الفصل الثاني
القرآن في الصحيح
الوقفة الاولى:
اول ايات النزول :
لم يكن القرآن الكريم كتابا منزلا من السماء كأي كتاب في زماننا الحاضر ، اوراق منضودة بين جلدتين (دفتين)،وانما كانت سوره واياته تنزل عن طريق الوحي (جبريل) ، منجمة (مفرقة زمنيا)، إذ تنزل السورة الواحدة او الاية والايات بين فترات زمنية غير منتظمة،على سمع الرسول متلوة فيسمعها ويعيها ويحفظها ومن ثم يبلغها الناس، حتى وصل زمن نزول سور القرآن الكريم ثلاثة وثلاثين سنة للاسباب التي ذكرتها المصادر التي تناولت نزوله.
وكان المسلمون الاوائل ، والمسلمون الذين اهتموا بالتدوين (في القرن الاول والثاني الهجريين) قد بدأوا يطرحون الاسئلة ويبحثون عن الاجابات ، ومن هذه الاسئلة : ما هي اول سورة و اول اية نزلت من القرآن الكريم وما اخر اية وسورة؟.
يذكر البخاري في صحيحه روايات عدة عن اول واخر الايات التي نزلت من القرآن الكريم تختلف فيما بينها ، ونحن اذ نذكر الروايات ، نتسائل : أي الروايات هي الصحيحة؟ لانه لا يمكن ان تكون روايتان صحيحتين في الوقت نفسه ، وعندما نؤكد على صحة رواية واحدة ، يعني - هذا - ان الرواية الثانية غير صحيحة ، ويبنى على ذلك حكم عدم وثوقية رواتها ، ولا اقصد ان سلسلة رواتها كافة هم غير موثوقين ، وانما – ربما – احدهم كان بهذه الصفة، وعند ذاك يصبح البعض من سلسلة رجال البخاري غير صادق ، وقد اختصت بعض الدراسات في ذلك.
اعرف انه سيرفع في وجهي سيف التكفير ممن يرى في ان صحيح البخاري وغيره من كتب الصحاحات (في كافة المذاهب) هي كتب مقدسة لا يأتيها الباطل ، الا اني اسأل كل من يعتمد الصحيح ، سؤالا مفاده : أي السورتين نزلت اولا؟ اقرأ ام المدثر؟
ربما يجيب البعض قائلا: ليس المهم معرفة الاولوية ، لان التعبد بهما هوالمهم ، او ان البخاري كتب ما سمعه وكان صادقا فيما كتب .
وهذا صحيح ، وكذلك صدق تدوين البخاري لما سمع ، عندها نقول : كان على الشيخ ان يتأكد ، ومن ثم يقرر التدوين، وعلى تابعيه ان يقبلوا بنقد ما في كتابه، ومن هذا المنطلق كانت هذه السطور .
***
الحديث الاول:
جاء في صحيح البخاري - ج 1 - ص 2 وما بعدها:
(( حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما انا بقارئ قال فاخذني فغطني حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما انا بقارئ فاخذني فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني فقال أقرأ فقلت ما أنا بقارئ فاخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال أقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا انك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمى فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أو مخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به الا عودي وان يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحي)).
الحديث الثاني :
(( حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ بسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت فقال جابر لا أحدثك الا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت امامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا على ماء باردا قال فدثروني وصبوا على ماء باردا فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر )).
الحديث الثالث:
(( حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الصمد حدثنا حرب حدثنا يحيى قال سألت أبا سلمة أي القرآن انزل أول فقال يا أيها المدثر فقلت أنبئت انه اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله أي القرآن انزل أول فقال يا أيها المدثر فقلت أنبئت انه اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال لا أخبرك الا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت امامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا على ماء باردا وانزل على يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر )).
الحديث الرابع:
((حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه فبينا انا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر إلى والرجز فاهجر قبل أن تفرض الصلاة وهي الأوثان )).
الحديث الاول
الثاني
الثالث
الرابع
- حدثنا يحيى بن بكير
- حدثنا الليث
- عن عقيل
- عن ابن شهاب
- عن عروة بن الزبير
- عن عائشة أم المؤمنين
- حدثنا يحيى
- وكيع
- علي
- يحيى
- أبو سلمة
- جابر بن عبد الله الانصاري.
- إسحاق
- عبد الصمد
- حرب
- يحيى
- أبو سلمة
- جابر بن عبد الله الانصاري.
- حدثنا يحيى بن بكير
- الليث
- عن عقيل
- عن ابن شهاب
- وحدثني عبد الله بن محمد
- حدثنا عبد الرزاق
- حدثنا معمر
- عن الزهري
– ابو سلمة
– عن جابر بن عبد الله.
يتضح من الاحاديث الاربعة اعلاه الاختلاف في بيان اول اية نزلت من الوحي، إما ان تكون هي آية إقرأ ، وإما آية المدثر.
مناقشة وتعليق:
اذا تفحصنا رواة الحديثين الاول والرابع ، نجد ان البخاري يذكر عن الحديث الرابع ما يفيد انه سمعه من مصدرين ، عندما قال : (- وحدثني عبد الله بن محمد) .
في الاسناد الاول للحديث الرابع نجد تطابقا مع اسناد الحديث الاول ، الا انه ينقطع عند (ابن شهاب) فيما يستمر في الحديث الاول الى الزبير عن عائشة، و يمكن اكمال السند فيه كما في الحديث الاول الى عائشة .
ولا نجد في الحديثين أي تناقض ، كون الاول يتحدث عن اول ما انزل من القران ، والرابع عن فترة الوحي وقبل فرض الصلاة.
الا ان التناقض موجود مع الحديثين الثاني والثالث ،وكان على البخاري ان يتثبت من الاحاديث و ايهما الصحيح؟
وعندما نعود الى الراوي الاول نجد ان راوي حديث (إقرأ) هي السيدة عائشة ، والراوي الاول للاحاديث الثلاثة التي تذكر آية (المدثر) هو جابر الانصاري، والاثنان ، السيدة عائشة والانصاري لم يكونا حاضرين اثناء النزول او ما تلاه من احداث.
فالسيدة عائشة إما ان تكون طفلة صغيرة تحبو، و إما ان تكون غير مولودة اصلا (اختلاف في سنة ولادتها)، والانصاري رجل من المدينة ولم يكن من المسلمين الاوائل (74).
ان السيدة عائشة تروي(75) حكاية بدء نزول الوحي ، وليس حديثا نبويا ،او انها تذكر ان هذا القول قد سمعته من النبي ، فضلا عن عدم وجودها ساعة الوحي ، اما الانصاري فيذكر ان ما يقوله هو ما سمعه عن النبي (ص).
وانا هنا ليس في موقع من يريد ان يبرهن على صحة واحد من الحديثين، بقدر ما اريد ان اشير الى حالة الاختلاف في الحديثين.
فيما جاء في صحيح البخاري - ج 4 - ص 84:ان يا ايها المدثر نزلت بعد فتور الوحي :
((حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب قال سمعت أبا سلمة قال أخبرني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ثم فتر عني الوحي فترة فبينا انا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر إلى قوله والرجز فاهجر )).
ولو عدنا الى القران الكريم لكان اكثر وضوحا في تعيين السورة التي انزلت اول مرة ، وهي : إقرأ.
لانه لا يعقل ان يصطفي الله شخصا كرسول له ويطلب منه مباشرة ودون مقدمات:الانذار ، الدعوة ، الى دين جديد:
(( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ * ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ * كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ)). (المدثر : 1 -47)
الا انه من المعقول جدا ان يعرّف الله الشخص الذي اصطفاه بـربه (الخالق،الاكرم،العالم):
(( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ* كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)). (العلق : 1 -19)
ومن المعقول جدا ان تكون الايات السبع الاولى من سورة المدثر جاءت بعد سورة العلق ، (( قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)). (المدثر: 1 - 7).
أي الجهر بالدعوة و اعلاء اسم الله ، والتوحيد ، والتطهير ،وهجر كل رجز ، والصبر.
اذن كان على الشيخ البخاري ان يتوثق مما سمع ، وكذلك ممن سمع.
***
الوقفة الثانية:
اخر ما نزل:
اختلف المسلمون في تحديد اخر اية نزلت من القرآن الكريم، كما هو شأنهم في اختلافهم في تحديد اول ما نزل ، وتعددت الاجابات .
ان آخر ما نزل من القرآن حسب الاحاديث:
1 – (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا)).
2 - ((ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم)).
الحديث الاول:
جاء في صحيح البخاري - ج 1 - ص 16:
((حدثنا الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون حدثنا أبو العميس قال أخبرنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال أي آية قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة)).
الحديث الثاني:
جاء في صحيح البخاري - ج 5 - ص 182 :
(( حدثنا آدم ابن أبي اياس حدثنا شعبة حدثنا مغيرة بن النعمان قال سمعت سعيد بن جبير قال آية اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال نزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم هي آخر ما نزل وما نسخها شئ )).
***
روايتان متناقضتان ، وكلاهما تنقل عن الصحابة ، اذن فهما ليستا بأحاديث نبوية ، وهذا اسلوب البخاري في تأليفه لصحيحه الذي اسماه : ( 76 ).
الشيء العجيب في بعض تفاسير المسلمين - من كل المذاهب - اعتمادها إما على الاسرائيليات او على شخصيات يهودية ، و إذ نقرأ مثل هذه الاخبار اشهد ان الله بريء منها ، لان المسلمين ليس اقل شأنا من اليهود وغيرهم ، ومن الامثلة الصارخة على ذلك - على سبيل المثال- قصة المعراج التي تعد – بصيغتها المنقولة لنا في المصادر والمراجع - من القصص الخرافية التي لم يروها النبي (ص) كما جاءت في تلك المصادر ، ففيها ان النبي موسى هو الذي دفع بالنبي محمد (ص) الى ان يراجع ربه اكثر من مرة عن عدد الصلوات اليومية وكأن الله سبحانه لا يعرف قدرة الانسان على القيام بها بهذا العدد المذكور، خمسين صلاة، او ان النبي محمد (ص) لا يعرف إمكانيات المسلمين – والاسلام ما زال لم يتأصل في النفوس – على ذلك ، انها امور يهودية ادخلت على الاسلام من طرق شتى ليس اولها كعب الاحبار.
والحديث الاول يروي ان رجلا يهوديا يقول للخليفة الراشد عمر بن الخطاب ما ذكره الحديث .
والمعقول من الامر هو ان آية (اليوم اكملت ....) هي اخر آية نزلت من القرآن الكريم، ولا يعقل ان ينزل بعدها آية اخرى طالما اكمل الدين.
واذا كان الشيخ البخاري اراد ان يكون صادقا لما يدون عما يسمع ، كان عليه ان لا يدون الرواية الثانية ، خاصة وان جواب ابن عباس كان جازما في انها اخر اية نزلت ولم تستنسخ ، ولو قال انها اخر اية نزلت في موضوع القتل (أي قتل) لهان الامر ، واعتبرت انها من ايات القتال الاخيرة.
***
اما رواية البراءالذي يذكرها البخاري في تفسير سورة النساء ، إذ يقول: (( آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت- يستفتونك))، ففيه اشكال.
فسورة براءة نزلت بعد رجوع النبي (ص) من غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة حسب التفاسير وكتب اسباب النزول، ولهذا لا يمكن ان تكون اخر سورة.
اما اخر اية حسب البراء على انها (يستفتونك - النساء)، فلا يعقل ان تنزل آية (اليوم اكملت ...) ثم تنزل (ويستفتونك) بعد اكمال الدين.
انها رواية موضوعة، و ليس الوضع من البخاري، وانما من واحد من سلسلة رواتها.
فإما ان يكون عمر بن الخطاب صادقا فيما قاله - وهو صادق - ، وإما ان يكون ابن عباس هو الصادق – وهو ليس كذلك حسب الرواية - ، فأيهما الصادق؟