وربما نستشهد ـ لتبرير هذه النظرية ـ ببعض الشواهد والنصوص المتفرّقة، منها:
1 ـ ما ورد من طلب الإمام الحسين من والي المدينة ـ عندما طلب منه البيعة ليزيد ـ أن يستمهله فترة، فذهب % إلى مرقد النبي، وهناك غلبه النوم، فرأى النبيَّ في المنام، فطلب منه الحسين أن يأخذه إليه، فأجابه رسول الله -: إن الله شاء أن يراك قتيلاً[10] . فقد يفهم من هذا النص أن هناك اتصالاً غيبياً ما هو الذي حرّك الحسين للثورة، لا أنه كان يريد إسقاط الحكم، ولا أنه أخذ يقدّر الحسابات والأرباح والخسائر، ويقوم بدراسة سياسية ميدانية للموقف.. فهذا ما لا تشير إليه الرواية إطلاقاً، بل الموضوع يغلب عليه الطابع الغيبي غير القابل لإخضاعه لأبعاد عقلانية.
2 ـ ما جاء في حوار الحسين % مع أخيه محمد بن الحنفية، حيث اتفق معه على أن يفكّر الحسين بالأمر، ولا يسارع للخروج لأهل الكوفة بعدما علم من غدرهم بأبيه، ولما علم ابن الحنفية بخروج الحسين فيما بعد طالبه بالموضوع، فأجابه بأنه رأى رسول الله وأنه أخبره أنّ الله شاء أن يراه قتيلاً وأنه شاء أن يرى أهله سبايا[11] . وهذا النصّ كسابقه أيضاً؛ يدلّ على أنّ ثمّة مشيئة إلهيّة خاصّة تعلّقت بحركة الإمام الحسين، وأنّه ما من تفسير يقف خلف هذا الأمر سوى هذه المشيئة الإلهيّة.
3 ـ ما جاء في بعض رسائل الإمام الحسين % لأخيه محمد بن الحنفية، من أنّ من لحق به استشهد، ومن لم يلحق به لم يُدرك الفتح[12] . فهذا النصّ لا يدع مجالاً للارتياب في أنّ الحسين كان عالماً بالهزيمة بمعناها المادي، والذي تعبّر عنه كلمة الشهادة، ولا يعقل أن ينطلق شخص لتغيير واقع قائم وهو على يقين بأنّ الأمر سيؤول إلى الموت والهزيمة وعدم النجاح.
4 ـ ما جاء في حوار عبد الله بن جعفر أو مكاتباته مع الإمام الحسين، حيث ورد فيها أنّ الإمام أخبره بأنّه رأى رسول الله في المنام، وأنّه أمره بأمرٍ وهو ماضٍ إليه، وقد رفض الحسين إخبار عبد الله بن جعفر بمضمون الرؤيا التي رآها، وذكر له أنّه لن يحدّث بها حتى يلقى الله عز وجل، وفي بعض صيغ القصّة أنّه أخبره بموته[13] . فهذا يدلّ أيضاً على هذا البعد الغيبي الذي يتصل بهذه القضيّة فيما تعطيه مسألة الاتكال على الرؤيا من دلالات، فلو كان هناك مبرّر عقلاني سياسي لذكره بدل الاعتماد على رؤيا رسول الله -.
5 ـ ما جاء في بعض النصوص والكلمات، أنّ الإمام الحسين كان يردّ بعض الذين كانوا يطالبونه بعدم الخروج بأنّه سيستخير الله تعالى، كما جاء في ردّه على المسور بن مخرمة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مطيع[14] ، فلماذا لم يوضح لهم المبرّرات بدل أن يقول لهم: إنّه سوف يدعو الله لما فيه الخير وينظر في الأمر؟! بل لو فسّرت الاستخارة بما صار لها من معنى اليوم بين المتشرّعة لكان البُعد الغيبي أكبر وأوضح، وإن كان هذا المعنى بعيداً هنا[15] .
6 ـ إنّ إقدام الإمام الحسين % على تعريض نفسه للموت وهو يعلم بأنّه سوف يستشهد يعدّ ـ من الناحية الشرعية ـ إلقاءً للنفس في التهلكة، فيكون محرّماً، وهذا معناه أنّ هذا التصرّف من الإمام انطلق من خصوصية له، وإلا فلو لم يكن الأمر كذلك للزم الالتزام بارتكابه الحرام وتعريض نفسه للهلاك، وهو التزام غير مقبول إطلاقاً.
7 ـ ما جاء في حوار الإمام مع عمرو بن لوذان عندما التقاه بُعيد خروجه من مكّة عند بطن العقبة، فبعد أن ذكر له عدم الذهاب، أجابه الحسين % بالقول: "يا عبد الله! إنّه ليس يخفى عليّ الرأي ما رأيت! ولكن الله لا يُغلب على أمره.. "[16] ؛ فهذا كلام واضح في أنّه يستصوب موقف ابن لوذان، وأنّ ذلك لا يخفى عليه، لكنّه يتحرّك بمشيئة إلهية تكوينية لا تحكمها حسابات البشر في قضايا السياسة والمواجهة.
8 ـ حاول بعض العلماء أن يقارن بين ثورة الحسين وبين فقه الجهاد في الإسلام؛ فرأى أنّها تمتاز عن الجهاد العام في الشريعة؛ فهي لا تخضع لقانون سقوط وجوب الجهاد بزيادة عدد العدو عن الضّعف، وكذلك يشترط في الجهاد عدم ظنّ الهلاك دونها، والجهاد لا يجب على الشيخ الهرم والصبيّ الصغير مع أنّه شارك فيها هؤلاء، فهذا كلّه شاهد اختصاصها[17] .
9 ـ ما جاء في كلمات الإمام الحسين وهو في الطريق يتحدث عن كتابة الموت على ولد آدم مخطّ القلادة في جيد الفتاة، ويتكلّم عن أوصاله المقطّعة بين النواويس وكربلاء، وأنّه لا مفرّ عن يوم خطّ بالقلم[18] ؛ فهذا كلّه شاهد أكيد أنّه كان يتجه نحو مصير مأساوي محدّد سلفاً، لا نحو مشروع إسقاط سلطة سياسية فاسدة. فهذه الشواهد ـ وغيرها ـ تؤكّد هذا الأمر، وإلا لو كان لديه مخطّط سياسي اجتماعي لبيّنه لأقرب المقرّبين إليه وهو ابن الحنفية، ولم يستعض عنه بقضية الرؤيا التي رآها، كما يعبّر بعض أساتذتنا[19] .
2 ـ 1 ـ قراءة نقدية في نظرية التخصيص واللامعقول الحسيني
ويمكن أن تناقش هذه النظرية من جهات:
أولاً: إن هذه النظرية والنصوص التي تدعمها تعارضها نصوص أخرى، يقدّم لنا الإمام الحسين % فيها تفسيرات عقلانية لثورته، مثل النصوص التي يشير فيها إلى قضيّة الانحراف عن الحقّ، وإلى ترك المعروف، وفعل المنكرات و.. وجعلها أسباباً ودوافع لحركته، وهذه النصوص الكثيرة المتفرّقة كلّها تعارض هذا التفسير الغيبي المتعالي عن التعقيل والعقلانية[20] . ومن نماذج هذه النصوص ـ عدا ما سيأتي ـ ما ورد في كلماته % التي يفسّر فيها مبرّرات ثورته، مثل ما رواه الطبري وابن الأثير وغيرهما في التاريخ عن أبي مخنف عن العقبة بن العيزار: إن الحسين خطب أصحابه..: «أيها الناس! إنّ رسول الله - قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله -، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غيري..» [21] . فهذه الرواية تجعل حركة الحسين في هذا الإطار الذي أسّسه الرسول -، مما يمكّننا من الاستناد إليها للترخيص في مواجهة الظالم الذي يتصف بهذه الصفات المذكورة أعلاه، وهو غير خاص بعصر حضور المعصومين، بل يوجد بعدهم إلى يوم الدين. وفي خطبة له % أنه قال فيها ـ وقد رويت لنا بالسند المتقدم ـ: «.. ألا ترون أن الحقّ لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت إلاّ شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماً..» [22] ، ووردت في مصادر أخرى مع تغيير «إلا سعادة» [23] ، وفي بعض المصادر: «.. مع الظالمين إلا ندامة» [24] ، وفي بعضها: «إلا ندماً» [25] . فالمعيار في هذه الثورة هو عدم القيام بالحقّ بل عمل السلطة بالباطل، وهو معيار كلّي عقلاني ومفهوم، يجعلنا قادرين على الاستفادة من هذه الثورة لتأسيس مبدأ في شرعية الثورات العسكرية المسلّحة ضد الأنظمة الفاسدة.
ثانياً: إنّ بعض النصوص المروية عن الإمام الحسين % مثل ما تقدّم، تفيد أنه كان يجعل نفسه مصداقاً لقولٍ عام صدر عن رسول الله -، فعندما يستشهد الحسين بقول جدّه في ضرورة مواجهة انحراف الظالم، فهذا معناه أنه يعتبر نفسه مصداقاً لعنوان كلّي وتكليف عام، وهو ما يبعّد احتمال الخصوصية[26] .
ثالثاً: إن النصوص المستدلّ بها هنا حتى لو ثبتت لا تدل على المطلوب؛ إذ لا ملازمة بين أن يعرف الإنسان أنه سوف يستشهد في ثورته وبين أن تكون هذه الثورة غير عقلانية وخاصّة به، فقد يقدّر مصلحةً للأمة في شهادته، فلا ملازمة بين الأمرين حتى عند الثوار الماديين فضلاً عن الدينيين، فعلم الإنسان بشهادته لا يعني عبثية حركته دائماً، بل يمكن تقديم تفاسير عقلانية لذلك[27] ، وسوف نرى في النظرية الثالثة القادمة تفسيراً ممتازاً يجمع بشكل منطقي وعقلاني بين هذه الأمور كلّها.
رابعاً: إنّ غاية ما تدلّ عليه جملة النصوص المتقدّمة أو أغلبها، أنّ الإرادة الإلهية قد تعلّقت بشهادة الحسين، وهذا لا يعني أنّ هذه الشهادة غدت خاصّة به؛ بل هذا المدلول أعمّ من الاختصاص وعدمه، وإلا فنحن نعلم أنّ الإرادة الإلهية والمشيئة العليا الربانية قد اقتضت وقوع صلح الإمام الحسن، ومن المؤكّد أنّ الإمام الحسن بن علي قد علم بإلهامٍ من الله ـ بحكم إمامته وعصمته وفق المعتقد الشيعي ـ أنّ التكليف الشرعي يستدعي منه أن يوقع الصلح مع معاوية، لكنّ هذا لا يعني أنّ هذا الصلح ـ وأيّ صلحٍ مع البغاة ـ خاص بالمعصوم، ومجرّد أنّ النص بيّن لنا تعلّق المشيئة بشهادة الحسين وسبي نسائه لا يعني الدلالة الحصرية على أنّ أمراً من هذا النوع لا يمكن أن يتعلّق بغيره، وهذه نقطة بالغة الأهمية، ولا يوجد عندنا أصل اسمه أصالة الاختصاص بفعل الأئمة، وإلا فلو شككنا في أنّ فعلهم كان خاصّاً بهم أو تطبيقاً لحكم إسلامي عام للزم عند عدم إحراز الخصوصية أن لا نستدلّ بفعلهم، وهذا ما لن يقف عند الإمام الحسين % بل سيطال مجمل أفعال المعصومين إلا ما حصل يقين من الخارج بأنّ هذا الفعل ليس فيه أي خصوصيّة، ومعه لن يصبح فعل المعصوم حجّةً إلا في موارد قليلة، ولا نظنّ أنّ هذا مما يلتزم به صاحب هذه النظرية نفسه. واستتباعاً لما تقدّم، فإنّ تعلّق المشيئة الإلهية قد يكون لأجل النهوض بالأمة وإحداث تغيير فيها عبر الشهادة نفسها؛ وهذا معناه ـ إذا أردنا استخدام التعبير الأصولي ـ محكومية هذه الأدلّة التي تدعم هذه النظرية لأيّ دليل آخر أو فرضية معقولة يمكن أن يقيمها الطرف الآخر؛ لأنّ هذه الأدلّة هنا تفيد تعلّق المشيئة بالشهادة، فإذا استطعنا أن نتعقل وجهاً منطقيّاً لإرادة الشهادة نفسها بحيث تكون الشهادة ذات دور في إحياء الأمة، فإنّ هذه الأدلّة لن تعارض تلك التفسيرات المعقولة، كما هو واضح؛ لأنّها سوف تفسر تعلّق المشيئة ولا تنفيه إطلاقاً.
خامساً: قد بحثنا في دراسة أخرى حول حجية الفعل النبوي[28] ما توصّلنا من خلاله إلى أنّ المرجع عند الشك في اختصاص النبي بفعل وعدمه أن نحمله على عدم الاختصاص إلا في بعض الحالات القليلة التي فصّلنا الكلام فيها هناك؛ فإذا كان الشكّ في الاختصاص موجباً لعدم الاختصاص ـ إن صحّ التعبير ـ في الأفعال النبوية، فهو كذلك ـ بطريق أولى ـ في أفعال أهل البيت؛ لندرة الفعل الخصوصي عندهم نسبةً لما عند رسول الله، كما يظهر بمراجعة الأبحاث الفقهية والأصولية عند الشيعة والسنّة في هذا الموضوع. فالجدير ذكره أنّ مسألة الأفعال المختصّة بالمعصوم والتي لا يمكن الاستناد إليها في الاجتهاد الفقهي مسألة طرحت في حقّ النبي ص ، وقد لا تجري في حقّ أهل البيت «؛ لعدم وجود خصائص معتدّ بها لهم، كما يصرّح بذلك بعض علماء الإمامية[29] ، إلا ما قيل من بعض الأمور، مثل جواز الجنابة لعلي% و.. في المسجد وما شاكل ذلك[30] ، إلا أنّ مراجعة خصائص النبي ص في باب النكاح من مصنّفات الفقه الإمامي تؤكّد لنا أنّ السائد بين الإمامية عدم وجود خصائص شرعية لهم، اللهم إلا خصائص في مقام الإمامة والولاية، وهذا بحثٌ آخر، وأمّا بعض الكتب المسمّاة بخصائص الأئمة، مثل كتاب خصائص الأئمة للشريف الرضي، فهي تحتوي على درر كلماتهم وروائع مقالاتهم[31] ، لا أنّها تذكر الخصائص بالمعنى الفقهي والأصولي الذي نقصده هنا، نعم الخصائص التكوينية كالعصمة والعلم والكرامات و.. كلّها خارجة عن إطار بحثنا؛ لدخولها في مجال الخصائص الخارجية لا التشريعية. وقد يستند للتعميم هنا ورفع الخصوصية بما دلّ من النصوص على أنّ الحسين قدوة ومصباح يقتدى به ويستضاء بنوره؛ كقول رسول الله ص -: "الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة"[32] ، فإنّ هذه النصوص ـ كما يقول السيد محمد باقر الحكيم ـ تريد أن تعرّف الحسين سلوكاً قابلاً للاقتداء، وهي من ثم ترفع الخصوصية المفترضة في أعماله[33] . لكنّ الصحيح أنّه إذا قامت الشواهد على الخصوصية في هذا الفعل أو ذاك لم يعد يمكن لمثل هذه النصوص أن تقف في وجهها، فرسول الله - ورد القرآن فيه بأنّه أسوة «الأحزاب: 21»، لكن مع ذلك كانت له خصائص تشريعية لا تشمل غيره، كما اتفق عليه المسلمون تقريباً، وأمّا إذا لم تقم الشواهد على الخصوصية هنا أو هناك، رجعنا إلى دليل حجية فعل المعصوم، وكان كافياً في المقام، وقد كنّا أشكلنا على الاستناد لمثل هذه الروايات ـ بشكل عام ـ في مسألة حجية فعل المعصوم، وقلنا: إنّها مفيدة لكن بقدر، فليراجع.
سادساً: إنّ الروايات التي تشير إلى استخارة الإمام الحسين لا تنفع هنا؛ لأن الاستخارة هي طلب الخير، فكأنه قال: سوف أسأل الله أن يكتب لي ما فيه الخير، وهذا ليس إغراقاً في الغيبية التي تنفي التفسير المعقول لهذه الحركة، فضلاً عن اختصاصها بالمعصوم، ويعزز هذا الكلام أنّه % ذكر في بعض هذه الروايات ـ كما في خطابه لابن عباس ـ: "أستخير الله، وأنظر ماذا يكون"، فهذا معناه أنّه كان يريد التأمل في هذا الموضوع، والتأمّل يقرّب الصورة من المشهد العقلاني، كما أنّ في بعض الروايات أنّه في النص نفسه الذي تحدّث فيه عن الاستخارة بيّن مبررات ذهابه إلى الكوفة، وأنّ إرسال الكتب إليه والرسائل تدعوه للتوجّه ناحيتها هو الدافع والمرجّح لذلك، كما جاء في مثل خبر الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي[34] . وهناك احتمال يرد في بعض النصوص ـ لا جميعها ـ التي نجد الإمام الحسين % يأبى فيها الجواب عن سبب خرجوه أو يحاول التهرّب من الجواب بطريقة أو بأخرى، وهو أنّه قد لا يريد البوح لأيّ إنسان بمخطّطاته، وهذا عمل منطقي ومعقول يحافظ فيه على بعض السرية أحياناً في مشروعه.
سابعاً: إنّ الحديث عن مسألة إلقاء النفس في التهلكة يمكن الجواب عنه بما ذكره بعض العلماء الباحثين من أنّ فعل الإمام ذلك يمكن أن يعدّ دليلاً على جواز العملية الاستشهادية هذه؛ كونه يخصّص الإطلاقات الموجودة في نصوص تحريم تعريض النفس للتهلكة، فبدل أن يكون هذا الحكم موجباً لجعل الثورة خاصة بالحسين يمكن أن يكون موجباً لتخصيص دليل حرمة تعريض النفس للتهلكة فيما لو كانت هناك مصالح إسلامية عليا. علماً أنّه لو كانت الثورة خاصّة بالحسين بوصفه معصوماً فما معنى مشاركة أهل بيته وأصحابه فيها؟! [35] ، إلا إذا قيل: إنّ الخصوصية تستوعب ـ أيضاً ـ هذا العدد من المحيطين بالمعصوم.
ثامناً: لنفرض أن بعض الأحكام التفصيلية لم تتوافق فيها ثورة الحسين مع القواعد العامّة في فقه الجهاد في الإسلام؛ فهذا لا يعني صيرورة الثورة خاصّة بالحسين، بل هذا يعطيها خصوصية في موردها من حيث طبيعة الاستثنائية التي كانت تحيط بها، فهذا مثل بعض العناوين الثانوية التي قد تسقط الكثير من العناوين الأولية في موردها، فأيّ تلازم بين هذا الأمر وبين خصوصية الثورة أو لا معقوليّتها. يضاف إلى ذلك، أنّ ما ذكر من خصوصيات لا نحرز كونه خصوصية على تمام النظريات الفقهية، فالجهاد ليس واجباً على الأطفال لكنّه ليس محرّماً لو رضي أهلهم بذلك، وأرادوا هم ذلك، وكانت فيه المصلحة للمسلمين، كما أنّ عدم ظنّ الهلاك إن قصد به الظنّ الذي هو دون اليقين فهذا ليس بشرط في الجهاد قطعاً، وإلا فكلّ جهاد أو أغلب أشكاله فيه ظنّ الهلاك كما هو واضح، وإن قصد به اليقين بالهلاك فهذا ما يسمّى في عصرنا بالعمليات الاستشهادية، وقد بحثناها مفصّلاً في موضعها، ورأينا كيف أنّ هناك نظريات فقهية تجيزها طبقاً لقواعد الصناعة الفقهية، وأنّ ثورة الحسين % نفسها شكّلت أحد الأدلّة التي طرحت أو يمكن أن تطرح هناك. وأمّا مسألة اشتراط الضعف لا أزيد في الجهاد، فقد حقّقناه بالتفصيل، وقلنا: إنّه شرط الوجوب، لكنّه ليس شرط الجواز، فقد يكون جائزاً حتى من دونه.
تاسعاً: إنّ الشاهد الثاني هنا ـ وهو خبر حواره % مع محمد بن الحنفية واحتجاجه بالرؤيا التي رآها ـ يرجع مصدره الرئيس إلى كتاب اللهوف لابن طاووس «664هـ»، وقد نقل البقية عنه، ولم أعثر على هذه القصّة في مصدر أسبق من هذا المصدر، وسند السيد ابن طاووس إلى الأصل الذي نقل عنه غير معلوم، فالاحتجاج بهذه الحادثة مشكل. نعم ورد خبر المنام في أمالي الصدوق[36] ، لكن بسند ضعيف بجهالة بهجة بنت الحارث بن عبد الله التغلبي المهملة جداً في مصادر الرجال الشيعية والسنيّة، وكذلك إهمال كل من صفية بنت يونس بن أبي إسحاق الهمدانية ومريسة بنت موسى بن يونس، اللتين لا ذكر لهما عندهم[37] ، فالسند مشكل جداً. أمّا خبر عمرو بن لوذان فلا يستند إليه أيضاً؛ لأنّه بهذه الصيغة ورد تارةً مرسلاً كما في إرشاد المفيد، وأخرى بسند فيه لوذان أحد بني عكرمة، وهو رجل مجهول جداً لا ذكر له في مصادر الرجال الشيعية والسنيّة؛ فالاستناد إلى مثل هذه الأخبار ـ مع قلّة ناقليها ومصادرها التاريخية والحديثية ـ مشكل. كما أن خطبة الإمام الحسين التي يعلن فيها شهادته، ويتحدّث عن أوصاله المقطّعة بين النواويس وكربلاء، لم ترد في مصادر التاريخ الأولى، وإنّما جاءت في مصادر متأخرة بلا سند، والأغلب أَخَذَها من كشف الغمة واللهوف؛ فيصعب الاستناد إليها أيضاً. من هنا، نستنتج أنّ الثورة الحسينية ليست من خصائص الإمام الحسين % حتى نخرجها عن دائرة الاستناد الفقهي هنا، فضلاً عن أنّ العديد من الروايات التي تعدّ شاهداً لهذه النظرية يصعب إثباته تاريخياً وحديثياً، كما ألمحنا إلى بعضه آنفاً.
2 ـ نظرية المواجهة المفروضة والفرار من البيعة : تذهب هذه النظرية إلى أن ثورة الحسين % لم تهدف لا إسقاط نظام فاسد، ولا إحياء ضمير الأمة و.. وإنما كانت تريد الفرار من بيعة يزيد بن معاوية، فلو لم يحاول بنو أمية الضغط على الحسين % كي يبايع يزيداً لظلّ في المدينة معتزلاً الأمر، لكن حيث فرضوا ذلك عليه، وأصرّ على موقف الرفض، لم يجد بُداً من المواجهة، فالمواجهة لم تكن مشروعاً بقدر ما كانت فراراً واضطراراً فرض على الحسين ولو تمكّن من رفعه لفعل[38] ، ولولا أنّه كان مهدّداً بالاغتيال لما خرج[39] ، من هنا كانت حربه حرباً دفاعية[40] . ويبدو من بعض الباحثين الكبار هنا أنّهم يرون صواب هذه النظرية ولو في المرحلة الأولى، أي مرحلة الخروج من المدينة إلى حين وصول الكتب وتواتر الرسائل الى الإمام الحسين وهو في مكة، ويظهر هذا الرأي من هبة الدين الحسيني الشهرستاني[41] وسيأتي ما يتعلّق برأي الشهيد مطهري، إن شاء الله تعالى.