لماذا نبكي إلى هذا اليوم على الإمام الحسين(ع)؟ ولماذا نحزن عليه ونقيم لذكرى فاجعته الشعائر بعد مرور هذه الفترة الطويلة على مصيبته؟ هل إن هذا التذكر وهذا الحزن له منطلقات وثوابت صحيحة في نظر العقل والشريعة؟
أو انه مجرد تراث اخترعه جماعة من المسلمين في عصور متأخرة عن العصور الأولى للإسلام، ثم توارثها خلفهم عن سلفهم واستمرت وتطورت فيما بعد؟.. إن هذه الأسئلة وأمثالها من الأمور التي تطرح في ازماننا على أتباع أهل البيت(ع) حول هذا الموضوع الذي يعد ثقافة ثابتة في عقيدتهم الإسلامية على مر القرون.
والرد على مثل هذه التساؤلات لا يكمن في جواب واحد، وإنما له إجابات متعددة يكفي كل واحد منها لأن يكون مبررا مشروعا لاستمرار تذكر فاجعة الطف، واعتباره أمرا مفروغا من صحته مهما مرت السنون وتعاقبت الأجيال، وهذه الإجابات تتنوع بين كونها مرتبطة بالغايات الإسلامية التي يستهدفها إحياء ذكرى عاشوراء.. وبين كونها مرتبطة بالجوانب الإنسانية التي يحكم العقل بصحتها.. وبين كونها مرتبطة بالرؤية الشرعية النابعة من صميم الأديان السماوية.. وغير ذلك من الجوانب التي يمكن للمتأمل البصير أن يجدها في هذا الموضوع الحساس، ونحن في هذا المقام نريد أن نستعرض بعضا من تلك الجوانب على نحو الإيجاز والإشارة.
أولا: الجانب المرتبط بالغايات:
لا بد قبل كل شيء أن نعلم حقيقة يوم الطف وما فعله الإمام الحسين(ع) في واقعة كربلاء سنة 61هـ، حتى نتمكن من معرفة الغايات التي استهدفها(ع) من نهضته المباركة، ومن ثم نرى: هل أن تلك الغايات أمور وقتية تنتهي بانتهاء المرحلة التي عاشها سلام الله عليه كما هو جارٍ في الكثير من الحركات والثورات المتعارفة؟ أو أن لها امتداد مستمر لا يحده تعاقب الأزمان ولا يستوقفه تغير المكان، وبالتالي يشكل إحياء الواقعة محاولة لإحياء غايات لا تندثر في صدور المسلمين.
إن الإمام الحسين(ع) مثّل في نهضته الكبرى حركة إصلاحية شاملة تجسّدت بالمواجهة العلنية من قبل الذين يمثلون الإسلام من جهة، وبين الذين يمثلون النفاق من جهة أخرى، وهذا ما كان واضحا في وصيته التي كتبها قبل شهادته قائلا: (إني لم اخرج أشر أولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ..).
إن الإمام(ع) بيّن أن إحدى غاياته الأساسية في نهضته تتمثل بالإصلاح في بلاد المسلمين وتطبيق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأهداف لو تفحصناها جيدا لوجدنا أنها – وفق المنظور الإسلامي- أهدافا حيّة لا تنحصر في زمان أو مكان معينين، ولا يطرق ذهن احد من المسلمين إشكال في ضرورة تطبيقها في كل وقت بطرقها الصحيحة، ابتداء من إصلاح النفس وصولا إلى الإصلاح الاجتماعي العام، وكل إنسان في هذه الدنيا هو مشروع لان يطبق هذه الغايات قدر إمكانه إذا ما توفرت المقومات الكافية.
وبعبارة أخرى نقول: إن المبادئ التي سار عليها الإمام الحسين(ع) وأنصاره في يوم عاشوراء هي مبادئ باقية ما بقي هذا الوجود، كما أن المساوئ التي سار عليها أعداء الحسين(ع) هي مساوئ باقية إلى يوم الوقت المعلوم، وبالتالي فإن إحياء ذكرى الإمام الحسين(ع) فيه دفاع عن تلك المبادئ وانتصار لها، وفيه رفض لتلك المساوئ ومحاربتها، لذا كان إحياء واقعة الطف في صدور الناس واستمرار تذكر النهضة الحسينية عبر التاريخ والتفاعل معها عاطفيا له جوانب مهمة في دعم الغايات التي استهدفها الإمام الحسين(ع) في المجتمعات المسلمة، ففيه محاولة جادة لإعداد المسلمين نفسيا من اجل السعي لتطبيق هذه الأهداف الإسلامية السامية، في الوقت الذي يعبرون فيه بوضوح عن تضامنهم مع هذه الغايات على أوسع نطاق.
وهذه القضية كانت سببا رئيسيا حدا بالظالمين لمحاربة الشعائر والمراسيم الحسينية على مر العصور، واستمروا في التضييق على أتباع أهل البيت(ع) لترك الاهتمام بها وممارستها.
ثانيا: الجانب الإنساني:
إننا نجد أن غالبية الناس في العالم - على اختلاف أذواقهم ومشاربهم- يسعون جاهدين لتخليد ذكرى عظمائهم ورجالاتهم الذين كان لهم دور فاعل في تغيير مسيرة الأمة التي ينتمون إليها نحو الأفضل، فتجدهم يحرصون على تكريم أولئك العظماء بعد رحيلهم من خلال إقامة النصب التذكارية والمحافل الجماهيرية لتأبينهم وتدارس آثارهم، كمحاولة لرد جزء - ولو بسيط- من الجميل الذي قدمته تلك الشخصيات لأممها عبر التاريخ، وعلى هذا الأساس درج العديد من الناس ولم يجدوا محذورا عقليا في ذلك، بل على العكس، يجد المرء فيه تعبيرا إنسانيا جميلا ينبئ عن حقيقة مفادها: أن شكر الإنسان لأخيه الإنسان وإظهار الامتنان على صنائعه أمر مطلوب دائما لا يُميته تباعد الأمكنة وتقادم الأزمنة.
إن ما فعله الإمام الحسين(ع) في تضحيته يوم العاشر من المحرم أمر يستحق أكثر من الشكر والامتنان، وبخاصة إذا التفتنا إلى عظم تلك التضحية، حيث انه(ع) عرّض نفسه وأبناءه وإخوانه وأصحابه إلى اشد أنواع القتل والتمثيل من قبل أعداء الإنسانية على هذا السبيل، وعرض عائلته وأطفاله إلى السبي والتشريد على طريق هذا الفداء، وفارق الأوطان والأحبة واختار أن يموت غريبا من اجل تطبيق هذا الواجب المقدس، وبقي صامدا حتى النفس الأخير على مذبح تلك التضحية في سبيل الدين وتعاليمه الكريمة.. أليس هذا الرجل خليق بان يذكره كل جيل من البشر استمرارا لشكره على هذا العطاء العظيم؟ خصوصا أنه قدم كل ذلك لخدمة شريعة لا زالت تفيض على معتنقيها بركات الهدى الإلهي باستمرار.
ثالثا: الجانب الشرعي:
نمتلك في تراثنا الإسلامي الذي لا خلاف فيه مثالا قويا على مسالة استمرار تذكر فاجعة الطف بكل حزن وشجى، مستصغرين بذلك الألم الذي يخلّفه هذا الحزن في نفوسنا وأجسادنا، وهذا المثال يتجسد في النبي يعقوب(ع) الذي حزن على النبي يوسف(ع) وبقي متألما لفقده حتى أذهب الحزن بصره، قال تعالى: (وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين. قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) (يوسف 84 -86).
إن هذا النبي العظيم كان يفعل هذا الفعل وهو من أكثر الناس صبرا على النوائب، فقد قال تعالى حكاية عن لسانه وهو يقول لأولاده بعدما ادّعوا أن الذئب أكل يوسف: (قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل)(يوسف81) كما انه(ع) من أكثر العارفين بحقيقة التوكل على الله حيث قال تعالى حكاية عن لسانه وهو يقول لأولاده: (وما اغني عنكم من الله من شيء. إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)(يوسف67) كما انه(ع) من الذين لا ييأسون من روح الله سبحانه، فقد قال تعالى حكاية عن لسانه: (انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)(يوسف87) .
ولذلك، فان حزن النبي يعقوب المستمر، وبكائه المتواصل على النبي يوسف(ع) يفصح جليا بأن هذا العمل لم يكن يتصادم إطلاقا مع المفاهيم الدينية الثابتة التي نعرفها في الأديان الإلهية، وبالتالي فهو أمر سليم من كل المحاذير العقائدية والأخلاقية الحقة.
ولقد ورد في تراثنا الإسلامي الحث الشديد على تذكر مصيبة الحسين(ع) والبكاء عليه وإقامة المآتم باستمرار له على مر الأزمان، من ذلك ما روي عن الامام علي بن الحسين(ع) قوله: (من قطرت عيناه أو دمعت عيناه فينا دمعة بوأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا ..)، وعن الإمام الباقر(ع) انه قال: (أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين(ع) دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا)، وعن الإمام الصادق(ع) انه قال: (إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء على الحسين بن علي عليهما السلام فإنه فيه مأجور)، وغير ذلك الكثير من الأحاديث الشريفة التي وردت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام جميعا.
رابعا: ذكر قصص الأولين:
إن القران الذي ندبت الشريعة الإسلامية إلى تلاوته والتدبر في آياته في كل عصر يضم بين طياته الكثير من القصص والأحداث التي وقعت لأنبياء الله العظام وأوليائه الكرام، والتي مر على وقوعها مئات القرون، ولا بد من أن ذكره لها فيه ضرورة قصوى وحاجة مستمرة، وإلا لم يكن لهذه القصص الحيز الكبير من كتاب الله العزيز، وقد صرح القران الكريم بأهميتها حيث قال: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)(يوسف111) واستمرار تذكر واقعة الطف والمداومة عليه يدخل في هذا الباب أيضا، حيث يكون فيه الاعتبار بنهج عباد الله الأبرار في جهادهم وتضحيتهم في سبيل تثبيت الحق ودفع الزيغ والانحراف.
ولا يرد في هذا الباب إشكال: (أن تذكر قصص الأولين في القران الكريم وغيره لا يستلزم إثارة المشاعر التي يركز عليها أتباع أهل البيت(ع) في تذكرهم لواقعة الطف) لأننا نعلم أن المشرع الإسلامي حثّ المؤمنين على تفعيل الجانب العاطفي أثناء ممارسة شعائر الدين التي ندبت إليها الشريعة الإسلامية، منها ما ورد صريحا عن رسول الله(ص) التأكيد على مسألة الحزن والبكاء أثناء قراءة القران، قال(ص): (إن هذا القران نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا، فان لم تبكوا فتباكوا) والقران يشتمل كما أسلفنا على العديد من آيات الله التي تتحدث عن وقائع جرت لعباد الله الصالحين، وبخاصة تلك التي فيها ذكرٌ لمعاناتهم في سبيل دعوة الأمم إلى التوحيد والاستقامة.
إن ذلك يعبر عن حقيقة مهمة مفادها: إن إعمال العواطف الإنسانية إلى جانب الممارسات العقائدية أمر مهم ومطلوب، فهي بمثابة الروح الذي ينفخ في الجسد الحياة، وتفعيل الجانب العاطفي إلى جانب القضايا المقدسة في الشريعة يعد من أسرع الطرق لتربية النفس وتهذيبها، إذ انه يبقي على الإيمان حيا في صدر المسلم ليكون محركا له في التعامل مع الواقع المحيط به، والجانب العاطفي في نفس الوقت هو مجال واسع النطاق لكل من أراد الدخول فيه والاستفادة منه من المؤمنين بكافة مستوياتهم.
ولقد كان الجانب العاطفي أحد أبرز الجوانب التي تجسّدت في قضية الإمام الحسين(ع)، وذلك بالنظر للمأساة الفظيعة التي جرت عليه وعلى أهل بيته وأنصاره، ولعل أحد الأهداف التي كان ينشدها الإمام الحسين(ع) في تصديه لواقعة الطف بصورتها المؤلمة تلك إنما هو لتحقيق التفاعل العاطفي بين مبادئ نهضته المقدسة وبين عامة المؤمنين، لذلك نجد بأن نفس المؤمن تزكو دائما عند إحيائه لشعائر الحسين(ع) والبكاء عليه، وهذا الأمر هو من الأسباب الأساسية لدعوة أهل البيت(ع) وتأكيدهم على استذكار واقعة الطف والتفاعل معها روحيا.
إننا إذا ما تأملنا في الجوانب المتقدمة الذكر نجد أن استمرار تذكر الحوادث التاريخية المهمة التي جرت لعباد الله المقربين أمر لا ينحصر بالإمام الحسين(ع) وحده، وإنما يمكن أن يشمل جميع الحوادث المهمة التي مرت بأولياء الله سبحانه في طريق الدعوة إلى الله والإصلاح، فلماذا هذه الخصوصية والتشديد على ذكر حادثة جهاد ومقتل الإمام الحسين(ع) وأنصاره من بين كل الحوادث الأخرى التي مرت على غيره، خاصة وان فيهم من هو أعظم من الإمام الحسين(ع) منزلة؟
إن تذكر غير الإمام الحسين(ع) من عباد الله أمر متعارف عند أتباع أهل البيت(ع)، وبخاصة حوادث وفيات النبي وأهل بيته(ع) الكرام، ولكن خصوصية ذكر الحسين(ع) أمر لا يمكن نكرانه وذلك لأسباب مهمة تتمثل بعدة جوانب، لعل من أهمها عظم المصيبة وشدتها التي مر بها الإمام الحسين(ع)، حيث لم يمر بها أي احد من رموز الدين الإسلامي إطلاقا، فالاستهانة بحرمته العظيمة وقتله بتلك الطريقة البشعة وذبح طفله الرضيع بين يديه وقتل أكابر الصحابة والتابعين معه وسبي بنات رسول الله(ص) بعده كلها أحداث يهتز لهولها كل ضمير إسلامي حي على مر الدهور والأزمنة.