الإصلاح من الأهداف الأساسيّة لنهضة الإمام الحسين وأبرز بواعث هذه النهضة قائم في مبدأ النهضة وفي الغاية منها. الإصلاح، علّة سببية وعلّة غائية للنهضة، وإذا قلنا بسنخيّة العلّة والمعلول ووحدتهما، قلنا إنّ الإصلاح يدور مع نهضة الإمام الحسين في عاشوراء، كيفما هذه النهضة تدور.
إنّ المعنى المقصود من الإصلاح في ثورة الإمام الحسين هو المعنى القرآني وميتافيزيقا هذا الإصلاح هي الإسلام في أصوله وعقائده: التوحيد والنبوة والعدل والإمامة والمعاد. وموقع الإصلاح الحسيني من النظريات والتجارب الإسلامية في الإصلاح، يرتبط بمعناه القرآني وميتافيزيقاه التوحيدية، ولذلك كانت مكانته مرتبطة بدورها، بما اختاره الله سبحانه وتعالى من دور للأنبياء والأولياء، ومن دور ومكانة النبوة المحمدية الخاتمة والولاية العلوية حتى ظهور الإمام الحجّة محمد بن الحسن ليتمّ الإصلاح بالمعنى القرآني الظاهر منه والباطن ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. إن إصلاح الإمام الحسين هو هذا النوع من الإصلاح الإلهي.
في هذه المقاربة، نعمد الى دراسة موارد الإصلاح وماهيّته ومنهجه في خطب وأقوال وأحاديث وتقريرات ومواقف سيد الشهداء. لنتبيّن أنّ موارد لفظ أو مصطلح أو كلمة أو معنى أو مرادف الإصلاح جاءت في مواضع عدّة، وأن كلمة الإصلاح في معناها اللغوي والاصطلاحي وقعت على وجه التحديد في ثلاثة مواضع:
1- الإصلاح في الأمة.
2- الإصلاح في البلاد.
3- الإصلاح في الإنسان.
في وصية دفعها إلى أخيه محمد بن الحنفية وفيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية أن الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وإله عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق. وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. إني لم أخرج أشِراً ولا بطِرا ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب عليه السلام. فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين.
وهذه وصيتي إليك يا أخي، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، والسلام عليك وعلى من اتّبع الهدى، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم».
في هذا النص يتضح ما يأتي:
1- التأسيس الميتافيزيقي العقائدي
2- تحديد هدف الخروج (الثورة) وهو الإصلاح في الأمة
3- إلقاء الحجة: وتحديد الناصر من المتخاذل عن النصرة.
4- جعل الحق مطلباً وحكماً بينه وبين القوم.
وهذا ما ندعوه ميتافيزيقا الإصلاح (الإصلاح في مجال العقيدة).
الإصلاح في البلاد (الوطن)
ورد الإصلاح في البلاد في خطبة تطرّق فيها الى ترك الحكم الأموي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ثم يقول: «اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنرى المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك.
فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظَلَمة عليكم، وعملوا على إطفاء نور نبيكم وحسبنا الله وعليه توكلنا، وإليه أنبنا، وإليه المصير».
وعليه يتضح أنه الى جانب المنهج المشترك مع إصلاح الأمّة، يتبدّى إصلاح البلاد بهدف إظهار معالم الدين وأمن المظلومين والعمل بالفرائض والسنن والأحكام. وإذا كان إصطلاح المعالم يعني، كل ما تنتجه الحضارة الإنسانية وكل ما يضيفه الإنسان الى الطبيعة، من الاجتماع الى السياسة والثقافة والآداب والفنون، فإن معنى إصلاح البلاد يأخذ الإطلاق نفسه في اتساع مداراته، وكما كان اصطلاح الأمة في إطلاقه عن الاجتماع الآدمي (أمة جدي) ويعني الإنسانية جمعاء، يضع الإمام الحسين في هذا الاصطلاح إطلاق المعنى لتبيان مفهوم الحكم الإسلامي والحكومة الإسلامية، والأحكام الإسلامية (معالم دينك) وعليه ندعوه «إصلاح في مجال المصالح والأحكام» الإصلاح المتعلق بالإنسان.
يقول الإمام الحسين «ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا بَرَما». وزاد في كتاب «تحف العقول» هذه الجملة بعد ذكره لهذه الجمل من الخطبة، قال عليه السلام: إن الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا ما مُحصوا بالبلاء قل الديّانون». فقام آنذاك زهير بن القين ونافع بن هلال وبرير ابن خضير، كلّ بدوره، فتكلّموا وأظهروا موالاتهم ومساندتهم للإمام.
وأقبل الحر بن يزيد يساير الإمام ولا يفارقه وهو يقول له:
«يا حسين إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن فقال له الحسين عليه السلام: أفبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله، فخوفه ابن عمه، وقال: أين تذهب؟ فإنك مقتول.
فقال: سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً وواسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وخالف مجرماً.
وبعد إعادة التذكير بالمنهج المشترك مع إصلاح الأمة والبلاد، فإنه في هذا الجانب من الإصلاح المتعلق بالإنسان تظهر مسائل: تزكية النفس بالجهاد الأكبر، وبناء الشخصية الإنسانية على قيم الإسلام: الحرية، والعدل، والشجاعة، والإيثار، والصدق، والمساواة، والزهد والتضحية، والوفاء، والوقوف مع الحق حتى الشهادة... ولذلك ندعوه الإصلاح في مجال القيم.
في نهج الإصلاح الحسيني
وإذا كان الإصلاح كما ورد في خطب ومقالات وأحاديث الإمام الحسين إصلاحاً شاملاً للأمة، والبلاد، والإنسان، فإنه يقيم مشتركاً واحداً بين موارد الإصلاح، تتعلق بأسبابه وطبيعته وغاياته وهذا المشترك المعنوي بين موارد الإصلاح الحسيني وطبيعته المميزة هو ما ندعوه بوابة البحث في الشهادة الحسينية أنه موقف شهود، وموقف استشهادٍ، وصراع، وتضحية، وشجاعة، وعطاء، للوصول اليه. الإصلاح فعل حرية وانعتاق حقيقي، للوصول الى المراد منه.
يقول الله سبحانه وتعالى: «كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله». لقد وصف الله تعالى الأمة الإسلامية في هذه الآية الشريفة بأنها أفضل الأمم. وقد علّل هذه الأفضلية بسببين هما:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله.
وممّا يلفت النظر أن ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الآية سبق ذكر الإيمان بالله مما يشير إلى أهميته بحيث يمثّلان الضمان لتوسيع دائرة الإيمان في المجتمع البشري.
نهج الإصلاح الحسيني وفيه:
1- ارتباط الإصلاح بميتافيزيقاه ومنها الفريضة الإسلامية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الفريضة هي القول الفصل في جعل الأمة الصالحة خير أمة أخرجت للناس، وفق المنطوق القرآني.
2- إن ذكر مطلب الإصلاح عنده، يقوم على تأكيد مركزية هذا المطلب دون نفي الأهداف الأخرى السامية والعالية القيمة. فالإصلاح مطلوب لذاته المستفادة من مكانته في القرآن، والسنّة، والفطرة الإنسانية، والضرورة الاجتماعية والدور المناط في كل هذه المسائل بالأنبياء والأولياء.
3- إنه يذكر أسباب مطلبه الإصلاحي بالتذكير بالفساد المستشري في الموارد التي يريد إصلاحها، والفساد الذي يضاد الإصلاح المتوافر في الأمة والبلاد والإنسان، وعليه، يكون الإصلاح ضرورة لا مجرد هواية أو غواية (لا أشراً ولا بطراً) يعني مشروعية الإصلاح وضرورته وواجب القيام به.
4- ليس الإصلاح عند الإمام، بالإعلان المبدئي، والقول النظري، بل هو إصلاح بالقول والعمل والتقرير. الإصلاح عند الإمام الحسين في نصوصه وخطبه ومقالاته (موقف). ولذلك يعطف على الصالحين، إنه موقف لا يحسب في ميزان الربح والخسارة في هذا العالم. بل في ما بعد هذا العالم. وهذا ما يجعل من الإصلاح مطلباً مركزياً في نهضة الإمام.
5- يكتمل مفهوم الإصلاح في نصوص الإمام الحسين بالإظهار عن معنى الفساد، لأنه في مقابل الأمة الصالحة (أمة جده وأبيه) هناك أمة فاسدة، ومقابل البلاد التي يسودها الإصلاح هناك بلاد يسودها الفساد، ومقابل الصالحين هناك الفاسدون، ولعل كل المقاربات الاجتماعية والسياسية لمفهوم الإصلاح في الثورة الحسينية، تناولت هذه الناحية من حيث إظهار فساد الحكم الأموي، واتساع درجة الانحراف عن الإسلام وبلوغها مع يزيد مرحلة لا يمكن معها القبول بالأمر الواقع، وعليه لا بد من إصلاح الأمر، وإلّا حلّ الدمار والخراب في أمة الإسلام ودار الإسلام، وكذلك في المسلمين وعلى مستوى الجماعة والشخص الإنساني.
6- ثقة الإمام الحسين بانتصار دعوة الإصلاح على الفساد. هذه الثقة مستفادة من دور الانسان في مواجهة الشيطان. حسين وارث آدم، بالمعنى الذي يجعله الشاهد على الإنسانية في دورها الآدمي (آدمنا نحن) حتى النبوة الخاتمة وكذلك شهيد حركة الإصلاح في هذه الدائرة النبوية المكتملة.
7- ثورة الإصلاح عند الإمام الحسين ثورة تدفع الى التقدم. وحركتها في التاريخ الإنساني حركة تقدمية. حركة صاعدة، متجهة الى الغايات من الخلق. وعليه، فإن الإصلاح الحسيني سيبلغ أقصى مداه، في قيام القائم الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. وتلك واحدة من الخصائص التي بيّناها في ميتافيزيقا الإصلاح الحسيني، وعليه يمكن استفادة القاعدة الآتية: إن منهاج الإصلاح الحسيني، وموارده، وفق الدراسة النصية، يؤيد الأهداف المستقاة من الدراسة الفلسفية المتعالية لميتافيزيقا عاشوراء.