الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ثم اللَّعنُ الدائمُ المؤبَّدُ على أعدائهم أعداء الدين.
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾[1] .
اللهم وفِّقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيَّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا ربَّ العالمين.
قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ﴾[2] .
لقد تحرك النبي الأعظم بعد هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بأنواره على أساس من ربط الأخوَّة بين أبناء المجتمع الجديد، الذي تتمازج فيه كثير من الألوان التي اكتنزتها نفوسٌ لها أكثر من مشرب ومشرب، من حيث البناء الفكري والاجتماعي والمالي. فهناك جماعة مهاجرة، أيديها خلاء من كل شيء إلا القناعة بالرسالة الحق التي جاء بها الحبيب محمد . وجماعة أخرى تتقلب النعم بين أيديهم، غير أنهم خلاء من مبادئ المعتقد. وقد كان للمجتمع المكي خصائصه، فهم سادة الناس في جزيرة العرب، كما يرون أنهم سادة الأمم جميعاً من حولهم، أما المجتمع المدني فكان يحمل أكثر من مسار ديني، وينطبع بأكثر من هوية وانتماء، وهو بذلك يمثل الانفتاح في مقابل الانغلاق الذي مثّله المجتمع المكي. والتقاء الفكر المنفتح بالآخر المنغلق يحتاج إلى جسور توصل بينهما. وعندما يكون القائد حكيماً مدركاً معصوماً، تكون الأسباب بين يديه. لذلك تحرك النبي في وسط ذلك المجتمع الجديد الذي حمل صفة الإسلام على أساس مدّ يد الأخوة بين المهاجري والأنصاري.
يقول النبي : «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»[3] . فإن كان ذلك المجتمع يحمل من الخصائص ما يستوجب أن يتدخل صاحب التشريع، والرمز الأول، لإحداث حالة الاتصال بين المسارين، فإن خمسة عشر قرناً من الزمن قطعتها الأمة بين ليالي وأيام، لكفيلة بأن تلغي الكثير مما يستوجب العنت، لتعيش الوحدة والانسجام.
وبظني أن أولئك الذين يحاولون رسم واقع جديد، سواء في المجتمعات الصغيرة أو الكبرى من حولنا على أساس من زرع بذرة التفرقة والانشقاق والتهميش والتسقيط والمضايقة، إنما يلعبون في الوقت الضائع، لأن المترتب على هذا أمر خطير جداً، فالإسلام بنى قوته على أساس من الانسجام والألفة والاتحاد والأخوة والمحبة والصحبة، وهي مفاهيم كان لها أثر إيجابي كبير في أن يأخذ الإسلام وضعه الطبيعي، وما أحوجنا في هذه الفترة من الزمن، ونحن نعيش انعطافةً خطيرةً حادة جداً، أن نرجع إلى الثوابت الأصيلة من المفاهيم التي سعى النبي أن يوجد لها واقعاً في النفوس قبل أن يوجده في عالم الخارج. ومن يقرأ صفحات التاريخ المدني سوف يجد أن الأنصار لم يبخلوا بشيء، فقد ضحَّوا بكل غالٍ ونفيس، واستوعبوا القادم إليهم كأفضل ما يكون.
وفي وضعنا اليوم ـ أيها الأحبة ـ نرى أن مساحات الالتقاء أكثر من أن تُعدَّ وتحصى، وبناءً على هذا لا بد من إعداد الآلية والأجندة المتناسبة مع تخطي ما يراد له أن يكون حاكماً في هذا الوضع. فإن الرجل بلا أخٍ، كاليمين بلا شمال. فلا بد من أخٍ يكون ناصراً ومعيناً، وقد تكون النصرة والإعانة في جانب واضحٍ وبين، وقد تكون في جانب خفي. يقول النبي : «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل يا رسول الله، هذا أنصره مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تحجزه وتمنعه فإنَّ ذلك نصره»[4] . إننا اليوم في مسيس الحاجة لتشخيص المورد الثاني، وهو نصرة الظالم، وإعطاء حالة من الدفع له.
ويذهب بنا الإمام أمير المؤمنين إلى مسافات بعيدة في جانب اتخاذ الأخ كما ينبغي أن يكون، وكما قدمه لنا الإمام العسكري في صفة الصديق أو الأخ أو الخليل. يقول : «صديقُكَ أخوكَ لأبيك وأمك، وليس كلُّ أخٍ لك من أبيك وأمك صديقَك»[5] . وورد في المثل: صديقُك من صَدَقَك، لا من صدَّقك، وما نعيشه اليوم من إشكالية أننا لا نقبل إلا الصديق الذي يصدّق الأقوال والأفعال، أما من يكون صادقاً معنا، فإن أحسنّا قال: أحسنتم، وإن أسأنا يقول أسأتم، فإننا نقبله في الإحسان ونتحفّظ عليه في الإساءة ﴿ تِلْكَ إِذَنْ قِسْمَةٌ ضِيْزَى ﴾[6] . فيفترض أن يكون الميزان والمعيار واحداً، بل ربما يكون الطرف الثاني من المعادلة أهم من الطرف الأول، فالإنسان يمكنه الاستغناء عن نصرة الناصر وهو مظلوم، ويتحمل ما يترتب على الظلم حتى الشهادة، وهي كرامة وحسنة لا تضر معها سيئة، لكن الأخطر أن يكون الإنسان في موقع الظلم لنفسه ولأسرته ولمجتمعه ولأمته، وحتى لمعتقده إذا اتصف بصفة المذهبية، ولدينه الإسلامي الذي جاء به المصطفى محمد .
يقول النبي الأكرم : «المرء على دين خليله وقرينه»[7] ، أعلمني من تصحب أعلمك من أنت... أعلمني مع من تجلس وتذهب وتعمل وتدرس وتلعب، وعلى أساس منه أقدم لك شرحاً تفصيلاً لما أنت عليه.
دعائم ومقومات الصحبة:
إن مقومات الصحبة الصالحة، والأخوة المقربة من الله تعالى كثيرة، أقف عند قليل منها:
1 ـ أن يتصف الصاحب أو الأخ والخليل بالعقل والرفق في الأمور، فعن أهل البيت : «إن الرِّفقَ لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه»[8] فكل ما دخل فيه العقلنة والتروي وقراءة الهدف بدقة فهو حسن. فإذا كان الصاحب أو الصديق أو الخليل أو الرفيق متصفاً بالعقل وحسن الروية كان جديراً بالتحرك معه في مسيره. وقديماً قيل: عدوٌّ عاقل خير من صديق جاهل. وفي رواية: «إياكَ ومصاحبةَ الأحمق، فإنه يريد أن ينفعَك فيضرك»[9] . فالجاهل حتى لو أراد أن ينفعك إلا أنه يمكن أن يرديك بجهله، ويجعلك بحال أسوأ مما كنت عليه.
2 ـ حسن الخلق، وزينة حسن الخلق ضبط النفس عند الغضب، فربما يستثيرك موقف أو كلمة في المنزل أو الشارع أو المكتب أو غيرها من المساحات التي تتحرك فيها، فكيف يمكنك أن تستوعب الموقف وتتخطاه بحيث تصل إلى النتيجة الفضلى؟ وإلى أي مدىً أعدّ الإنسان نفسه ليتجاوز هذه الحالة بضبط النفس؟. إن الإنسان إذا تملّك نفسه عند الغضب تحلحلت القضايا جميعاً الواحدة تلو الأخرى، أما إذا اندفع مع تلك الثورة التي تعتري النفس، بما يستوجب أو ما لا يستوجب، فما وراء ذلك إلا الضياع.
يقول الإمام أمير المؤمنين :
إن أخاك الحق من يسعى معك=ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمانٍ صدعك=شتت فيك شمله ليجمعك
فهل أن هذا الميزان معمول به اليوم؟ أم أننا نرى من يشتت شمل أمة بأجمعها، ويضيِّع طائفة بأكملها من أجل مصلحة فرد معين؟.
3 ـ الصلاح والخوف من الله تعالى، فمن لا يخاف الله تعالى لا يخاف أحداً من الناس، ويعني فيما يعنيه عدم تشخيص المصلحة لنفسه، ومن كان عاجزاً في هذه الدائرة فهو عن غيرها أعجز، ومن قصر عن إدراك مصلحة نفسه لا يمكنه أن يبحث عن مصلحة غيره، وهذه جِبلّة إنسانية.
4 ـ أن لا يكون حريصاً على أمور الدنيا، لأن الصحبة إذا كانت على هذا الأساس المادي فهي السم القاتل، إذ لا محبة في الله، ولا رغبة في الوصول إلى هدف سامٍ، وإنما هي في دائرة المادة، فإن تقضّت أسبابها، وانتهى أمدها، انتهى كل شيء من تلك الصحبة، وصار من كان يبحث عنك ليصل إليك، يبحث عن مهربٍ منك.
5 ـ الصدق: وما أحوجنا إلى هذه الخصلة لتتسيَّد الموقف فيما بيننا، لأن من كانت صفته الكذب فإنما يرسم على صفحة سراب، تظنه بين يديك وهو بعيد، وكلما اقتربت منه ابتعد، وما وراء ذلك إلا الظمأ، ولا تحصل من وراء الكاذب إلا التعب. ثم إن الكذب حبله قصير، فمن لم يكن صدوقاً صعب التعامل معه. وقد جاء في مضمون الروايات الشريفة أن الناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من هو مثل الغذاء، لا يُستغنى عنهم، وهم من يقربون الله تعالى ومن المصلحة العامة والخاصة، ويتحركون في دائرة الله تعالى. فهل منا من يستطيع الاستغناء عن الغذاء اليومي من الأكل والشرب؟ هكذا حال بعض الأصدقاء الذين لا تستطيع أن نستغني عنهم؛ لأن حياتهم كلها منفعة. ومنهم من هو كالدواء، لا تحتاجه إلا عند الضرورة، فالدواء يُعطى للعليل، أما السليم فلا ينفعه، بل ربما أضر به. ومنهم من هو كالدَّاء، فهل يسوغ لأحد منا أن يقترب من المرض؟ أم أن الجميع يفر منه ويحاول أن يجد الحلول.
سئل نبي الله عيسى : من أدبك؟ قال: ما أدّبني أحد[10] ، رأيت قبح الجهل فجانبته[11] .
فالصديق الجاهل داءٌ عضال، إذ إنه يكون معك في أمر، ويزيّن لك الأمور، حتى إذا ما انقلب الحال انقلب ضدك، وربما ارتكب جريمة ثم شهد عليك بارتكابها معه. ولو رجعنا إلى ملفات الحقوق لوجدنا الكثير من القضايا التي تبين مشاركة الجاهل لغيره في القتل، أو يهيئ له أسباب السرقة ثم يشهد عليه. فعلينا أن نلتفت إلى أنفسنا، لكي لا تصل الأمور إلى هذا الحد.
حوزة النجف الأشرف:
لقد قطعنا شوطاً لا بأس به في البحث حول حوزة النجف الأشرف، ويمكننا بعد ذلك أن نقول: إن النجف رقم أساس في المعادلة لا يمكن أن يتخطاه أحد من المسلمين عامة، فالموالي والمخالف يرى أنها كذلك، لما رسمته من حولها من مكانة في جانبها الروحي والعلمي والفكري والجهادي وما إلى ذلك. نعم، في مراحل ومحطات معينة كان المشهد يضعف أحياناً، ولكن سرعان ما يشتد ويشغل المساحة المتقدمة في صفوف الأمة وحركتها.
عوامل التميز في حوزة النجف:
وروافد هذه المدرسة كثيرة، منها:
1 ـ فيوضات مولى المتقين على من كان في النجف: فروح الإمام علي ونورانيته وقدسيته يستشعرها الإنسان وإن كان بعيداً عنها، فكيف به إذا كان قريباً منها؟!
يقول الإمام الشهيد الصدر «رض»: إذا اشتدت عليّ معضلة علمية قصدت الإمام علياً . والسر في ذلك أن حالة القرب تولد الصفاء، فإن عاش الإنسان صفاءً تهيأت له أسباب التفسير الصحيح، وراح يرتب المقدمات فيخلص إلى النتائج. فهنالك فيض علوي على النجف ومن حلَّ فيها. كما أن للنبي فيضاً من نوع خاص يستشعره من يعيش قريباً منه، فالألق والنور لا يحجبه حاجب، إنما قد يَحدُّ من عالم الرؤية، وليست العلة في النور إنما هي في العاكس.
2 ـ طابع الإخلاص بشكله العام: فلذلك أثره الكبير في حوزة النجف. ويتحقق الإخلاص من خلال ترويض النفس بالعبادة، ولا شك أن الميزان مختلف بين من يعيش في البادية ومن يعيش في الحاضرة، لا سيما من يعيش في موطن فيه المساجد والحسينيات ومجالس الذكر، حيث تكون أسباب التوجه العبادي أكثر مما هي عليه في مواطن أخرى لا تحظى بهذه الخصائص. كما أن أجواء الأمن والاطمئنان تترك للإنسان مساحةً يتعاطى على أساسها الطقس الديني كما ينبغي، وكل ذلك له انعكاسه الإيجابي على الإنسان. لذا نجد في فتاوى علمائنا من جميع المسلمين، أن المسلم إذا خشي على معتقده تعيَّن عليه الهجرة وترك المحل الذي يقل فيه الدين. ومن هنا فإن المسلم عندما يستحضر أنه في محضر قدس الإمام أمير المؤمنين أو الكعبة المشرفة وأمثالهما من الأماكن المشرفة يجد أن الصلاة والدعاء لهما طعم خاص، بل إن الصلاة في الصحن الشريف تختلف عما هي عليه في الرواق، والرواق عمّا تحت القبة. وكذا الحال في المسجد الحرام، فالصلاة في الساحة الخارجية تختلف عن المسعى، والمسعى عن صحن الحرم، وهكذا حتى نصل إلى مقام إبراهيم. فهناك حالة من الفيض الإلهي يعيشها الإنسان، لأنه يبتعد عن عالم المادة وينصهر في عالم الوحدة، فتنمو لديه حالة التركيز وتشتد، ثم تذوب وتزول الأدران العالقة بالنفس.
3 ـ الابتعاد قدر الإمكان عن دائرة الأضواء: فالمعروف عن سيرة الكثير من علماء النجف «نوّر الله أضرحة من مضى منهم، وحفظ الله من بقي» الابتعاد والانسحاب من ساحة البريق وتسليط الأضواء، وهذه لا تتأتى حتى يصل الإنسان من خلال المرحلة الأولى «أي إخلاص العبادة وتزكية النفس» إلى مقام يؤهِّله أن يكون في هذا الموقع الجديد، وإلا من منا لا يطمح أن تكون الأضواء مسلطة عليه؟! نعم، قد يتطلب الحال أحياناً تسليط الضوء بحق، وهنا تكمن المفارقة بين مسار الحق والحقيقة، ومسار الباطل والضلال، وقد أشرت في يوم من الأيام إلى التقديس الشكلي والتقديس الواقعي، حيث إن البعض قد لا يقبل بتسليط الضوء عليه مع أنه بحق، وبالمقابل هناك من هو مبتلى بداء الظهور، إلا أنه لا يعترف به، بل إنه لا يريد أن يشعر نفسه أن هناك ما يشير أن ثمة داء يكمن في داخله. فعلماء النجف بشكل عام يتميزون بهذه الميزة من الابتعاد عن الأضواء وحب الظهور.
4 ـ العمق العلمي والمعرفي لدى علماء النجف: وهو أمر لا يمكن أن ينكَر، لذا قصد النجف حتى من لم يكن يعتقد بمسارها ومشربها المذهبي، ليستكشف بعض الحالات والحقائق. وبالعودة إلى الموسوعات التاريخية التي كتبت حول النجف نجد أن الكثير من الرموز الفكرية قصدت النجف، واقتربت من مساحة علمائها وأخذت منهم.
وهذا الأمر في غاية الأهمية، لأن من أهم عناصر الحوزة العلمية قدرتها على استيعاب ألوان الطيف من حولها، وهذا سر كامن يعطي حالة من الدفع والقوة للمسار العلمي عند مدرسة آل البيت . وهذا العمق العلمي لم يأت بضربة حظ، ولا بمرسوم من قيادة رسمية، إنما هو وليد الواقع الذي كان يفرض نفسه.
والواقع العلمي المذكور وإن كان يتعرض في بعض المراحل إلى الضعف، إلا أنه لا يموت، فالعلم يمرض ولا يموت. فالطابع العلمي العام في حوزة النجف تميز بالألق والتسيّد في معظم فتراتها، ولا نغفل ما اعتراه من الضعف في بعض الفترات تحت تأثير الأسباب السياسية أو الاجتماعية أو الأمنية أو غيرها.
ومن أبرز المحطات في العمق العلمي انفتاح الحوزة النجفية على جميع مشارب الفكر والإنتاج العلمي للمدارس من حولها، وهذه هي المفارقة الواضحة بين المدرسة الشيعية والأخرى السنية في الطابع العام لهما، فعندما تستعرض مكتبةً ما لأحد رموز الطائفة في النجف أو مراجعها أو مفكريها أو خطبائها، تجد أن للكتاب السني حضوراً بما لا يقل عن نسبة خمسين في المئة، أما مكتبة العالم أو الباحث أو المحقق السني فلا تجد فيها شيئاً، وإن وجدت فهو النزر اليسير الذي وجد على استحياء وخوف وخجل، وهذه مفارقة واضحة لا يمكن إنكارها.
وفي اعتقادي أن القاعدة الأولى التي ينبغي اعتمادها ـ إذا ما أردنا أن نرسم خطاً موصلاً بين أبناء المدرستين ـ هي الانفتاح في هذه الزاوية، لأنها القلعة الأساس، لا أن نلهث وراء البسطاء من الناس. وبهذا نتعامل مع العقول التي تدّعي العلم من الطرفين، أما إذا كانت المباني قائمة على عدم استيعاب الطرف الآخر فيما يتبنى من فكر، فإن العالم السني أو الباحث لا يسعه أن يضع موسوعة الغدير في مكتبته، لأنه سوف يُتهم بالرفض والتشيع، بينما تجد أن المدرسة الشيعية على العكس من ذلك تماماً، حيث الصحاح السنية والمسانيد والموسوعات ومختلف المؤلفات في صدر المكتبات الشيعية.
5 ـ البناء المقدَّمي الأصيل في حوزة النجف: وهو عبارة عن علوم العربية بفروعها المختلفة، من النحو والصرف والبيان والمعاني والبديع والإنشاء والعروض وغيرها مما يصل إلى ستة عشر فرعاً. وقد ضرب علماء النجف القِدح المعلَّى في هذا الجانب، ومن هنا تجد أن أحدهم عندما يطرق باب التفسير يكون تفسيره متماسكاً، وعندما يطرق باب الفكر تجد أنه ناصع، لا تجد فيه خللاً لغوياً أو نحوياً أو ركاكة تعبيرية أو إملائية. وبقدر ما يكون المرء ضليعاً في هذا الجانب، بقدر ما يترشح ذلك في كتاباته. ودونك كتاب جنة المأوى للشيخ المجدد كاشف الغطاء «رض» تجد فيه السبك والعذوبة، ودونك كتابات الشهيد السيد محمد باقر الصدر «قدس سره» تجد أنه حتى لو كتب في أعقد المطالب العلمية فإن قلمه سيّال، لأن البناء المقدمي كان أصيلاً. وكذا الحال في المنطق وغيره من دروس المقدمات.
6 ـ الموسوعية المعرفية: فعندما تجالس الكثير من علماء النجف، ترى فيهم الموسوعية والتنوع العلمي والأدبي. وليس ذلك على نحو الاختصاص، فلا يراد من رجل الدين في الحوزة العلمية أكثر من التخصص في ما هو الغرض، وبناء على ذلك من حقنا أن نطالب رجل الدين بما هو من شأنه واختصاصه، كما أنه من حقنا أن نطالب الأكاديمي بما هو من شأنه واختصاصه، بل إن الأمر في الحوزة العلمية أشد خطورة، لأن طالب الحوزة يعيش على مأدبة صاحب الزمان، وتُجبى له الخيرات من شرق الأرض وغربها.
فالعالم النجفي عموماً تجده متميزاً بالموسوعية المعرفية مع تخصصه في علم الأصول والفقه وهو موضوعه الأول، فهو يمتلك حصيلة نسبية من العلوم بحيث لا يجد نفسه خالي الوفاض عندما يجلس في مجلس المناقشة، إنما يكون له حضور بقدرٍ ما. وهذا الأمر يختلف من شخص لآخر، فأوعية الناس تختلف عن بعضها وتتفاوت فيما بينها، في قوة الحافظة وتحصيل المعلومة وبذل الجهد في الموسوعية.
لقد كانت مساحة النجف هي المساحة العلمية الفضلى، وطوبى لمن أفاد منها. وقد مرت بفترات ذهبية لم تتحصل لأي مكان آخر، وبهذا أثمرت مئات الآلاف من المجتهدين من زمن الشيخ المفيد إلى يومنا هذا، والموسوعات الرجالية لدينا خير دليل على ذلك، ومنها نقباء البشر، والذريعة إلى تصانيف الشيعة، وأعلام الشيعة وغيرها من المؤلفات، وقد ألف المرحوم الأميني كتاب شهداء الفضيلة، ذكر فيه عشرة آلاف مجتهد من الشهداء فقط.
هذه هي النجف بوجهها المشرق، ولا يمكن أن نحاسبها بعد ذلك عمن رضي «بقرص الشعير، والماء من البئر، وزيارة الأمير، فيه خير كثير» فالنجف تتجلى بالأركان من العلماء والرموز الذين لم تنحرف بهم البوصلة إلى اتجاه آخر، فصار شغلهم الشاغل غير الهدف الأول والأساس. فأنا لا أريد أن أقلل من شأن أحد أبداً كما قد يتصور البعض، بل قلت أكثر من مرة: إنني أستشفي بالتراب المتساقط من مجلس عالم مجتهد مخلص لله عارف بقضيته عاملاً من أجلها، ولكن لديّ ميزان أحتكم إليه، وأطالب المجتمع أن يكون لديه ميزان أيضاً، يزن فيه الصحيح من السقيم. وكما أن في أصناف المجتمع الصحيح والفاسد، وفي أكناف البيت كذلك، فالحوزة ليست بدعاً من ذلك، فليس من في الحوزة من الملائكة أو الجن، إنما هم بشر وشأنهم شأن الجميع.
7 ـ التحقيق والمتابعة: فالشيخ آقا بزرك الطهراني «رضوان الله عليه» بلغ التسعين من العمر، وأصيب بتقوّس الظهر كاملاً لشدة انحنائه على الكتابة والمطالعة، في وقت لم تكن الإمكانيات في الكتابة والمطالعة على ما هي عليه اليوم، فليس أكثر من أقلام القصب والمحابر القديمة، ومع ذلك فقد ترك وراءه مصنفات تنم عن دقة التحقيق وشدة المتابعة، ومنها الذريعة إلى تصانيف الشيعة. وقد أُهديتْ نسخةٌ منه إلى إحدى المكتبات الرسمية في أوربا، فانتدبت مبعوثين لها إلى النجف ليطلعوا على الجامعة التي أنتجت هذا الإنتاج، ويروا كم من المتخصصين عملوا في تصنيفه، فدخلوا في أزقة النجف الملتوية من زقاق إلى زقاق حتى وقفوا على باب الشيخ الجليل، فخرج منه خادم ليدخلهم في سرداب متواضع جلس فيه شيخ إلى جانبه قلم من قصب ومحبرة وأوراق قديمة.
أليس من شأن هذا العالم أن يبارك الأرض التي يطأها برجله؟!
نسأله تعالى أن يوفقنا وإياكم لذلك، ويجعله في ميزان أعمالنا.
والحمد لله رب العالمين.
[1] طه: 25 ـ 28.
[2] آل عمران: 103.
[3] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق4: 380.
[4] مسند أحمد بن حنبل3: 99.
[5] من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق4: 388.
[6] النجم: 22.
[7] الكافي2: 375.
[8] الكافي، العلامة الكليني2: 119. وفي رواية أخرى في المستدرك: ولا وضع الخُرقُ على شيءٍ إلا شانه.
[9] الكافي، العلامة الكليني2: 376.
[10] أي أنه أدب نفسه بنفسه.