السؤال الحادي عشر: هل تعتقدون أنَّ طريقة عرض الإمام الحسين (ع) للعالَم مِن قِبل الشيعة ساهمت في تكوين صورة لدى الآخرين تمثِّل الإمام الحسين (ع) كرجل حرب وعنف ؟
الجواب: لو استقرأنا الخطاب الشيعي فيما يتَّصل بعرض شخصيَّة الإمام الحسين (ع) لوجدناه يتمحور في مجموعة مِن المحاور:
المحور الأوَّل: إنَّ شخصيَّة الإمام الحسين (ع) شخصيَّة إلهيَّة تتحلَّى بكلِّ سجيَّةٍ تحلَّى بها الأنبياء والأولياء (ع)، وتختزن كلَّ ملكةٍ كان عليها نجباء الله وأصفياؤه قد منحتها العناية الإلهيَّة العصمة والطهارة فكانت مبرأة مِن كلِّ نقصٍ وعيب، لذلك فهي في فلك الحقِّ تدور معه حيث ما دار لا تكاد تشطُّ عنه في فكرٍ أو شعور أو قول أو سلوك.
المحور الثاني: إنَّ شخصيَّته قد أهَّلتها الإرادة الإلهيَّة للريادة والقيادة ومنحتها منصب الإمامة فليس لأحدٍ مِن أفراد الأمَّة أنْ يعصي لها أمرًا أو يسلك غير الطريق الذي رسمته، فسياسة شئون هذه الأمَّة كانت حقًّا لهذه الشخصيَّة وتدبير أمورها كان بعهدة هذه الشخصيَّة، مِن هنا كان التجاوز لهذا الحقِّ ضلالاً ومكابرة لإرادة الله عزَّ وجلَّ في خلقه.
المحور الثالث: إنَّ الإمام الحسين (ع) كان مِن الدعاة إلى الله وكان حريصًا على أنْ يعبد الله في أرضه وأنْ يكون الدين كلّه لله عزَّ وجلَّ فكان واعظًا ومرشدًا ومعلِّمًا لأحكام الله ومفسِّرًا لكتاب الله وسنَّة رسوله (ص) وكان يحثُّ على الخير ويحفِّز الناس على التحلِّي بمكارم الأخلاق.
المحور الرابع: كان الإمام الحسين (ع) ثائرًا ومناضلاً ومصلحًا، كان ثائرًا على كلِّ مظاهر الظلم والاستبداد والاستئثار، فكان يأبى على بني أميَّة تعسُّفهم وسفكهم للدماء المحرَّمة، واستئثارهم بمقدَّرات الأمَّة، واستبدادهم بإدارة شئونها على غير أهليَّة، وتمكين صبيانهم وفسَّاقهم مِن رقاب المسلمين، فكان ينكر عليهم قتلهم للأخيار والأبرياء والتمثيل بأجسادهم وصلبهم على جذوع النخل وسمل عيونهم، كما كان ينكر عليهم حرمانهم للفقراء مِن حقوقهم وعطائهم. وكان الحسين مصلحًا يهدف مِن نهضته والمواقف التي سبقت نهضته إصلاح ما انحرف مِن مسار الأمَّة عن الخطِّ الذي رسمه رسول الله (ص)، فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويسعى لأنْ يسود بين عباد الله العدل والقسط، وينكر على بني أميَّة سياسة التضليل والتجهيل وإشاعة الرذيلة وإثارة الفتن.
المحور الخامس: كان الإمام الحسين (ع) أبيًّا كريمًا عزيزًا تسامت نفسه عن الخنوع والخضوع لجبروت بين أميَّة وطغيانها، فلم يكن يرضى لنفسه الذلَّ والهوان، وكان شجاعًا مقدامًا صلبًا في عزمه شديدًا في ذات الله عزَّ وجلَّ، لم ترهبه سطوات الجبابرة، ولم تكن عدَّتها وعتادها، وكان في ذات الوقت رحيمًا رؤوفًا بالمستضعفين والمحرومين مشفقًا حتَّى على مَنْ يشهر السيف في وجهه خوفًا من بني أميَّة.
المحور السادس: كان الإمام الحسين (ع) مظلومًا مضطهدًا قد مارس معه بنو أميَّة كلَّ ألوان الظلم والتعسُّف، فقد قتلوه أبشع قتلة عرفها التاريخ بعد أنْ حرموه مِن الماء وكان ظامئًا يتلظَّى عطشًا وجوعًا، وبعد أنْ قتلوه مثَّلوا بجسده وأوطأوا الخيل صدره وظهره، فكسَّروا أضلاعه وهشَّموا عظامه، ثمَّ طافوا برأسه حواضر الإسلام، وسَبَوْا نساءه وبناته وأخواته بعد أنْ قتلوا بمرأىً مِنه أولاده وأطفاله وإخوته، وأشعلوا النار في مخيَّمه، وسلبوا أمواله وثيابه.
فكان الحسين (ع) شهيدًا، وكان الحسين (ع) غريبًا، وكان مظلومًا مضطهدًا، وكان مكروبًا حزينًا، فهو عبرة المؤمنين وسلوة المعذَّبين، والوهج الذي ينبعث في قلوب المناضلين، والسراج الذي يستضيء به الباحثون عن الحرِّيَّة والكرامة، والمنهج الذي يسلكه المصلحون الطامحون في العدالة والقسط، وهو بعد ذلك صراط الله في أرضه، وحُجَّته على عباده، ومصباح الهدى والعروة الوثقى وسفينة النجاة.
هكذا يعرض الخطاب الشيعي شخصيَّة الحسين بن عليّ (ع)، فهو كذلك في البحوث الكلاميَّة، كما هو كذلك في النصوص الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، وهو كذلك في أدبيَّات الشيعة في الشعر والنثر والرثاء والمدح والقصَّة والمسرحيَّة، وهو كذلك في محافل العزاء والندب وفي مواكب اللطم والنشيد.
فليس الحسين (ع) في ثقافة التشيُّع رجل حرب أو عنف، بل كان ضحيَّة العنف والقسوة والجور التي كان يتَّسم بها أعداؤه ومناوئوه، هذا لو كان المراد مِن العنف هو العدوان، ولو كان المراد مِن الحرب هو البغي أو التعسُّف , وإحراق الحرث والنسل، فلم يكن الحسين (ع) كذلك، فهو لم يخرج أشرًا ولا بطرًا، ولم يكن مفسدًا ولا ظالمًا، وإنَّما خرج طلبًا للإصلاح ودفاعًا عن حقوق المحرومين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أمرٍ وهو أنَّ مفهوم العنف ليس مِن المفاهيم المستقبحة على أيِّ حالٍ لو كان معنى العنف هو الشدَّة، فالعنف بهذا المعنى يتَّسم بالقبح لو كانت غايته العدوان والبغي ولو كانت وسيلته التعسُّف، وهو يتَّسم بالحسن لو كانت غايته درء الظلم والدفاع عن الحقِّ والانتصار للمظلوم، ولو كانت نتائجه إشاعة الفضيلة والعدالة ووسيلته الاقتصاص مِن الظالمين دون حيفٍ وإسراف.
فالعنف لو كان بمعنى الشدِّة فالحسين (ع) كان شديدًا في ذات الله شديدًا على أعداء الله الذين لا يفهمون لغة الحوار ويمعنون في بخس الناس حقوقهم، ويستلذُّون بسماع أنَّاتهم وآهاتهم، ولا يرَوْن لدمائهم حرمة ولا لمقدَّساتهم أيَّ تقدير.
مثل هؤلاء تكون موادعتهم سفاهة، ويكون الغضُّ عنه ممالئة للظالم ومساهمة في استفحاله وتجذُّره. وأنا أستغرب مِن ثقافة تتبنَّى أسلوب السلم والموادعة مع طغمة لا ترضى إلاَّ أنْ يكون عباد الله لهم خولاً صاغرين مرغمين، فهي تتبنَّى ذلك لا لشيء سوى الاستيحاش مِن مفهوم العنف بعد أنْ قنَّعه الآخرون بقناعٍ قبيحٍ سعيًا منهم في تخدير الأمَّة وفصلها عن رموزها.