من الواضح أنّ البحث الفقهي في شرعية الثورة على الأنظمة الفاسدة من الأبحاث الضرورية التي تحتاج إلى قراءة متأنية وواعية، لا تغرق في الانفعالات الحماسية ولا تخشى من الفعل والإقدام؛ وقد طرح الفقه الإسلامي هذا الموضوع، وتناولته المذاهب الإسلامية منذ القدم؛ واتخذت فيه مواقف بلغت حدّ التناقض. وفي الوسط الشيعي، طرحت هذه القضية منذ زمن بعيد، لكن باختصار خضع ـ تارةً ـ للدراسات المتعلّقة بالمسألة الكلامية المتصلة بالإمام المهدي %، وأخرى بالمسألة السياسية المتصلة بموضوع التقية الذي حكم العقل الشيعي في غير مجال وصعيد، وقد سجلت جملة أدلّة لصالح كل فريق، بلغت ـ حسب تتبّعنا ـ ستة عشر دليلاً لصالح نظرية شرعية الثورة فقط، وكان من بينها ومن أبرزها الاستناد المرجعي لنهضة الإمام الحسين%، حيث شهد هذا الدليل تنشيطاً ملحوظاً في القرن الماضي.
بدورنا، سوف نحاول في هذه الوريقات تحليل هذه الثورة بما يتصل بهذا الموضوع؛ لنرى هل تعطي هذه النهضة تبريراً شرعياً لممارسة آلية الثورة ضدّ الأنظمة الجائرة، أم هناك ما يمنع عن توظيف هذه الحركة التاريخية الكبرى في مثل هذه الحالات؟ وإذا كان الجواب إيجابياً فمن الضروري تحديد المَدَيَات التي يعطيها هذا الدليل في نطاق حالات فساد الأنظمة أو جورها أو انحرافها، وحتى لو لم يثبت صحّة الاستدلال بهذا الدليل، فلا يعني ذلك فساد نظرية الثورة ضدّ الأنظمة الفاسدة، تبعاً لما يراه الفقيه على مستوى سائر الأدلّة المطروحة أو التي يمكن أن تطرح في هذا الموضوع البالغ الأهمية. من هنا، كانت الصيغة الأوّلية للاستدلال بهذه الحركة؛ فثورة الإمام الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب % من المسلّمات التاريخية، كما أن صاحبها من أئمة أهل البيت «، وقد كانت خروجاً على السلطان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، نتيجة الانحراف الذي حلّ بالسلطة والخلافة، فتكون من أقوى الأدلّة ـ سنداً ودلالةً ـ على جواز الخروج الدموي ضدّ النظام الفاسد.
المبرّرات الموضوعية لدراسة فلسفة الحركة الحسينية
والبحث في علاقة الثورة الحسينية بمسألة الخروج على الأنظمة الظالمة لا يمكن أن يأخذ طريقه الطبيعي بمعزل عن النظرية التي يكوّنها الباحث على مستوى تحليله لهذه الثورة نفسها وفلسفتها؛ لأنّ النظريات التي طرحت حول هذا الموضوع تلقي بظلالها على نتائج الاستناد إلى هذه الثورة في بحثنا الفقهي هنا. ونحن نعرف أنّ فلسفة الثورة الحسينية لم توضع على نار حامية في الوسط الشيعي منذ زمن بعيد، بل إنّ بعض العلماء دعا إلى الإحجام عن دراسة هذا الموضوع واعتبره نوعاً من التكلّف، وأنّ اللازم إحالة الأمر إلى أهل البيت أنفسهم، لأنّهم معصومون[1] ، وهذا الكلام ينطلق من الأصول الموضوعة المسلّمة في العقيدة الشيعية، ومن ثم فهو مشتبه من ناحيتين:
1 ـ إنّ الاعتقاد بعصمتهم لا يعني أنّ دراسة مبرّرات الثورة نحوٌ من الاعتراض عليهم، بل هو للتدبر في سيرتهم وسنّتهم التي هي مصدر تشريعي، نحاول من خلاله أخذ المؤشرات التي تدلّنا على الموقف الشرعي، وهذا البحث الذي نحن فيه خير دليل على أنّ تحليل الثورة الحسينية سوف يترك أثراً ـ ولو في الجملة ـ على نظرية سياسية هامة، هي نظرية الثورة على الأنظمة الفاسدة.
2 ـ إنّ تحليل الثورة الحسينية قد يساعد في الدفاع عنها أمام إشكالات غير الشيعة، ومن المعروف أنّه منذ قديم الأيّام كانت هناك انتقادات عنيفة ومتوسّطة العنف ضدّ الإمام الحسين في خروجه على يزيد، فأبو بكر بن العربي وابن حزم الأندلسي وابن تيمية وبعض إباضية الخوارج و.. وكثير من المستشرقين مثل فلهوزن، وجولدتسيهر، وسير وليام مور، ولامانس، انتقدوا الثورة بشدّة، وقلّة من المسستشرقين ـ مثل ماريني ـ أثنوا عليها[2] ، فكيف يمكن مواجهة هذه الانتقادات التي تنطلق من مناخ عقائدي ومعرفي آخر، دون الإقدام على تحليل الثورة واكتشاف مبرّراتها ودوافعها ونتائجها؟! ولهذا وجدنا مثل السيد المرتضى «436هـ» يقوم بتحليل الثورة بهدف الدفاع عنها أمام الذين انتقدوها.
المشهد الشيعي التاريخي إزاء قراءة الثورة الحسينية
وعلى أيّة حال، فالقرن العشرين ـ وبالتحديد النصف الثاني منه ـ هو الذي شهد فتح باب الجدل في هذا الموضوع، وإلا فالشيعة قبل هذا التاريخ لم يتداولوا مسألة النهضة الحسينية ـ غالباً ـ سوى من زاوية تراجيدية لا يتم توظيفها في الإطار السياسي والنهضوي إلا نادراً، وقد لعب ظهور الإسلام السياسي الشيعي في الفترة الأخيرة بقوّة دوراً بالغاً في هذا التحوّل في قراءة الحركة الحسينية، مما دفع للانتقال من تفسير هذه الثورة مجموعةَ عناصر بكائية تراجيدية إلى توليفة من العوامل النهضوية والتغييرية، ويدلّنا على هذا الأمر عناوين المؤلفات التي كان يكتبها الشيعة حول الحسين، وهي مؤلفات تعجّ بالمفردات التراجيدية مثل: طريق البكاء، طوفان البكاء، عمّان البكاء، أمواج البكاء، رياض البكاء، مفتاح البكاء، منبع البكاء، مخزن البكاء، معدن البكاء، مناهل البكاء، مجرى البكاء، سحاب البكاء، عين البكاء، كنـز الباكين، مبكى العيون، مبكى العينين، المبكيات، بحر الدموع، فيض الدموع، عين الدموع، سحاب الدموع، ينبوع الدموع، منبع الدموع، دمع العين، مدامع العين، مخازن الأحزان، رياض الأحزان، قبسات الأحزان، مثير الأحزان، مهيّج الأحزان، نوحة الأحزان وصحيفة الأشجان، أحزان الشيعة، بحر الحزن، كنـز المحن، بحر الغموم، بحر الغم، قصص الغم، واحة الغموم، الهم والغم، مشرط الغم، كنـز المصائب، مجمع المصائب، وجيزة المصائب، إكليل المصائب و..
بينما شاعت في كتابات المتأخرين مفردات الثورة والحماسة والسياسة بشكل لافت من قبيل: في ظلال الحرية، زعيم الأحرار، الحسين حامل لواء الحرية، الحسين سيّد الأحرار، الحسين رمز الحرية، الملحمة الحسينية، ملحمة عاشوراء، ملحمة كربلاء، رجال الثورة، رسالة الحسين الثورية وظروفها الحرجة، ثورة الحسين، ثورة الطفّ، النهضة الحسينية، نهضة عاشوراء، الأهداف الاجتماعية عند الحسين بن علي%، تحليل دوافع ثورة كربلاء، الثورة الحسينية وأهدافها الاجتماعية، الثورة الخالدة و.. [3] . وهذا كلّه يؤكّد غياب التفسيرات التحليلية لهذه الثورة قبل القرن العشرين في الوسط الشيعي. ومن إفرازات التأثير السياسي على إعادة قراءة الحركة الحسينية، صدور كتاب «الشهيد الخالد» الذي ألّفه الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي «2006م» عام 1970م، فقد شكّل هذا الكتاب منعطفاً في دراسة فلسفة قيام الإمام الحسين % في الوسط الشيعي، وقد أدى هذا الكتاب إلى صخب وجدال كبيرين في الوسط العلمي الشيعي، أفضى إلى تدخل بعض كبار الفقهاء ومراجع التقليد ضدّه، مثل السيد المرعشي النجفي والسيد محمد رضا الكلبايكاني و..
وقد كتب في ردّ هذا الكتاب مصنفات عديدة بعضها كبير الحجم، وكان من الناقدين: الشيخ لطف الله الصافي والشيخ رضا الأستادي و.. كما كانت هناك انتقادات ذات طابع أكثر هدوءاً، أبرزها ما علّقه كل من الدكتور علي شريعتي والشيخ مرتضى مطهري و.. ولم يصدر موقف من بعض الشخصيات الهامة آنذاك، سيما الإمام الخميني، الذي اعتبر أن الموضوع أشغل الحوزة عن قضايا كبرى، كما كان هناك من يرى أن للمخابرات الإيرانية التابعة للشاه «السافاك» دوراً في تأجيج الفتنة[4] . على أية حال، منذ 1970م بالتحديد، ظهرت قفزة هامة في تاريخ دراسة الشيعة لفلسفة الثورة الحسينية، وتبلورت العديد من النظريات، التي كان بعضها ضعيفاً جداً، وبعضها أكثر حضوراً وهيمنةً على العقل الشيعي، وقد كان الإسلام السياسي الشيعي ـ كما قلنا ـ بمدارسه قد لعب دوراً في إعادة قراءة ثورة الحسين %؛ لهذا وجدنا قراءات لهذه الثورة أيضاً في العالم العربي الشيعي، كان منها قراءات: السيد محمد باقر الصدر والسيد هاشم معروف الحسني والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد باقر الحكيم وباقر شريف القرشي والسيد محمود الهاشمي والشيخ محمد مهدي الآصفي والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم.
وعندما نتحدّث عن تأثير الحركة السياسية الإسلامية المتأخرة على إعادة قراءة هذا الموضوع؛ فلا ننفي وجود بعض الوقفات السابقة في هذا المجال، لعلّ من أقدمها وقفة السيد المرتضى «436هـ» في كتاب: تنزية الأنبياء، قيل فيها: إنّها كانت جواباً تنزّلياً منه لبعض من لم يكن يؤمن بالإمامة سلفاً[5] ، كما كان لبعض العلماء والفقهاء وقفات متواضعة في ثنايا دراساتهم الفقهية، كما سيظهر للقارئ في مطاوي هذا البحث. والبحث في ثورة الإمام الحسين % ومنطلقاتها ومديات تعميق هذه المنطلقات طويلٌ، وقد كتب في ذلك الكثير، بل قد تحدّث بعضهم عن وجود ثمانية مناهج علمية لدراسة الظاهرة العاشورائية[6] ، وسوف نحاول هنا معالجة ما من شأنه أن يتصل بموضوعنا فحسب، وإلا خرجنا عن محور البحث ودخلنا في الاستطرادات.
نظريات في الثورة الحسينية
قبل البحث عن أبرز النظريات في تفسير ثورة الإمام الحسين %، والتي تتصل ببحثنا هنا، من الضروري أن نعرف أنّ بعض هذه النظريات لا يهمنا مدى صحّته وصوابه إذا حسمنا النتيجة التي يعطينا إياها على مستوى بحثنا هنا، فإذا كانت هناك نظرية ما لا تنتج إمكانية الاستدلال بثورة الحسين ولا عدمها، أي أنها ساكتة حول هذا الموضوع أو متساوية النسبة، فلا يهمنا تحديد صوابها من خطئها.
وعلى أية حال، فأبرز النظريات ذات الصلة بموضوعنا هنا هي:
1 ـ النظرية الغيبية الاختصاصية، أو اللامعقول الحسيني : يقصد بالنظرية الغيبية الاختصاصية التي لها حضور عند بعض علماء الشيعة[7] ، أنّ الإمام الحسين % إنما انطلق في ثورته لأوامر غيبية خاصّة به وجهت إليه، فلم يهدف الحسين إسقاط الأنظمة ولا تأسيس دولة إسلامية ولا إحياء ضمير الأمّة ولا.. كل ما في الأمر أنه نظراً لعصمته وإمامته فقد تلقى أوامر غيبية لا نقدر على تقديم تفسير عقلاني لها، لا سياسياً ولا اجتماعياً ولا.. وأنه اندفع لتطبيق تلك التعاليم الربانية. نعم، ترتّب على ثورة الحسين أن حقّقت نتائج باهرة على أرض الواقع، فخلقت مدرسة الثورة في حياة المسلمين، وأسقطت ـ بعد حوالي سبعة عقود ـ سلطان بني أمية الجائر، لكنّ هذا كلّه لم يكن منظوراً للحسين % لحظة خروجه، بل المنظور له أوامر غيبية وجّهت إليه واختصّت به[8] .
من هنا، يمكن تسمية هذه النظرية، بالنظرية الميتافيزيقية، وتتميّز بأربع خصائص:
1 ـ الإمام الحسين شخص متعالٍ عن التاريخ والزمكانية.
2 ـ الثورة الحسينية حركة ما فوق تاريخية تأبى التحليل العقلاني.
3 ـ الموقف من الثورة هو موقف تسليمي كامل، فلا يمكن أن تكون أنموذجاً للآخرين.
4 ـ الإمام الحسين كان مأموراً بالشهادة وفق التقدير الإلهي[9] .
ومهما كانت هذه النظرية، فإن لها تأثيراً هائلاً على الفقيه والفقه الإسلامي، وهو أنها تجعل هذه الثورة من خصائص الإمام الحسين، فكما أنّ هناك أحكاماً وواجبات وتشريعات خاصة بالنبي - كوجوب صلاة الليل عليه، كذلك كانت ثورة الحسين % تكليفاً خاصاً به غير متوجّه إلى غيره، ومن المعلوم أن مثل ذلك يعني تحييد الثورة الحسينية عن أن تكون مستنداً للاستدلال الفقهي، لا في أصل حدوثها ولا ـ ربما ـ في تفاصيلها ووقائعها؛ لأن خصائص المعصوم لا يستدلّ بها على أحكام شرعية في حقّنا، كما تقرر وقرّرناه في مباحث حجية الفعل من مسألة السنّة الشريفة. وعليه، لا يصحّ الاستدلال بثورة الحسين % لإثبات جواز الخروج على الأنظمة الفاسدة.