السؤال السادس: لماذا لم يعمل الإمام الحسين عليه السلام بالتقيَّة؟ أليست ثورته إلقاءً للنفس في التهلكة؟
الجواب: لم يكن الظرف الذي عايشه الإمام الحسين عليه السلامموردًا للتقيَّة، ذلك لأنَّ تشريع التقيَّة منوط بأمورٍ كثيرة مذكورةٍ في كتب الفقه أهمُّها هو أنْ لا يترتَّب على التزام التقيَّة مفسدة أكبر مِن عدم التزامها. بمعنى أنَّه لو كان في التزام التقيَّة مفسدة تفوق المفسدة المترتِّبة على ترك التقيَّة فإنَّ التقيَّة حينئذٍ لا تكون مشروعة. فلو دار الأمر بين التحفُّظ على النفس مِن الهلاك وبذلك تنطمسُ معالمُ الإسلام أو يدخلُ الوهن الشديد عليه، وبين تعريض النفس للموت فتبقى معالم الإسلام واضحة دون أنْ يمسَّها اندثار أو يدخلها الوهن فإنَّ التحفُّظ على النفس تقيَّة في الفرض المذكور غيرُ مشروع بضرورة الفقه، ذلك لأنَّ أبرز ملاكات جعل التقيَّة وتشريعها هو حفظ معالم الإسلام عن أنْ تكون في معرض الاندثار أو أنْ يدخل عليها أو على حملتها الوهن الشديد، فإذا لزم مِن التقيَّة ذلك فإنَّ تشريعها يكون مِن نقض الغرض. لذلك لا يصحُّ الاستدلال بحكومة أدلَّة التقيَّة على الأدلَّة الأوليَّة القاضية بوجوب حماية الشريعة ، لأنَّ أدلَّة التقيَّة الحاكمة على الأدلَّة الأوَّليَّة قاصرة عن الشمول لمورد البحث. لاستلزام القول بحكومتها في مورد البحث لنقض الغرض مِن تشريع التقيَّة.
ولذلك يكون وجوب حماية الشريعة غير محكوم بأدلَّة التقيَّة كما هو ليس محكومًا بقاعدة نفي الضرر والحرج بنفس التقريب، وهو قصور القاعدة عن الشمول للفرض المذكور، إذ أنَّ قاعدة نفي الضرر والحرج سيقت لغرض التحفُّظ على ما هو أهمّ ملاكًا، فإذا كان التحفُّظ على النفس أو المال يُفضي لفوات ما هو أهمّ ملاكًا فإنَّ تشريع القاعدة يكون مِن نقض الغرض، وهذا هو ما يوجب استظهار قصور القاعدة عن الشمول للمورد المذكور حيث افترضنا فيه أنَّ ملاحظة الضرر أو الحرج أو التقيَّة يُنتج فوات ما هو أهمّ ملاكًا بنظر الشريعة والذي هو التحفُّظ على معالم الإسلام وأصوله عن أنْ تكون في معرض الاندثار.
إذا اتَّضح ما ذكرناه يتَّضح أنَّ موقف الإمام الحسين عليه السلاملم يكن منافيًا للتقيَّة لأنَّ ظرفه لم يكن موردًا للتقيَّة، إذ أنَّه لو عمل بالتقيَّة فقبل البيعةَ ولم يخرج على يزيد فإنَّ النتيجة المترتِّبة على ذلك هي استمرار النظام الأموي في مخطَّطه الرامي لطمس معالم الإسلام الأساسيَّة، وذلك تحت غطاءٍ شرعي دثَّر به نفسه.
وبيان ذلك:
إنَّ النظام الأموي قد روَّج – وبواسطة المتزلِّفين مِن الرواة - أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وآله مفادها وجوب طاعة أولي الأمر وإنْ جاروا وظلموا وأظهروا الفسوق والمعاصي واستأثروا بالفيء وعبثوا في مقدَّرات الناس، وإنَّه لا يجوز الخروج عليهم وشقّ عصا الطاعة بل يجب أداء حقّهم دون مطالبتهم بالحقّ الذي عليهم وإنَّما هو الصبر والاحتساب. هذا ما روَّجه بنو أُميَّة لغرض تخدير الأمَّة ليضمنوا بذلك بقاء سلطانهم، وحينئذٍ يتهيَّأُ لهم تمرير مخطَّطاتهم الرامية لإعادة الأمَّة إلى الجاهليَّة الأولى.
لذلك لم يكن مِن طريق لإيقاظ الأمَّة وحماية خطِّها الرسالي الذي يراد له الامتداد والاستمرار إلاَّ أنْ ينبري رجل هو بحجم الحسين عليه السلامليعلن أنَّ ما يروِّجه الجهاز الأموي مِن وجوب طاعة السلطان الجائر ليس مِن الإسلام في شيء، فلقد كانت الأمَّة تثق في الحسين عليه السلام وبمعرفته التامَّة بمبادئ الإسلام وبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله، فلو كان الأمر كما ينقله الرواة المتزلِّفون عن رسول الله صلى الله عليه وآله لكان الحسين عليه السلامهو أعرف الناس بذلك، فإعلانه الثورة على النظام الأموي تعبير واضح عن تكذيب ما يتناقله الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وآله.
ولم يكن بوسع الحسين عليه السلامأنْ يوصل صوته لجميع الأمَّة ولمستقبلها لو اكتفى بالتكذيب القولي، ذلك لأنَّ مِن اليسير على الطغمة الأمويَّة التعتيم على الحقائق بعد أنْ كانت مقدَّرات الأمَّة كلّها بأيديهم، فالحواضر الإسلاميَّة بأسرها كانت تحت نظارتهم وفي قبضتهم، فَهُم الذين يختارون الولاة وإمام الحاج والقضاة والوعّاظ، وقد كانوا يبذلون الأموال الكثيرة للذين يضعون الأحاديث المناسبة لهواهم ومصالحهم.
فليس ثمَّة مِن وسيلة قادرة على الوصول لجميع مسامع الأمَّة وقادرة على الصمود أمام التعتيم الإعلامي سوى ثورة مجلجلة ومدوِّيَّة يكون رائدها رجل هو ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وأعلمهم بما جاء عنه.
أعتقد أنَّ القارئ الكريم يدرك مستوى الخطورة المترتِّبة على تأصيل المفهوم الذي روَّج له بنو أميَّة، وهو وجوب الطاعة للسلطان وإنْ جار وظلم وأشاع الفساد والضلال، ذلك لأنَّ هذا المفهوم يهدِّد بتقويض كلّ بُنَى الإسلام وقيمه، حيث أنَّ للسلطان ممارسة دور التضليل والتجهيل وترويج المفاهيم المنافية للدين وتأصيلها بواسطة الوسائل الكثيرة المتاحة له ولا يجد مَنْ يقف في وجهه، ذلك لأنَّ المفترض أنَّ الوقوف في وجهه ينافي وجوب الطاعة المفروضة على الأمَّة. وبذلك يسير النظام الفاسد بالأمَّة نحو الانحدار تدريجيًّا حتًّى يصل الأمر إلى حدٍّ تكون الأمَّة قد فقدت هويَّتها ولم يبقَ عندها مِن الإسلام إلاَّ اسمه.
وهكذا الحال فيما يتَّصل بالجانب القيمي والأخلاقي فإنَّه لمَّا كان قادرًا على تسخير كلّ وسائل الإغراء والانحلال والتفسيق وإشاعة الفاحشة مع تعطيل الحدود والتعزيرات في الوقت الذي لا يخشى مِن المواجهة بعد افتراض وجوب الطاعة فإنَّ مصير الأمَّة عندئذٍ هو التحلُّل تدريجيًّا مِن كلِّ القيم والمبادئ الأخلاقيَّة التي حرص الإسلام على تمثُّلها والعمل وفق ضوابطها.
وإذا قيل أنَّ وجوب الطاعة لا يعني إلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنَّ للعلماء أنْ يمارسوا هذا الدور ويعرِّفوا الناس معالم الإسلام.
قلنا: إنَّ العلماء مهما بذلوا مِن جهد فإنَّهم لن يمتلكوا الوسائل التي يمتلكها السلطان بعد أنْ كان زمام الأمور بيده وخزائن الأمَّة في قبضته، وبعد أنْ كان على الناس أنْ توفِّيه حقَّه دون أنْ تكون لهم المطالبة بحقوقهم، فالزكوات والخراج وموارد البلاد إنَّما تجبى للسلطان، فله أنْ يعطي مَنْ يشاء ويمنع مَنْ يشاء، على أنَّ له أنْ يمنع العلماء عن الجأر بالحقِّ أو يضيِّق عليهم، وليس لهم حينئذٍ أنْ يشقُّوا عصا الطاعة.
فلو أنَّ السلطان أغفلهم بل لو أذن لهم أنْ يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ومارس في المقابل دور التضليل والتجهيل وإشاعة الفساد فإنَّ أثر دوره سيكون أبلغ، ذلك لامتلاكه كلَّ منابع القوَّة القادرة على تمرير كلِّ مخطَّطاته ومآربه، كيف والحال أنَّ له أنْ يمنع العلماء عن ممارسة دورهم أو يُضيِّق عليهم في ذلك. إذن فالنتيجة أنَّ بني أميَّة لو لم يمارسوا سوى دور التأصيل لمفهوم وجوب الطاعة للسلطان واعتبار ذلك مِن الدين لكان ذلك كافيًا في تعريض كلِّ مبادئ الإسلام وقيمه للخطر الحتمي.
فلو أنَّهم لم يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله إلاَّ هذه الكذبة والتزموا في المقابل بكلِّ ما جاء به الإسلام مِن قيم ومبادئ فلم يختلقوا على رسول الله صلى الله عليه وآله الأباطيل، ولم يسيئوا إلى مقامه ولم يحرِّفوا عقائد الإسلام، ولم يعبثوا في أحكام الله عزَّ وجلَّ، ولم يستأثروا بالفيء لهم ولأعوانهم، ولم يعطِّلوا الحدود، ولم يشيعوا الفاحشة والفسوق بين الناس، ولم يثيروا الفتن والأضغان القبليَّة، ولم يمكِّنوا ولاتهم مِن رقاب المسلمين، ولم يسفكوا الدم الحرام، لو لم يفعلوا كلَّ ذلك واكتفوا بالتأكيد على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد نهى عن الخروج على السلطان الجائر وألزم الأمَّة بوجوب طاعته واختلقوا لذلك الأحاديث الكثيرة بواسطة الرواة الذين يظهرون التديَّن والنسك واستطاعوا أنْ يؤصِّلوا هذا المفهوم في نفوس الأمَّة.
لو لم يكن إلاَّ ذلك لكان الأمر مستوجبًا لتصحيح هذا الانحراف الذي يُهدِّد بتقويض كلِّ معالم الإسلام، كيف والحال أنَّهم اقترفوا كلَّ هذه العظائم التي أشرنا إليها متخندقين بأسطورة زعموا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد أكَّد عليها واعتبر الخارج عليها باغيًا وشاقًّا لعصا المسلمين ومريدًا لإحداث فتنة في الأمَّة، وهي أعظم جناية يمكن أنْ يرتكبها مسلم في حقِّ ربِّه ودينه، لذلك لم يكن ليجرأ أحد على أنْ يوصم بكلِّ هذه الخصال. فلا بدَّ وأنْ ينهض بهذا الأمر رجل يصعب على بني أميَّة وصمه بذلك كما يصعب على الأمَّة أنْ تسِمه بذلك، وحينئذٍ تتبدَّد الأسطورة وينفتح بذلك طريق النضال الذي أوصده النظام الأموي بذريعةٍ هي بالغة في الاستحكام.
وبنظري أنَّ أعظم أثرٍ ترتَّب عن ثورة الحسين عليه السلام هو هذا الأثر، إذ لولاها لتمكَّن بنو أميَّة مِن تمرير كلِّ مخطَّطاتهم الرامية لطمس معالم الإسلام، ذلك لأنَّ نهضته عليه السلامأوهنت القاعدة التي اعتمدها النظام الأموي لغرض استمرار هيمنته على مقدَّرات الأمَّة، وانفتح بذلك الطريق أمام المناضلين والثوَّار، فليس عليهم مِن حرج عندما يزمعون الخروج على أيِّ نظام فاسد.
وإذا اتَّضح ما ذكرناه يتبيَّن أنَّ ظرف الحسين عليه السلاملم يكن موردًا للتقيَّة وأنَّ إيقاع النفس في التهلكة وإنْ كان متحقِّقًا في مثل نهضته إلاَّ أنَّه ليس مِن غضاضة في ذلك بعد أنْ كان بقاء الإسلام حيًّا نابضًا في ضمير الأمَّة هو الأثر المترتِّب على إيقاع النفس في التهلكة. والحمد لله ربِّ العالمين