ورد في تفسير القمي والكافي وغيرهما الرواية التالية :
مُحَمَّدٌ عَنْ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السَّلام) قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الْأَرْضِ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ هِيَ قَالَ هِيَ عَلَى حُوتٍ قُلْتُ فَالْحُوتُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ هُوَ قَالَ عَلَى الْمَاءِ قُلْتُ فَالْمَاءُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ هُوَ قَالَ عَلَى صَخْرَةٍ قُلْتُ فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ الصَّخْرَةُ قَالَ عَلَى قَرْنِ ثَوْرٍ أَمْلَسَ قُلْتُ فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ الثَّوْرُ قَالَ عَلَى الثَّرَى قُلْتُ فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ الثَّرَى فَقَالَ هَيْهَاتَ عِنْدَ ذَلِكَ ضَلَّ عِلْمُ الْعُلَمَاءِ .
والكلام حولها يقع في جهتين :
الأولى : جهة السند .
الثانية : جهة المتن .
أما الأولى :
(1) ( الأرض على الحوت ) وما قيل في توجيهاته:
الرواية المذكورة صحيحة الإسناد وقد تكرر حديث ( أن الأرض على الحوت ) بألفاظ مختلفة عند السنة والشيعة وبلغ عددها 22 حديثاً منها: 13 مرة في مصادر الشيعة ومنها: 9 مرات في مصادر السنة.
مصادر الشيعة :
1- الكليني المتوفى 329 هـ في الكافي، نقل 3 أحاديث منها ما هو مذكور أعلاه .
2- الشيخ الصدوق القمي المتوفى 381هـ ذكره في 3 كتب من كتبه: من لا يحضره الفقيه ، وعلل الشرائع ، والتوحيد، ذكر فيها 6 أحاديث .
3- علي بن إبراهيم القمي كان حياً في 329 هـ ذكره في التفسير المنسوب إليه 2 حديث .
4- الطبرسي من أعلام القرن 6 في الكتاب المنسوب إليه ( الاحتجاج ) 2 حديث .
ونقل المجلسي هذه الروايات في البحار في أماكن مختلفة عن الكتب المتقدمة وعن كتاب الدر المنثور لجلال الدين السيوطي.
مصادر الحديث عند السنة:
1- أحمد بن حنبل المتوفى 241 هـ في كتاب العلل، ذكر حديثا واحداً.
2- الطبري المتوفى 310 هـ في كتابيه التفسير والتاريخ، نقل مضمون الرواية المتقدمة، 3 روايات .
3- أبو الليث السمرقندي المتوفى 383 هـ، نقل في تفسيره حديثاً واحداً.
4- البيهقي المتوفى 458 هـ في كتاب الأسماء والصفات، ذكر حديثاً واحداً .
5- الخطيب البغدادي ( 392 هـ - 463 هـ ) في تاريخ بغداد، ذكر حديثاً واحداً .
6- مجاهد من أعلام القرن الأول، في تفسيره، روى حديثين .
هذه الروايات نقلها جلال الدين السيوطي في تفسير الدر المنثور، والمتقي الهندي في كنز العمال.
هذا كله من حيث المصدر والسند.
أما من حيث المتن والمعنى:
أما من حيث المعنى فإن العلماء قد انقسموا فيها إلى عدة طوائف بين رافض لها البتة وبين مؤول لها وهم أربع طوائف:
الطائفة الأولى:
الرافضة لها والتي تقول أنها أخبار أحاد لا يمكن قبولها ولا العمل بها ولأنها لا تورث علماً ولا يقيناً فلا بد من طرحها ولأنها تخالف العقل والاكتشافات العلمية الجديدة التي صورت لنا الأرض بصورتها الحقيقية وما عليها فكيف يعقل تصديق هذه الروايات مهما بلغت؟.
لذا وقف منها علماؤنا الأبرار والمفكرون موقف الرفض والرد وعدم قبولها قبل أكثر من 1000 سنة وقبل خروج الاكتشافات العلمية الحديثة، ومن هؤلاء:
1- الشيخ المفيد المتوفى 413هـ .
2- السيد المرتضى المتوفى 436 هـ وتبعهما كثير من المتأخرين مثل :
3- الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( 1294 هـ - 1373 هـ )
حيث قال : (إن أساطين علمائنا كالشيخ المفيد والسيد المرتضى ومن عاصرهم أو تأخر عنهم كانوا إذا مرّوا بهذه الأخبار وأمثالها مما تخالف الوجدان وتصادم بديهة العقول، ولا يدعمها حجّة ولا برهان، بل هي فوق ذلك أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة الواقعة، نعم إذا مرّ على أحدهم أحد هذه الأحاديث وذكرت لديهم قالوا هذا خبر واحد لا يفيدنا علما ولا عملا، ولا يعملون إلا بالخبر الصحيح الذي لا يصادم عقلا ولا ضرر)[1]
4- الشيخ محمود أبو رية المصري المتوفى ( 1385 هـ ) قال:
( ومن ضمن الخرافات التي دسها اليهود وأدرجت في كتب السير وبعض التفاسير أن السماوات بعضها من الفضة وبعضها من الزبرجد، وأن السيارات مركوزة في السماوات على التراب المذكور في كتب اليونان، مثل أن القمر مركوز بسماء الدنيا، والعطارد بالثانية، وهكذا إلى السماء السابعة. وهكذا أن السماوات موضوعة على رأس جبل محيط بالأرض يقال له قاف، وأن الأرض موضوعة على قرن ثور قائم فوق ظهر حوت يَسبح في الماء. كل ذلك من غفلة العلماء وعدم مبالاتهم بوخامة عاقبة ما دسّ أعداء الدين بين المسلمين ) [2]
5- ياقوت الحموي ( 574 هـ - 626 هـ ) قال :
( فعلى هذا الترتيب ان السماء تحت الأرض كما هي فوقها. وفي أخبار قصّاص المسلمين أشياء عجيبة تضيق بها صدور العقلاء، أنا أحكي بعضها غير معتقد لصحّتها: رووا أن اللّه تعالى خلق الأرض تكفأ كما تكفأ السفينة، فبعث اللّه ملكا حتى دخل تحت الأرض، فوضع الصخرة على عاتقه، ثم أخرج يديه: إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب، ثم قبض على الأرضين السبع فضبطها، فاستقرّت، ولم يكن لقدمه قرار، فأهبط اللّه ثورا من الجنّة له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، فجعل قرار قدمي الملك على سنامه، فلم تصل قدماه إليه، فبعث اللّه ياقوتة خضراء من الجنة، مسيرها كذا ألف عام، فوضعها على سنام الثور، فاستقرّت عليها قدماه، وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض، مشبّكة تحت العرش، ومنخر الثور في ثقبين من تلك الصخرة تحت البحر، فهو يتنفّس كل يوم نفسين، فإذا تنفّس مدّ البحر وإذا ردّه جزر، ولم يكن لقوائم الثور قرار، فخلق اللّه تعالى كمكما كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، فاستقرّت عليها قوائم الثور، ثم لم يكن للكمكم مستقرّ فخلق اللّه تعالى حوتا يقال له: بلهوت، فوضع الكمكم على وبر ذلك الحوت، والوبر الجناح الذي يكون في وسط ظهر السمكة، وذلك الحوت على ظهر الريح العقيم، وهو مزموم بسلسلة، كغلظ السماوات والأرضين، معقودة بالعرش. قالوا ثم إن إبليس انتهى إلى ذلك الحوت، فقال له: إن اللّه لم يخلق خلقا أعظم منك، فلم لا تزلزل الدنيا؟ فهمّ بشيء من ذلك، فسلّط اللّه عليه بقّة في عينيه فشغلته، وزعم بعضهم أن اللّه سلّط عليه سمكة كالشطبة، فهو مشغول بالنظر إليها ويهابها.
قالوا: وأنبت اللّه تعالى من تلك الياقوتة التي على سنام الثور، جبل قاف، فأحاط بالدنيا، فهو من ياقوتة خضراء، فيقال، واللّه أعلم، إن خضرة السماء منه، ويقال إن بينه وبين السماء قامة رجل، وله رأس ووجه ولسان، وأنبت اللّه تعالى من قاف الجبال، وجعلها أوتادا للأرض كالعروق للشجر، فإذا أراد اللّه، عز وجل، أن يزلزل بلدا، أوحى اللّه إلى ذلك الملك: أن زلزل ببلد كذا، فيحرّك عرقا مما تحت ذلك البلد، فيتزلزل، وإذا أراد أن يخسف ببلد أوحى اللّه إليه: أن اقلب العرق الذي تحته، فيقلبه فيخسف البلد. وزعم وهب بن منبّه، أن الثور والحوت يبتلعان ما ينصبّ من مياه الأرض، فإذا امتلأت أجوافهما قامت القيامة. وقال آخرون إن الأرض على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة على سنام الثور، والثور على كمكم من الرمل متلبّد، والكمكم على ظهر الحوت، والحوت على الريح العقيم، والريح على حجاب من الظّلمة، والظلمة على الثّرى، وإلى الثرى ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم ما وراء ذلك إلا اللّه. قال اللّه تعالى: ﴿ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى ﴾
قال عبيد اللّه الفقير إليه مؤلّف الكتاب: قد كتبنا قليلا من كثير مما حكي من هذا الباب، وههنا اختلاف وتخليط لا يقف عند حدّ غير ما ذكرنا لا يكاد ذو تحصيل يسكن إليه، ولا ذو رأي يعوّل عليه، وإنما هي أشياء تكلّم بها القصّاص للتهويل على العامّة، على حسب عقولهم، لا مستند لها من عقل ولا نقل )[3]
6- الآلوسي المتوفى ( 1270 هـ ) في تفسيره روح المعاني ج 13 ص 98- 99 .
كيفية التعامل مع الأخبار:
في ختام موقف هذه الطائفة ننقل بقية كلام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في الإشارة إلى القاعدة الكلية في التعامل مع الأخبار فهو وإن اختلفنا معه في بعض الجزئيات إلا أن كلامه بشكل عام جيد فننقله بطوله لما له من الفائدة، فيقول :
القاعدة الكلية والضابطة المرعية:
إن الأخبار عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام سواء كانت من طرق رواة الإمامية، أو من طرق الجماعة والسنّة، تكاد تنحصر من حيث مضامينها في أنواع ثلاثة:
النوع الأول:
ما يتضمن المواعظ والأخلاق وتهذيب النفس وتحليتها من الرذائل، وما يتصل بذلك من النفس والروح والعقل والملكات، ويلحق بهذا ما يتعلّق بالجسد من الصحة والمرض والطب النبوي، وخواص الثمار والأشجار والنبات والأحجار والمياه والآبار، وما يتضمن من الأدعية والأذكار والأحراز والطلاسم وخواص الآيات وفضل السور وقراءة القرآن، بل ومطلق المستحبّات من الأقوال والأفعال والأحوال. فكل خبر ورد في شيء من هذه الأبواب والشؤون يجوز العمل به والاعتماد عليه لكل أحد من سائر الطبقات، ولا يلزم البحث عن صحة سنده ومتنه، إلا إذا قامت القرائن والأمارات المفيدة للعلم بكذبه. وأنه من أكاذيب الدسّاسين والمفسدين في الدين.[4]
النوع الثاني:
ما يتضمن حكما شرعيا فرعيا تكليفيا أو وضعيا ، وهي عامة الأخبار الواردة في أبواب الفقه ...... وكل الأخبار الواردة والمروية في شيء من هذه الأبواب لا يجوز العمل بها والاستناد إليها إلّا للفقيه المجتهد.......[5]
النوع الثالث:
ما يتضمن أصول العقائد من إثبات الخالق الأزلي وتوحيده، أعني نفي الشريك عنه، وصفاته الثبوتية والسلبية، وما إلى ذلك من تقديسة وتنزيهه، وأسمائه الحسنى وصفاته العليا وتعالى قدرته وعظمته، ثم النبوّة، والإمامة، والمعاد وما يتصل به من البرزخ والنشر والحشر ونشر الصحف والحساب والميزان والصراط إلى جميع ما ينظم في هذا السلك ، إلى أن ينتهي إلى مخلوقاته جل شأنه من السماء والعالم والنجوم والكواكب والأفلاك والأملاك والعرش والكرسي، إلى أن ينتهي إلى الكائنات الجوية من الشهب والنيازك والسحاب والمطر والرعد والبرق والصواعق والزلازل، والأرض وما تحمله وما يحملها، والمعادن والأحجار الكريمة، والبحار العظيمة وخواصها وما فيها، والأنهار ومجاريها، والرياح ومهابها وأنواعها، والجن والوحوش وأنواع الحيوان بحريا أو بريا أو سمائيا، إلى أمثال ذلك مما لا يمكن حصره ولا يحصر عدّه.
فإن الأخبار عن النبي صلّى اللَّه عليه وآله والأئمة عليهم السلام قد تعرّضت لجميع ذلك، وقد ورد فيها من طرق الفريقين الشيء الكثير. وفي الحق أن هذا من خصائص دين الإسلام ودلائل عظمته وسعة معارفه وعلومه، فإنك لا تجد هذه السعة الواردة في أحاديث المسلمين في دين من الأديان مهما كان.
ولكن الضابطة في هذا النوع من الأخبار أن ما يتعلّق منه بالعقائد وأصول الدين من التوحيد والنبوّة، فإن كان مما يطابق البراهين القطعية والأدلّة العقلية والضرورية يعمل به، ولا حاجة إلى البحث عن صحة سنده وعدم صحته، وهذا مقام ما يقال إن بعض الأحاديث متونها تصحّح أسانيدها.
وان كان مما لم يشهد له البرهان ولم تؤيده الضرورة، ولكنه في حيز الإمكان ينظر، فإن كان الخبر صحيح السند صح الالتزام به على ظاهره وإلا فإن أمكن صرفه عن ظاهره وتأويله بالحمل على المعاني المعقولة تعيّن تأويله، وإن لم يمكن تأويله وكان مضمونه منافيا للوجدان صادما للضرورة فمع صحة سنده لا يجوز العمل به لخلل في متنه، بل يردّ علمه إلى أهله، وان كان غير صحيح السند يضرب به الجدار ووجب إسقاطه من جمهرة الأخبار.[6]
وواصل الشيخ كلامه بقوله :
إذا تمهدت هذه المقدمة، فنقول في الأخبار الواردة في الأرض والحوت والثور، وكذا ما ورد في الرعد والبرق ونحوها، من أن البرق مخارق الملائكة، والرعد زجرها للسحاب، كما يزجر الراعي إبله أو غنمه، وأمثال ذلك مما هو بظاهره خلاف القطع والوجدان، فإن الأرض تحملها مياه البحار المحيطة بها وقد سبروها وساروا حولها فلم يجدوا حوتا ولا ثورا، وعرفوا حقيقة البرق والرعد والصواعق والزلازل بأسباب طبيعية قد تكون محسوسة وملموسة وتكاد تضع إصبعك عليها.
فمثل هذه الأخبار على تلك القاعدة إن أمكن حملها على معان معقولة وجعلها إشارة إلى جهات مقبولة ورموزا إلى الأسباب الروحية المسخرة لهذه، دقيقة القوى الطبيعية فنعم المطلوب.
وإلّا فالصحيح السند يردّ علمه إلى أهله، والضعيف يضرب به الجدار ولا يعمل ولا يلتزم بهذا ولا ذاك.
دخول الوضع والدس في رواياتنا:
حول هذا الموضوع يواصل الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء كلامه فيقول:
وهنا دقيقة لا بدّ من التنبيه عليها والإشارة إليها وهي:
أن من الجلي عند المسلمين عموما بل وعند غيرهم أن الوضع والجعل والدس في الأخبار قد كثر وشاع، وامتزج المجعولات في الأخبار الصحيحة، بحيث يمكن أن يقال أن الموضوعات قد غلبت على الصحاح الصادرة من أمناء الوحي وأئمة الدين.
ويظهر أن هذه المفسدة والفتق الكبير في الإسلام قد حدث في عصر النبوّة، حتى صار النبي صلّى اللَّه عليه وآله يحذّر منه وينادي غير مرّة: «من كذب علي متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار»[7]، وإنه «قد كثرت علي الكذابة وستكثر» [8].
ومع كل تلك المحاولات والتهويلات لم تنجع في الصد عن كثرته فضلا عن إبادته، وقد حدث في عصره صلى اللَّه عليه وآله وما يليه الشيء الكثير من الاسرائيليات وأقاصيص عن الأمم الغابرة، ونسبة المعاصي والكبائر إلى الأنبياء والمرسلين والمعصومين، واشتهر بهذه الموضوعات أشخاص مشهورون في ذلك العصر مثل عبد اللَّه بن سلام، وكعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهم، ثم تتابعت القرون على هذه السخيمة، وانتشرت هذه الخصلة الذميمة، ففي كل قرن أشخاص معرفون بالجعل، وقد يعترفون به أخيرا، وأشهرهم بذلك زنادقة المسلمين المشهورين مثل حمّاد الراوية وزملائه، ومثل ابن أبي العوجاء وأمثالهم [9] .
ثم ذكر قصة ابن أبي العوجاء وما وضع من أحاديث فقال:
ذكر العالم الثبت العلّامة الحبر الجليل الفلكي الرياضي الشهير (أبو ريحان) البيروني في كتابه الممتع العديم النظير -الآثار الباقية- طبع أوربا قال ما نصه في (ص: 67- 68):
وقد قرأت فيها [فيما] قرأت من الأخبار أن أبا جعفر محمد بن سليمان عامل الكوفة من جهة المنصور حبس عبد الكريم بن أبي العوجاء، وهو خال معن بن زائدة وكان من المانويّة، فكثر شفعاؤه بمدينة الإسلام [10] وألحّوا على المنصور حتى كتب إلى محمد بالكف عنه، وكان عبد الكريم يتوقع ورود الكتاب في معناه، فقال لأبي الجبار وكان منقطعا إليه: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف درهم، فأعلم أبو الجبار محمدا، فقال الأمير ذكّرتنيه وقد كنت نسيته فإذا انصرفت من الجمعة فاذكرنيه فلما انصرف ذكّره إياه فدعا به فأمر بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول قال: اما واللَّه لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرّم بها الحلال وأحلّ بها الحرام، ولقد فطّرتكم في يوم صومكم، وصوّمتكم في يوم فطركم، ثم ضربت عنقه، وورد الكتاب في معناه بعده، انتهى.
وذكر غيره على ما يخطر ببالي أن بعض المحدثين قال في آخر عمره: إني وضعت في رواياتكم خمسين ألف حديث في فضل قراءة القرآن وخواص السور والآيات، فقيل له تبوّأ إذا مقعدك من النار فقد ورد عن النبي صلّى اللَّه عليه وآله أنه قال: من كذب علي متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار فقال: ما كذبت عليه بل كذبت له [11]، ولم يعرف هذا الشقي أن الكذب له عنه كذب عليه. وهذا قليل من كثير مما ورد في هذا الباب [12].
وهنا ملحوظة أخرى غير خفية وهي أن الكثير ممن دخلوا الإسلام لم يدخلوه رغبة فيه واعتقادا بصحته، وما دخلوه إلّا للكيد فيه وهدم مبانيه، والعدو الداخلي أقدر على الإضرار من العدو الخارجي، فدسّوا في الأحاديث أخبارا واهية تشوّه صورة وجه الإسلام الجميلة ودعوته المقبولة، وتحطّ من كرامته وتلفّ من منشور رأيته التي خفقت على الخافقين.
وهذا باب واسع يحتاج إلى فصل بيان لا مجال له هنا، وإنما الغرض هل يبقى وثوق بعد هذا بصدور هذه الأخبار من أئمتنا المعصومين عليهم السلام؟ الذين هم تراجمة الوحي ومجسمة العقول والمثل العليا، فكيف يحدّثون بما لا يقبله العقل ولا يساعده الوجدان؟ [13]
نعم يمكن تأويل قضية الأرض والحوت والثور على فرض صدورها عن الأئمة عليهم السلام بأنها إشارة إلى أن الحوادث هي قوّة الحياة المودعة في الأرض التي يحيا بها النبات والحيوان والإنسان، فإن قوّة الحياة هي التي تحمل الأرض، والثور إشارة إلى ما يثير تلك القوة ويستغلّها من الآلات والمعدّات، إلى كثير من التأويلات والمحامل التي لسنا الآن بصددها .
وإنما الغرض المهم تنبيه أرباب المذاهب الإسلامية وغيرهم، بل وحتى عامة الإمامية أنه لا يجوز التعويل والاعتماد على ما في كتب الأحاديث من الأخبار المروية عن أئمتنا عليهم السلام، ولا يصح أن ينسب إلى مذهب الإمامية ما يوجد في كتب أحاديثنا، ولو كانت في أعلى مراتب الجلالة والوثاقة، وقد اتفقت الإمامية قولا واحدا أن أوثق كتب الحديث وأعلاها قدرا وأسماها مقاما هو كتاب (الكافي) ويليه (الفقيه) و (الإستبصار) و (التهذيب) ومع ذلك لا يصح الاعتماد على ما روي فيها فإن فيها السقيم والصحيح، والمعوج والمستقيم، والغث والسمين، من حيث السند تارة، ومن حيث المتن أخرى، ومن كلا الجهتين ثالثة.
ولذا قسم أساطين الإمامية في القرون الوسطى الأحاديث - بما فيها الكتب الأربعة المشهورة- إلى أربعة أقسام:
الصحيح ، والحسن ، والموثوق ، والضعيف ، ولا يتميز بعضها عن بعض إلّا بعد الجهود واستفراغ الوسع، وللأوحدي من أعلام المجتهدين.[14]
على أننا ذكرنا في جملة من مؤلّفاتنا أن ملكة الاجتهاد وقوة الاستنباط لا يكفي فيها مجرّد استفراغ الوسع وبذل الجهد، بل تحتاج إلى استعداد خاص يستأهل بها منحة إلهية ولطفا ربانيا يمنحها الحق جل شأنه للأوحدي، فالأوحدي من صفوة عباده.
ومن مجموع ما ذكرنا في هذا المقام يتّضح أن نسبة بعض كتبة العصر جملة من الأمور الغريبة إلى مذهب الإمامية لخبر أو رواية وجدوها في كتبهم، أو اعتمد عليها بعض مؤلفيهم لا يصحّ، ولا يصحّ جعله مذهبا للشيعة بقول مطلق، بل لعلّه رأي خاص لذلك المؤلف لا يوافقه جمهورهم وأساطين علمائهم، كما أنه لا يجوز لعوام الإمامية فضلا عن غيرهم النظر في الأخبار التي هي من النوعين الآخرين، فإنها مضلّلة لهم ومظنّة خطر عليهم، وليس هو من وظيفتهم وعملهم، بل لا بدّ من إعطاء كل فن لأهله وأخذه من أربابه وأساتيذه.
وبالجملة فتمييز الخبر الصريح دلالة المقبول مذهبا ليس إلا لأساتذة الفقه وجهابذة الحديث ومراجع الأمة الأصحاء لا المدعين والأدعياء.
وما كل ممشوق القوام بثينة ولا كل مفتون الغرام جميل [15]
وضع النقاط على الحروف في كلام كاشف الغطاء:
وإنما نقلنا كلامه بطوله لما في كلامه من الفوائد الجمة منها:
1- أن الأحاديث في العقائد إنما يؤخذ بها إذا كانت متطابقة مع البراهين العقلية ولا تنافي الضرورات الوجدانية. ومفاده أنه لا يجوز أن تؤسس عقائد المسلمين وبالأخص الشيعة الإمامية على أحاديث آحاد حتى ولو كانت صحيحة السند فضلا عن أن تكون ضعيفة السند ومن المراسيل أو المجهولات أو المجعولات كما هو ديدن بعض المفتونين ببعض الأحاديث التي لا سند ولا مصدر لها وتُحَمّل الطائفة بمثل هذه العقائد التي لا تتعدى أن تكون وجهة نظر لبعض الأشخاص وفي كل فترة تطلع لنا جملة من تلك العقائد وتتوالد وتُفَرَّخ .
وقد فصّل الشيخ حول هذه الأخبار وبالأخص في الجانب العقدي وحاصل كلامه في هذا الجانب :
الأخبار في جانب العقائد على أقسام :
القسم الأول :
أن يكون الخبر متطابقاً مع الأدلة العقلية ولا يصطدم معها فهو تابع وليس بمتبوع فحينئذ يعمل به ويكون مؤيداً للبرهان العقلي .
القسم الثاني :
إذا لم يتطابق معها ولكنه لا يتنافى معها ويبقى في دائرة الإمكان العقلي فهنا له حالتان :
أ- إذا كان صحيح السند أخذ به بحسب الظاهر .
ب- وإن كان غير صحيح السند وأمكن صرفه عن ظاهره وتأويله وحمله على المعاني العقلية تعين ذلك .
القسم الثالث :
إذا كان الخبر لا يتطابق مع البراهين العقلية وكان منافيا للوجدان ويصطدم مع الضرورات فله حالتان:
أ- إذا كان صحيح السند ولا يمكن تأويله وكان مضمونه منافياً للوجدان فلا يجوز العمل به للخلل في متنه ويرجع أمره إلى أهله .
ب- وإن كان غير صحيح السند وكان منافياً للوجدان مصادما للضرورة والبرهان فيضرب به عرض الجدار ويسقط من جمهرة الأخبار.
وحينئذ فتطبيق هذه القاعدة على أحاديث ( الأرض على الحوت ) إن أمكن حملها على معان معينة لا تتنافى مع البراهين العقلية فيجب وإن لم يمكن ذلك فالصحيح منها يتوقف فيه ويرجع أمره إلى أهله وأما الضعيف فيضرب به عرض الجدار .
2- أن الوضع والدس في أحاديث أهل البيت وباسمهم كثير كغيرهم وأن دواعي الدس عليهم أكثر من غيرهم ولذا عبر أن الموضوع والمدسوس عليهم أكثر من الروايات الصحيحة عندهم فقال : (أن من الجلي عند المسلمين عموما بل وعند غيرهم أن الوضع والجعل والدس في الأخبار قد كثر وشاع، وامتزج المجعولات في الأخبار الصحيحة، بحيث يمكن أن يقال أن الموضوعات قد غلبت على الصحاح الصادرة من أمناء الوحي وأئمة الدين).
ثم تساءل فقال: (هل يبقى وثوق بعد هذا بصدور هذه الأخبار من أئمتنا المعصومين عليهم السلام؟ الذين هم تراجمة الوحي ومجسمة العقول والمثل العليا، فكيف يحدّثون بما لا يقبله العقل ولا يساعده الوجدان؟ ) [16]
وهذا رد واضح وصريح على بعض الطلبة الذين يروجون ويدعون أن لا أحاديث موضوعة ومدسوسة في كتبنا وإنما هي مهذبة ومشذبة من الوضع والدس والتزوير، ثم يتسنى لهؤلاء أن يروجوا ما يحلو لهم من خرافات ومبتدعات باسم ضروريات المذهب والشعائر الدينية وغيرها.
3- لا بد من التفرقة بين ما ينسب إلى الطائفة الإمامية ومدرسة أهل البيت عليهم السلام من عقائد وإلتزامات ، وما ينسب إلى عالم من علماء أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام أو إلى كتاب من كتبهم فإن النسبة الثانية لا تمثل الأولى لأن النسبة للطائفة لا بد أن تكون على نحو القطع واليقين والاتفاق عندهم ، وأما رأي عالم من العلماء وإن كان عظيماً أو وجد قولاً أو رواية في كتاب ولو كان معتبراً بل حتى لو كان في كتاب الكافي الذي هو أجل وأعظم كتب الحديث فإنه لا يمثل رأي الطائفة [17] وقد شرح هذه النقطة الشيخ كاشف الغطاء بوضوح حيث قال :
( وإنما الغرض المهم تنبيه أرباب المذاهب الإسلامية وغيرهم، بل وحتى عامة الإمامية أنه لا يجوز التعويل والاعتماد على ما في كتب الأحاديث من الأخبار المروية عن أئمتنا عليهم السلام، ولا يصح أن ينسب إلى مذهب الإمامية ما يوجد في كتب أحاديثنا، ولو كانت في أعلى مراتب الجلالة والوثاقة، وقد اتفقت الإمامية قولا واحدا أن أوثق كتب الحديث وأعلاها قدرا وأسماها مقاما هو كتاب (الكافي) ويليه (الفقيه) و (الإستبصار) و (التهذيب) ومع ذلك لا يصح الاعتماد على ما روي فيها فإن فيها السقيم والصحيح، والمعوج والمستقيم، والغث والسمين، من حيث السند تارة، ومن حيث المتن أخرى، ومن كلا الجهتين ثالثة ) [18]
4- لا بد من تأكد النسب العقائدية التي تنسب إلى الشيعة الإمامية سواء أكان من الكتّاب غير الشيعة أو من بعض الطلبة والكتّاب من الشيعة أنفسهم لوجود رواية أو خبر في بعض كتب الشيعة حتى ولو كان اعتمد عليها مؤلفه فإنه لا يصح أن يكون مذهبا للشيعة فلعله رأي خاص وأوضح ذلك بقوله:
( ومن مجموع ما ذكرنا في هذا المقام يتّضح أن نسبة بعض كتبة العصر جملة من الأمور الغريبة إلى مذهب الإمامية لخبر أو رواية وجدوها في كتبهم، أو اعتمد عليها بعض مؤلفيهم لا يصحّ، ولا يصحّ جعله مذهبا للشيعة بقول مطلق، بل لعلّه رأي خاص لذلك المؤلف لا يوافقه جمهورهم وأساطين علمائهم، كما أنه لا يجوز لعوام الإمامية فضلا عن غيرهم النظر في الأخبار التي هي من النوعين الآخرين [أي الأحكام والعقائد]، فإنها مضلّلة لهم ومظنّة خطر عليهم، وليس هو من وظيفتهم وعملهم، بل لا بدّ من إعطاء كل فن لأهله وأخذه من أربابه وأساتيذه)[19].
(4) الطوائف الثلاث الأخرى حول الحديث
الطائفة الثانية:
تحدثنا عن الطائفة الأولى من العلماء التي ترى أن هذه الأحاديث غير صحيحة وهي باطلة فلا بد من ردها وطرحها والصحيح السند منها يوكل أمره إلى أهله أما الطائفة الثانية من العلماء فهي التي ترى أن أحاديث ( أن الأرض على الحوت ) هي إشارة إلى أسرار ورموز إلى معان لا يفهمها إلا أهلها ومن هذه الطائفة الفيض الكاشاني ( 1007 هـ - 1091 هـ ) قال في الوافي نقلا عن الكافي للحديث المتقدم في السؤال : ( في هذا الحديث رموز وإنما يحلها من كان من أهلها ) [20].
الطائفة الثالثة :
ترى أن هذه الأحاديث بحسب الظاهر تتناسب مع ما ثبت في العلم الحديث التجريبي وأنها تشير إلى كروية الأرض وذلك أن في الكلام حذف مضاف وهذا أمر شائع في كلام البلغاء، والمعنى أن الأرض خلقت على شكل قرن الثور وهذا التفسير للسيد هبة الدين الشهرستاني ( 1301 هـ - 1386 هـ ) في كتابه الهيئة والإسلام فراجع كلامه فيه [21].
الطائفة الرابعة :
أن هذه الروايات لا بد من تأويلها تأويلات معنوية وبحسب العلوم العقلية والكشفية ويمثل هذه الطائفة:
1- الفيلسوف المعروف وارث مدرسة ملا صدرا الشيرازي الحاج ملا هادي السبزواري ( 1212 هـ - 1298 هـ ) ذكر في كتابه شرح الأسماء الحسنى .
2- الشيح أحمد بن زين الدين الأحسائي المتوفى ( 1241 هـ ) .
3- الشيخ ملا علي النوري المتوفى ( 1246 هـ ) وللأخير كتاب بعنوان شرح حديث ( إن الأرض على الحوت ) [22] وفيه رد على الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي .
وكل واحد من هؤلاء له تأويلاته الخاصة في الحوت والثور والثرى وما تحت الثرى وغيرها من ألفاظ تؤول إلى معان عقلية وروحية ونفسية [23].
والحمد لله رب العالمين .
العلامة الشيخ حسين الراضي