أنا أحقّ من غيـّر)
أيّها الناس إنّ رسول الله، (صلى الله عليه وسلّم) قال: «من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحَقّ من غيّر، وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم، وأنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلكم، فلكم فيّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي فلعمري ماهي لكم بنكير، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن عقيل، والمغرور من اغترّ بكم، فحظَّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم: ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ((الفتح:10) وسيغني الله عنكم، والسلام(1) .
( كفى بك ذلاً أن تُرغما)
أبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وما أدري ما أقول لك! ولكني أقول كما قال أخو الأوسيّ لابن عمّه وهو يريد نُصرة رسول الله(صلّى الله عليه وسلّم) فقال له: أين تذهب؟ فإنّك مقتول! فقال:
سأمضي ومابالموتِ عارٌعلى الفتى
وواسَى رجالاً صالحينَ بنفسِهِ
فــإنْ عشتُ لم أندَمْ وإنْ متُّ لم أُلمْ
إذا ما نَوى خيراً وجاهدَ مسلما
وخالفَ مثبوراً وفارق مجرماً
كفى بك ذلاً أن تعيــشَ وتُرغما(2)
(أذنت لكم جميعاً فانطلقوا)
«أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضرّاء، اللهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة وعلمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين فاجعلنا لك من الشاكرين، أمّا بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عني خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً، ثم تفرّقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج الله، فإنّ القوم يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري.
فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء إخوته وأبناء عبدالله بن جعفر: لِمَ نفعل هذا؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبدا! فقال الحسين: يا بني عَقيل حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم. قالوا: وما نقول للناس؟ نقول: تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرمِ معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل ولكنّا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك!
وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسديّ فقال: أنحن نتخلّى عنك ولم نُعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. وتكلّم أصحابه بنحو هذا، فجزاهم الله خيراً»(3).
(أنت ثقتي وعدّتي)
«اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدَّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت به العدوّ أنزلته بك وشكوته إليك رغبةً إليك عمّن سواك ففرّجته وكشفته وكفيتنيه، فأنتَ وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كلّ رغبة».
(إن وليّيَ الله)
«أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظكم بما يجب لكم عليّ وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدَّقتم قولي وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ( (يونس:71) (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ( (لأعراف:196)». (4)
(لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل)
«أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثمّ راجعوا أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل يصلح ويحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه، وأولى المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله؟ أوَليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَليس جعفر الشهيد الطيّار في الجنّة عمّي؟ أوَلم يبلغكم قول مستفيض ]فيكم[: إنّ رسول الله(ص) قال لي ولأخي: أنتما سيّدا شباب أهل الجنة وقرة عين أهل السنة؟ فإن صدّقتموني بما أقول، وهو الحقّ، والله ما تعمّدت كذباً مذ عَلِمت أن الله يمقت عليه ]أهلَه[، وإن كذّبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبدالله أو أبا سعيد أو سهل بن سعد أو زيد ابن أرقم أو أنسَاً يخبروكم أنّهم سمعوه من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أما في هذا حاجز يحجزكم عن سفك دمي؟
فقال له شِمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول! فقال له حَبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وإن الله قد طبع على قلبك فلا تدري ما تقول.
ثمّ قال الحسين: فإن كنتم في شك ممّا أقول أو تشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم. أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو بمال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ فلم يكلّموه، فنادى: يا شبث بن ربعيّ! ويا حجّار بن أجبر! ويا قيس بن الأشعث! ويا زيد بن الحارث! ألم تكتبوا إليّ في القدوم عليكم؟ قالوا: لم نفعل. ثمّ قال: بلى فعلتم. ثم قال: أيّها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض.
قال: فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم ابن عمّك، يعني ابن زياد، فإنّك لن ترى إلاّ ما تحبّ. فقال له الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله ولا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد. عباد الله إنّي عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ثم أناخ راحلته ونزل عنها»(5).
1- الكامل في التاريخ، ابن الاثير، المجلد الرابع، ط دارصادر، بيروت 1399/ 1979، ص 48.
2 - الكامل في التاريخ، ابن الاثير، المجلد الرابع، ط دارصادر، بيروت 1399/ 1979، ص 49.
3 - الكامل في التاريخ، ابن الاثير، المجلد الرابع، ط دارصادر، بيروت 1399/ 1979، ص 57-58.
4 - الكامل في التاريخ، ابن الاثير، المجلد الرابع، ط دارصادر، بيروت 1399/ 1979، ص 60-61.
5 - الكامل في التاريخ، ابن الاثير، المجلد الرابع، ط دارصادر، بيروت 1399/ 1979، ص 61-63.