كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يجاهر دوماً بهذا المبدأ: ((إن أشد الناس بلاءاً النبيون، ثم الوصيون، ثم الأمثل فالأمثل،
إنما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه، وذلك أن الله لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن ولا
عقوبة لكافر ومن سخف دينه ضعف عمله وقلّ بلاؤه، وإن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض))
ارتشفت زينب الحوراء تلك الرشفة العذبة من ضرع النبوة والإمامة فأدركت أنها موعودة بهذا الزخم الثقيل من الأحزان تواترت عليها
نكبات ورزايا بدءاً بيتم كئيب قوض فيها فرحة بريئة حينما داهمها حادث رحيل أمها فاطمة الزهراء (ع) ثم انتهى بها الزمان إلى
مجزرة كربلاء.
هي توأمة الحسين (ع)، لهما تلك الخصوصية الدافئة، وكأن القدر أعدهما لهذا اليوم الدامي يتقاسمان فيه معاً خطة الثورة، حتى
قيل أن ثورة الحسين بدؤها حسيني واستمرارها زينبي، ذلك التلازم المصيري أسبغ عليهما عاطفة موصولة برحم الكون جسدت في
كربلاء تناقضات عذبة ما بين إحساس الأخوة والانشقاق عنها بتوق عقائدي وبمقتضى المسؤولية الشرعية، فالإمام الحسين (ع)
هو إمامها المحتذى والقائد المستشرف للغد حُتّم عليه أن يخطط لِمَا بعد الثورة المباركة ووجب عليها الطاعة والتنفيذ.
وما أن تساقط الشهداء على رمضاء كربلاء في نهار قصير الزمن، طويل الفكرة، عميق الهدف، حتى هبّت عقيلة بني هاشم تحمل
الراية الثورية خفاقة فوق الأعناق المنكسة ذلاًّ، فطافوا بها وبالحرائر والعقيلات والأطفال في أزقة الكوفة الموحشة وهي تواصل دور
الحسين (ع) بلسانها الصادق، تخاطبهم معنّفة بشدة مزلزلة الأرض تحت أقدامهم الهزيلة، تصفع ضمائرهم المخدوعة بالمطامع وفي
بلاغة نبوية وفصاحة هاشمية وعزم علوي فتّاك صائحة فيهم: ((ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له
أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟)) ومضت مع الحرائر في تقريع القوم وتحذيرهم من لغة الدماء الطاهرة المسفوكة
ومن غضبة كونية ماحقة، ارتفعت بعد خطبتها الأصوات بالبكاء والنحيب والندم والحزن فصاحت الجموع بصوت واحد: ((حسبك يا
ابنة الطاهرين فقد أحرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا)).
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن مشاعر الغضب والحزن والندم تغيّر كيميائية الجسم وتبدل في طبيعة الطاقة إذ يشعر الإنسان بالحرقة
في القلب والاكتواء في الحجاب الحاجز والتآكل في معدته.
وهذا هو السر في التركيز على المظلومية وفاعليتها في تطهير النفس وإيقاظ الضمير بل هي أفتك من طعن السيف وذبح السكين فهي
تتقد وتغلي في صخب داخل النفس فلا تهجع ولا تبرد إلا بفعل مضاد يسكّن وجعها.
بعد ذلك ينعطف الموكب ناحية الشام، ليتحوّل موقف زينب اللاّئم المعذّب إلى طاقة ملتهبة تزخر بالتحدي والكبرياء، صرخة العزّة
والشموخ تنخر في ضمائر هاجعة وقلوب واجفة ونفوس هالعة فتدوي في أركان القصر، في آفاق السماء، في رحاب العالم، في رأس
التاريخ المنحور بأقلام مغرضة وحقائق مشوشة.
تقول في خطابها الموجه ليزيد:
`((فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا ولا يرخص عنك عارها، وهل رأيك إلا
فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين)).
تلك هي زينب بطلة كربلاء العالمة غير المعلمة، الفاضلة الكاملة عابدة آل محمد (ص) تذهل المرء في رجاحة عقلها المزدان بالحجج
الدامغة، وصبرها المتدثر بطمأنينة راسخة، في منطقها المدجج بالبلاغة والفصاحة، بحنانها المنساب في عروق كربلاء ترزخ بثقل
الفجيعة شامخة.