هل يستطيع الله خلق صخرة يعجز عن حملها؟
جواب هذا السؤال يصعب فهمه على عامة الناس ، وقد يصعب فهمه على من يعدون أنفسهم مثقفين ، وذلك بسبب نقصان في معرفتهم العقلية .
ولا بد من تقريب الجواب لهم بالأمثلة .
كأن يقال للسائل : لأجل أن تعرف أن العجز لا يوصف به شيء إلا إذا لم تتعلق قدرته بما هو ممكن .
فأما إذا لم تتعلق قدرته فيما هو مستحيل أو فيما هو واجب ، فلا يسمى عجزا .
انظر إلى المثال التالي :
ما الاحتمالات في ترتيب الأرقام 1 ، 2 ، 3 ؟
الجواب : إنها ستة احتمالات ، وهي :
1 ، 2 ، 3
1 ، 3 ، 2 .
2 ، 1 ، 3
2 ، 3 ، 1 .
3 ، 2 ، 1
3 ، 1 ، 2 .
فلو ذكرنا هذا السؤال لشخص وقلنا له : اذكر لنا احتمالات ترتيب الأرقام 1 ، 2 ، 3 ، فأعطانا أربعة احتمالات ، ولم يستطع أن يعطينا الاحتمالين الخامس والسادس ، فهل يقال في حقه أنه عاجز عن الجواب ؟ الجواب : نعم ، يقال ذلك ، لأنه بقي ثمة احتمالين ، ولم يعرفهما .
فلو ذكرنا هذا السؤال لآينشتاين في زماناته ، وقلنا له : اذكر لنا احتمالات الأرقام السابقة ، فأعطانا الاحتمالات الستة كلها ، فقلنا له : لن يثبت لنا كونك عالما بحق حتى تعطينا احتمالا سابعا لترتيب هذه الأرقام الثلاثة ؟ فماذا تتوقع أن يقول لك آينشتين ؟ سوف يقول بكل بساطة : بلا هبل ، أو سوف يقول لك بكل غضب : يا جاهل ، يستحيل وجود احتمال سابع ، لأن القسمة العقلية لا توجب إلا هذه الاحتمالات الستة ، ويستحيل عقلا وجود احتمال سابع .
هل نستطيع أن نصف آينشتين أنه عاجز أو أن معرفته بالرياضيات ناقصة لأنه لم يستطيع أن يعطينا الاحتمال السابع ؟؟
الجواب : لا .
ومن هنا ننطلق معه إلى تعريف العجز ، فنسأله :
ما هو العجز ؟
فإذا لم يعرف الجواب .
نقول له : العجز هو أن لا تتعلق قدرتك بما هو ممكن ، أما إذا لم تتعلق قدرتك بما هو مستحيل أو واجب ، فلا يسمى ذلك عجزا ، ونضرب له المثال السابق ونحوه من الأمثلة ، لا سيما من علوم الرياضيات .
فإن قال : إن ذلك في حق البشر فقط ، أما في حق الله تعالى ، فلا بد أن تتعلق القدرة بالواجبات أيضا ، وبالمستحيلات أيضا .
فنقول له : من أين لك هذا ؟
فيقول : هذا من مقتضى كماله .
فنقول له : بل من مقتضى كماله أن لا تتعلق قدرته بالواجبات مثلا ، لأن وجود الله تعالى واجب ، فلو تعلقت القدرة بإفناء نفسه ، لكان هذا دليلا على أن وجوده ممكن وليس بواجب ، ولكان هذا دليلا على أنه ليس الإله الخالق ، لأن الخالق للموجودات من العدم يستحيل عقلا أن يكون له بداية ، لأنه لو كان له بداية لكان مخلوقا ، والمخلوق يستحيل عقلا أن يخلق شيئا من العدم ، فإذا كان الله تعالى هو خالق الموجودات من العدم ، دل ذلك على أنه ليس له بداية ، وهذا معنى واجب الوجود .
ولنضرب مثالا فرضيا على ذلك
= لو أن شخصا استخرج بيد نفسه قلبه من صدره ، وقطعه عن وريده بالسكين ، واستمر ذلك يومين ، ولم يمت .
= وشخصا آخر استخرج قلبه بيد نفسه من صدره فمات .
أيهما الكامل ، وأيهما الناقص ؟
سيجيب العاقل : أن الأول هو الكامل ، لأنه بالرغم من تقطيع قلبه بقي حيا ، بينما الآخر عندما قطع قلبه مات .
وسيجيب المجنون : أن الثاني هو الكامل ، لأنه استطاع أن يميت نفسه .
وهل عاقل كمجنون ، إننا نقر أن البشر كلهم ناقصون لأنهم يموتون ، فيستطيع الواحد أن يقتل نفسه ، ويستطيع الآخرون أن يقتلوه ، والله قادر على إماتته بكلمة كن .
فكذلك الأمر ، إن الكامل هو الذي لا تتعلق قدرته بإفناء نفسه ، لأنه لو تعلقت قدرته بإفناء نفسه دل ذلك على أنه ممكن الوجود ، وعلى أنه ناقص الوجود ، بينما لو لم تتعلق قدرته ولا قدرة غيره بإفنائه ، دل ذلك على كماله في ذاته .
فنعود للسؤال القائل :
هل يستطيع الله خلق صخرة يعجز عن حملها؟
فإذا قلنا : لا ، تصبح القدرة غير مطلقة .
وإذا قلنا : نعم ، تكون أيضا القدرة محدودة وغير مطلقة.
أقول : الذي أراه أن الجواب على هذا السؤال لا يكون بأن يقال : لا ، أو نعم ، بل بأن يقال : إن الله قادر على خلق صخرة بالغا ما بلغت وقادر على حملها ، وذلك : لأن خلق الصخرة بالغا ما بلغت من الممكنات ، والقدرة على حملها ، أيضا من الممكنات ، فيكون الجواب كما ذكرت .
فإن قال : ليس ذلك مرادي ، بل مرادي : أن يخلق الله تعالى صخرة عظيمة جدا يعجز عن حملها ، فنقول له : مهما تصورت صخرة عظيمة فإن الله تعالى قادرا على خلقها بالغا ما بلغت ، وقادر على حملها .
فسيقول : لا بل أريد أن يخلق الله تعالى صخرة أعظم من ذلك مما لا يستطيع على حملها .
فنقول : إن ما تسأله من الممكنات ، والله تعالى قادر على الممكنات كلها ، ولكنك تريد أن تسأل : هل الله قادر على أن يصيب نفسه بالعجز عن الممكنات ؟؟؟
فنقول لك : إن صفة القدرة صفة واجبة لله تعالى ، وقدرة الله تعالى لا تتعلق بالواجبات ، وبكلمات أخرى : قدرة الله تعالى لا تتعلق بإضعاف أو بإفناء صفة من صفاته ، وليس ذلك نقصا فيه ، بل هو كمال فيه ، فكما أن الذي تعلقت قدرته بإفناء نفسه هو العاجز ، والذي لم تتعلق قدرته بإفناء نفسه هو الكامل ، فكذلك الذي تتعلق قدرته بإفناء أو إضعاف صفة من صفاته هو العاجز ، والذي لا تتعلق قدرته بإفناء أو إضعاف صفة من صفاته فهو الكامل .
هذا ، ولا بد أن نذكر السائل بأننا لو سألنا علماء الرياضيات والطبيعيات كلهم عن آخرهم : هل يمكن للمستحيل عقلا أن يحدث ؟ كأن يوجد شيء واحد في مكانين في الوقت نفسه ، أو يوجد شيئين في الحيز نفسه في الوقت نفسه ، أو أن يكون الصغير أكبر من الكبير ، أو نحو ذلك ، فسيجيب كل العلماء : أن لا .
مثال آخر
لو طلبنا من آينشتين أن يذكر لنا آخر رقم في الأرقام الموجبة ، فسيخبرنا أنه لا يوجد لها نهاية ، ولن يستطيع أن يذكر لنا رقما ، فهل ذلك بسبب عجزه ، أم هو بسبب عدم وجود رقم أخير ، بل الأرقام لا نهاية لها ؟؟
فالعاقل سيقول : بل بسبب أن الأرقام لا نهاية لها ، وعدم تعلق قدرة آينشتين بذكر آخر رقم ليس عجزا منه ، بل لأنه مستحيل عقلا أن يوجد رقم أخير للأرقام .
وسيقول المجنون : بل آينشتين عاجز ، وهو جاهل بالرياضيات ، ولا قدرة له عليها .
أيهما العالم وأيهما الجاهل : الذي يقول إن الأرقام لا نهاية لها ، أم الذي يقول إن الأرقام لها نهاية .
هذه محاولة للإجابة ، أرجو أن أكون قد وفقت بها ، وجزاكم الله خيرا .
والحمد لله رب العالمين .
منقول مع التصريف