السؤال الثالث: لماذا لم يقبل الإمام الحسين بما اقتُرِح عليه مِن الهجرة إلى بلاد اليمن اقتداءً بسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والذي هاجر إلى المدينة المنوّرة وأمر بعض أصحابه بالهجرة إلى بلاد الحبشة؟
الجواب: ثمّة فرق كبير بين الأمرَيْن إذ أنَّ اقتراح اللجوء إلى اليمن والاختباء بها وتحصين نفسه مِن بطش بني أميّة نشأ عن توهّم أنَّ الحسين عليه السلاملم يكن له مشروع إصلاحي وإنّما كان رافضًا للبيعة وحسب، ولأنّ رفض الحسين عليه السلام للبيعة يُنتج ملاحقة بني أميّة له ولإرغامه عليها أو قتله فإنَّ مِن المناسب لو كان الأمر كذلك هو البحث عن بلد يتمكّن فيها مِن الاختباء إلاّ أنّ الأمر لم يكن كذلك، فقد كان للحسين عليه السلام مشروع إصلاحي أعلن عنه في مواضع كثيرة فقد أفاد أنّه خرج لطلب الإصلاح في أمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه يريد أنْ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويسير بسيرة جدّه وأبيه عليه السلام.
وإذا كان هذا هو غرضه فإنّ مِن غير المناسب الاختباء عن ساحة الأحداث لينتظر ما تتمخّض عنه الظروف فإنْ جاءت وفق ما يتمنّاه مِن تمرّد الأمّة على النظام الأموي ثمّ إسقاطه وإعلانهم الولاء والبيعة له خرج إليهم واستلم زمام الحكم، وإنْ لم تتمكّن الأمّة مِن ذلك فإنّه يكون قد نجا بنفسه وبعياله، ولم يصبه مِن بطش بني أميّة شَيْء. هذا النوع مِن التفكير يناسب القادة النفعيِّين الذين يقطفون ثمار غيرهم ولا يهمّهم أنْ تطحن جماجم الشعوب إذا كان ذلك هو وسيلة الوصول إلى مآربهم.
أمّا القادة الرساليّون الذين يبتغون وجه الله وخلاص الشعوب مِن كلّ ألوان الظلم، والفساد والتضليل فوسيلة التغيِّير التي يعتمدونها هي الوقوف مع الأمّة وفي الصفّ الأوّل لمقارعة الظلم فيكتوُون بالنار لتي يكتوي بها الناس بل يكونون على استعداد لتحمّل أعباء الدور الأصعب فتكون الوطأة عليهم أشدّ والظلم عليهم أقسى، وهكذا كان الحسين الشهيد عليه السلامحيث هو الرجل الإلهي الذي منحته السماء لأهل الأرض وأناطت به مسئوليّة الأمانة الإلهيّة ولذلك لم يصغِ لأيّ ناصح، لأنّه ما مِن أحد يسعى لثنيِ الحسين عليه السلامعن عزمه على تصحيح مسار الأمّة إلاّ وهو غافل عمّا يرومه الحسين عليه السلامأو غير قادر على استيعاب موقف الحسين وقد أوضحنا ذلك في جواب السؤال الأول.
وأمّا هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة المنوّرة فلم تكن انسحابًا مِن ساحة العمل الرسالي كما لم تكن لغرض الاختباء والتحصّن مِن بطش قريش والمشركين بل هي هجرة قد خُطِّط لها كما تشهد لذلك بيعة العقبة وبعث مصعب بن عمير قبل هجرته إلى المدينة ليوطّئ له المناخ هناك، فكانت هجرته تستهدف تأسيس دولة قادرة على حماية دعوته ومنجزاته وحماية المؤمنين بها بعد أنْ لم يكن ذلك متاحًا في مكّة المكرّمة وكانت تستهدف للامتداد وتوسيع نطاق التبليغ والدعوة.
وقد كانت هجرة الحسين الشهيد عليه السلام إلى العراق تستهدف الغرض الذي مِن أجله هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنوّرة بعد أنْ أصبحت مكّة والمدينة المنوّرة غير قادرتَيْن على احتضان ثورته.
وأمّا هجرة المسلمين إلى الحبشة فهي وإنْ كانت لغرض النجاة بأنفسهم مِن بطش المشركين إلاّ أنّ الظرف كان مختلفًا عمّا كانت عليه ثورة الحسين عليه السلام فهؤلاء كانوا يخشَوْن الاستئصال أو الافتتان عن دينهم ولم يكونوا يطمحون في التغيّير بقدر ما كانوا يطمحون في التحفّظ على دينهم، فليس مِن وسيلة سوى الهجرة لحماية لأنفسهم ودينهم، وأمّا الحسين عليه السلام فلم يكن يخشى الافتتان عن دينه، كما لم يكن يطمح في حماية نفسه وعياله ولو شاء لكان ذلك متاحًا. فالحسين كما قلنا له مشروع إصلاحي، وكان يبتغي وجه الله عزّ وجلّ مِن نهضته، وذلك يقتضي الحضور لغرض التعبئة وإيقاف الناس على مناشئ النهضة وأهدافها.
وهذا هو المناسب لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد أفاد الحسين عليه السلام فيما أفاد: "أيّها الناس قال رسول الله (ص): مَن رأى مِنكم سلطانًا جائرًا مستحلاًّ لِحُرَمِ الله ناكثًا عهده مخالفًا لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول كان حقًّا على الله أنْ يدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر...".