراً ملموسة غب المستقبل المنظور، وبالتالي فهو مضيعة للوقت وبعثرة للجهود ، ولكن وفي نفس الوقت لايمكن تجاهل هذا الصمت الكوني المرعب فالانسان بحاجة لصوت دافئ وحي يأتيه من أعماق الفضاء المظلم.
علم الفيزياء الفلكية يمنحنا سبلاً أخرى للبحث عن إجابات وذلك عن طريق مراقبة ورصد كواكب أخرى شبيهة بالأرض تدور في أفلاك لنجوم أخرى في مجرتنا وفي المجرات الأخرى مما سيساهم في تقديم إجابات ثمينة وفي نفس الوقت طرح تساؤلات جوهرية أخرى.
هل مجموعتنا الشمسية استثنائية وفريدة في هيكليتها ومعماريتها وتكوينها أم على العكس هي عادية وشبيهة لعدد لامتناهي من المجموعات الشمسية المماثلة؟ المهم في الأمر هو العثور على مجموعة شمسية تحتوي عل كوكب يمكن أن تنشأ فيه الحياة على غرار ما حصل في كوكب الأرض وهذا ما يركز عليه الاختصاص العلمي الجديد وهو البحث عن الحياة في الكواكب الأخرى لاسيما تلك التي تحتوي على الماء السائل فوق سطحها وهذه هي مهمة البعثة الفضائية كبلر.
ومن ثم الحصول على المعلومات المتعلقة بالتركيبة الكيميائية والضغط ودرجة الحرارة والمجال الجوي لتلك الكواكب المكتشفة بغية معرفة قابليتها على احتضان الحياة وتطورها. وقد نتوصل إلى النتائج المرجوة بفضل تلسكوب جيمس ويب الفضائي الذي سيطلق سنة 2014 كما يسعى العلماء لصنع أجهزة متقدمة ومتطورة تكنولوجياً للقيام بعمليات بواسطة مقياس التداخل ومكشاف إكليل الشمس و ومقياس استتار واحتجاب الكواكب والنجوم بحدود عامي 2025 أو 2030 حيث ستطلق تلك الأجهزة في المدار الأرضي لتقدم الإجابة العلمية القاطعة عن تساؤل هل الأرض وحيدة في احتواء الحياة أم أن هناك كواكب غيرها لها ذات الخاصية .
وفي مقالات لاحقة سنحاول معرفة ماسيقدمه العلم من إجابات على تساؤلات وتحديات جوهرية أخرى.
د.جواد بشارة
المصدر iraker.dk