أ ـ القراءة النقدية الكلامية ـ الأيديولوجية لنظرية التعقيل السياسي
ورغم الطابع الإيجابي الذي تعطيه العناصر المترابطة لهذه النظرية، لكنّها ـ في واقع الأمر ـ تواجه مشكلين اثنين: أحدهما كلامي والآخر تاريخي.
1 ـ أما المشكلة الكلامية، فتتمثل في الاعتقاد الإمامي بأنّ الإمام يعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وأنهم يعرفون موتهم وما يطرأ عليهم عبر علوم لدنيّة غير كسبية، فطبقاً لهذه النظرية الكلامية كيف يقدم الحسين % على ثورة تهدف تغيير النظام وهو يعلم بفشلها مسبقاً، وبأنها سوف تودي به وبأهل بيته، وهل يكون غرض شخص من ذلك هو الاستيلاء على السلطة وإسقاط السلطة القائمة؟ وحيث قد ثبتت هذه النظرية الكلامية بالأدلّة العقلية والسمعية القاطعة فلا مفرّ من إبطال هذا التفسير، كونه لا يصمد في وجهها. وهذه المشكلة التي تمثل واحدة من أعقد المشكلات عند ناقضي النظرية السياسية، لا مجال لبحث أصلها ـ أي علم المعصوم ـ هنا، لكن مع القول بأن علم المعصوم كذلك، وليس بعزيز على الله[77] ، ثمة جواب يقدّمه أنصار هذه النظرية عادةً ـ أي نظرية علم المعصوم ـ لدى إيراد بعض الإشكالات عليهم، ويمكن لهذا الجواب أن يجري هنا أيضاً لصالح النظرية السياسية؛ فنظرية العلم الوسيع للإمام % تواجه عادةً بأسئلة حرجة، مثل كيف يقضي الرسول والأئمة بين الناس بالأيمان والبيّنات الظنية ولديهم العلم بالواقع؟ أليس في ذلك ظلم وإجحاف في بعض الحالات حيث لا يصيب حكم القاضي الواقع؟ كيف نفسّر الكثير من الروايات التي يفيد ظاهرها جهل الإمام بشيءٍ ما، كما في أكله % لطعامٍ من مال غير شرعي، ثم لما أخبروه دعا بطشت فقاء الطعام فيه، أو بحثه عن شيء لا يعرف أين هو وما شابه ذلك..؟
وقد ردّ أنصار نظرية العلم اللدني المطلق هنا بجواب حاصله: إن الإمام % يعلم الواقع لكنّه مكلّفٌ بالظاهر، أي أنه وإن علم بواقع الحال غير أنه في مقام العمل الخارجي يتعاطى على أنه إنسان طبيعي، يعمل بالطرق الطبيعية في الوصول إلى الواقع والحقيقة؛ ولهذا يقضي بالأيمان والبيّنات رغم علمه اللدني بأنّها هنا أو هناك لا تطابق الواقع، ومهما كان السبب في فعله هذا، إلا أنه هو التفسير الطبيعي الجامع بين هذه المعطيات عن حياة النبي والإمام وبين ما ثبت في علم الكلام من العلوم اللدنية الكثيرة التي عنده. والذي نقوله هنا: إنّ بالإمكان رفع التناقض بين علم الإمام وبين هذه النظرية السياسية في تفسير الثورة طبقاً للمنهج عينه الذي يسير عليه كثير من أنصار هذه النظرية أنفسهم، فالإمام وإن علم بشهادته وما سيحلّ به وبأهل بيته، إلا أنه كان مكلّفاً على مستوى الظاهر بالتعاطي الظاهري مع الأمور، فعندما تصله آلاف الرسائل من الكوفة ـ بل ومن غيرها أيضاً ـ تعلن الاستعداد للجهاد، فإنّ التعاطي الطبيعي حينئذ أن يستجيب لها انطلاقاً من الموقف الشرعي في هذا المجال، متجاهلاً علمه اللدني بخذلانهم فهو يتعامل مع الظاهر، ومتجاهلاً علمه اللدني بشهادته؛ لأنه أيضاً يتعامل مع الظاهر، فالنظرية السياسية المذكورة تعدّ تفسيراً ظاهرياً للثورة بهذا المعنى، دون أن تضطرّ إلى إنكار علم الإمام اللدني، وعبر ذلك يمكن الجمع بين المعتقد الشيعي في علم الإمام من جهة وبين التفسير السياسي الذي قد يخرج به الباحث في تحليله لأحداث هذه الثورة من جهة ثانية. وبعبارة جامعة: أيّ جواب يجيب به القائلون بعلم الإمام هناك يمكن لأنصار النظرية السياسية أن يجيبوه هنا، فالمشكلة الكلامية قابلة للحلّ، بلا حاجة لا إلى إنكار أصل المبنى الكلامي ولا إلى إنكار النظرية السياسية المذكورة هنا. والملفت أنّني وجدت من أثار فكرة وجود تكليفين للإمام هنا؛ أحدهما ظاهري والآخر باطني، ومنهم الشيخ جعفر التستري «1303هـ» والسيد محمد صادق الصدر «1999م» [78] ، وإن لم يكن قصدهما الشكل الذي ذكرناه تماماً.
2 ـ وأما المشكلة التاريخية ـ الأيديولوجية، فتتمثل في العديد من النصوص التي تتحدّث عن تنبؤ الرسول - وأهل البيت %، وحتى الإمام الحسين بشهادته، مثل تلك الروايات التي مرّت في النظرية الأولى، وهي نصوص كثيرة موجودة في المصادر الحديثية. وقد حاول أنصار النظرية السياسية هنا معالجة هذه النصوص من الناحية السندية والتاريخية، وذكروا أنها ضعيفة السند، ولسنا هنا بصدد استعراضها، لكنّها في الحقيقة عقبة أساسية عليهم حلّها لتتميم نظريّتهم، لا المرور عليها عبر بعض الكلمات التي قد يطلقها بعض الباحثين الجدد في الأوساط الإسلامية كلّما جاءتهم نصوص ذات طابع غيبي، من اتهامها بالوضع والصنع الأسطوري للمخيلة الجماعية، وأنّها ردّ فعل القهر والحرمان في التاريخ الشيعي، فهذا وحده لا يكفي هنا.
ب ـ القراءة النقدية التاريخية ـ التحليلية للتفسير السياسي، وقفات وتأملات
وبقطع النظر عن هذه المشكلة التاريخية ـ الأيديولوجية التي يرى الفريق الناقد للنظرية السياسية أن الضعف السندي في هذه الروايات ـ لو سلّمناه، وسلّمنا أنّه يشملها برمّتها ـ لا يضرّ بها بعد كثرتها وتظافرها وشهرتها وأخذ المشهور بها، ثمة ملاحظات أخرى أثيرت على هذه النظرية، وإن كنا نعتقد بأن المشكلتين المتقدّمتين هما الأكثر إشكالية أمام أصحاب النظرية السياسية.
وعلى أية حال، فهذه الملاحظات هي:
الملاحظة الأولى: إن التحليل التاريخي العقلاني يجعل أيّ خطوة في عصر الإمام الحسين تحاول إسقاط الحكم الأموي، فاشلةً؛ لأن الدولة الأموية كانت في عزّ سلطانها وقدرتها آنذاك، وقد كان معاوية قد أنهى قوّة أنصار عليّ في العراق، وأحكم قبضته على بلاد المسلمين، بل لاحظنا ـ كشاهد مؤكّد على ذلك ـ أن معاوية نصب ابنه يزيداً للخلافة رغم غرابة القضية، ورغم انقسام بعض وجوه المسلمين في الأمر دون أن نسمع كلمةً واحدة واجهته في خطوة كهذه، مما يكشف عن استتاب الأمر له بشكل كامل، كما لم يكن الإمام الحسين بذاك القادر على جمع الجيوش والمال والعتاد في ظلّ ظروف كهذه، ولم يكن ذلك خافياً عليه، كما أنّ اختيار الكوفة ـ رغم كل تاريخها المظلم مع علي والحسن ' وليس بالتاريخ البعيد، بل هو تاريخ قريب عايشه الحسين نفسه ـ يكشف عن أن الخطّة لم تكن إسقاط نظام بني أمية، وإلا كان فشلها واضحاً، ولهذا نصح الحسينَ عددٌ من وجوه المسلمين وذكّروه بحال أهل الكوفة، مثل عبد الله بن عباس، كما يذكر ابن الأعثم في الفتوح والخوارزمي في المقتل، ونصحه أيضاً عمر بن عبدالرحمن المخزومي، بل في تاريخ الطبري وابن الأثير والفتوح وإرشاد المفيد ما يفيد تحفظ عبد الله بن جعفر أيضاً، بل تشير بعض النصوص أحياناً إلى أن الحسين % كان يوافق من ينصحه في رأيهم بعدم وفاء القوم، كما جاء في حديثه إلى الفرزدق الشاعر وإلى بشر بن غالب الأسدي، طبقاً لما جاء في تاريخ الطبري وبحار الأنوار وإرشاد المفيد وفتوح ابن الأعثم و..
إنّ هذه المعطيات بأجمعها تؤكد أنّ الحسين لو كان ينظر بعين الإمساك بالسلطة لما أقدم في ظلّ مناخ كهذا على التحرّك، وهذا ما يؤكد أنّه كان له هدف آخر من ثورته[79] . وهذه الملاحظة ليست معطياتها بهذا الوضوح حتى نرجّحها على التفسير السياسي، بقطع النظر عن المشكلة الكلامية والتاريخية المتقدّمة في هذا التفسير؛ وذلك:
أولاً: لا شك في أن عهد معاوية كان عهداً ذهبياً في دولة بني أمية، إلا أنّ الحال لم تكن كذلك في عهد يزيد؛ إذ من يحسب الأمور في تلك الأوقات، يعرف أن المسلمين لم يكونوا موافقين جميعاً على يزيد، وكان شاباً غير خبير بقضايا السلطة، ويعرف أن الصحابة والوجوه قد اختلفوا في أمره، فإذا جاءت الحسين % ـ في ظلّ ظروف كهذه ـ آلاف الرسائل ليحكم قبضته على العراق في الحدّ الأدنى، وليكن إسقاط الدولة الأموية مرحلةً أخرى، فإن من الطبيعي في ظروف كهذه أن تغدو الحركة معقولةً، لا أمراً ميؤوساً منه، ولعلّ مرور الزمن هو الذي أوحى لنا بقوّة سلطان بني أمية، فيما المفترض أن نضع أنفسنا في ذلك الزمان وظروفه.
ثانياً: كيف لم يكن الإمام الحسين بقادر على جمع الجيوش والمال، مع أنه تهيأ له آلاف المقاتلين في جنوب العراق، فأرسل إليهم مسلم بن عقيل، وسار هو بما عنده من أموال؟! وليس من الضروري أن نتصوّر حركة الحسين محاولةً مباشرة لشنّ حرب بجيش شامل على بلاد الشام، فقد تكون هناك مراحلية في العمل، والجيوش في تلك الأيام كان يغلب في تجهيزها ـ أو على الأقل يمكن في ذلك ـ أن يقوم كل فرد بتجهيز نفسه وسيفه ودرعه وفرسه إن أمكنه، وليس كحالنا اليوم، ثمة حاجة لتدخل الدولة لدعم الجيش كي يستمرّ.
ثالثاً: إنّ مسألة أهل الكوفة وغدرهم بأبيه وأخيه لابد ـ منطقياً ـ أن تكون حاضرةً في وعي الحسين %، ولا يعني ذلك أنه ـ والعياذ بالله ـ أقدم على حماقة على تقدير صحّة التفسير السياسي؛ لأن حجم الرسائل والتأييد كان كبيراً، كما أن الحسين أرسل إليهم رسوله كي يجهّز الأمر؛ ولعلّ الحسين لما تأكد من غدرهم كان قد فات الأوان ولو أنه علم من حال رسله غدرهم قبل تحرّكه ما كان خرج من مكّة نحوهم، ولهذا ورد في بعض الروايات السابقة أنه طلب من جند يزيد أن يتركوه وشأنه فيذهب في ديار الله الواسعة؛ لكنهم رفضوا وأصرّوا على مقاتلته كما أوحت بعض النصوص المتقدّمة، هذا كلّه مع عدم القول ـ كما ذكره المرتضى والمفيد ـ أنّه لا دليل من عقل ولا نقل على علم الحسين بغدر أهل الكوفة له[80] ، وعدم القول أيضاً بما قاله الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، من تعرّض البداء لعلمهم «لهذا كانوا دائماً يحتملون عروضه[81] . وجملة القول: إنّ من الصعب وفق معطيات هذه الملاحظة أن يحصل لنا تأكد من أن هذه الثورة كانت محكومةً بالفشل سابقاً، فكل ثورة فيها احتمال الفشل. وسيأتي ـ إن شاء الله ـ ما يتصل بغير فقرة من فقرات هذه الملاحظة.
الملاحظة الثانية: إنّ الشواهد التي يذكرها أنصار النظرية السياسية ليست دقيقة؛ فإخراج الحسين % أهله وعياله وأطفاله لا يصحّ تفسيره إلاّ لأجل علمه بحصول فاجعة يراد لها أن تضاعف حجم المأساة بغية إحياء ضمير الأمة، وإلا فلماذا يخرج قائد ثوري بأهله وأطفاله وهو ذاهب إلى الثورة؟! يُضاف إلى ذلك أنّ الحسين علم في الطريق بمقتل مسلم بن عقيل وغدر أهل الكوفة، كما أخبره الفرزدق في الطريق بأن «قلوبهم معك وسيوفهم عليك»، بل إن بعض النصوص تفيد بأنّ الحسين يصرّح بأنّ القوم لن يتركوه إلا بعد أن يستخرجوا هذه العلقة من جوفه كما تقدّم ذكرها، كناية عن قتله، مما يعني إدراكه لكونه ميتاً[82] . وهذه الملاحظة قابلة أيضاً للنقد؛ فإن إخراج الحسين أهله وأطفاله لا حاجة لتفسيره بأنه يريد ضخّ المزيد من المأساوية في المشهد؛ إذ من قال بأن الحسين كان سيقاتل في الصحراء، فقد كان المفترض أنه سوف يذهب إلى الكوفة التي ستسقط على يد آلاف المقاتلين الذين سوف يقاتلون فيها، وأهله وعياله سيكونون وسط حماية قوّة عسكرية تقدر بالآلاف، أفهل كانت أسرته في مأمن تحت رحمة جند يزيد في المدينة؟ وكأننا نتصوّر مسبقاً ـ بصرف النظر عن المعتقد الكلامي ـ أن الحسين % كان على علم بأنّ المعركة ستقع في كربلاء وبهذه الطريقة، بل الصورة الطبيعية أنه كان سيصل إلى الكوفة سالماً، وأنه من هناك سيبدأ العمل والامتداد، لا أنه سوف يقاتل لكي يصل إلى الكوفة. وبعبارة أخرى: عندما يعزم قائد ثوري على إسقاط نظام الشام في بلاد العراق ـ ولو كمرحلة أولى ـ فمن الطبيعي أنّه سوف يجعل الكوفة عاصمةً له، فكيف يترك أهله وعياله وأمواله في المدينة أو مكّة تحت قبضة عدوّه فيما يستقرّ هو في عاصمة الخلافة الجديدة؟! فإخراج أهله وأمواله لا يعني أنّه يريد أن يضخّ المأساوية في المشهد، نعم هو احتمال أوّلي، فإن قصد هذا المقدار فهو جيد. أمّا النصوص الدالّة على علمه فيما بعد بغدرهم، فسيأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى. وأما حديث الحسين عن أنهم لن يتركوه حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفه، فهذا ليس دليلاً على علمه بالشهادة ونقض التفسير السياسي؛ لأنّ هذا النصّ معناه أنهم سيظلّون وراءه، وأنّ عليه ـ إذاً ـ أن يواجه ليمنعهم، وليس معناه الإنباء بقتله، بل الإشارة إلى ضرورة المواجهة ودفاعية الموقف، فهذا الشاهد قد يقع لصالح التفسير السياسي أو تفسير الفرار من البيعة أكثر من غيره، ولهذا تعرّضنا له في النظرية السابقة.
الملاحظة الثالثة: إنّ تتبع كلمات الحسين % منذ لحظة خروجه، لا تكشف لنا في أيّ موضع عن نصّ صدر منه في إقامة نظام إسلامي أو إزالة سلطان بني أمية، مع أنّ طبيعة الأمور تستدعي أن يفصح عن موقفه وأهدافه من الحركة، بل على العكس كان دائماً يوطّن نفسه وأصحابه على الشهادة والقتال[83] . وهذه الملاحظة فيها بعض الغرابة؛ ففي النصوص ـ وقد تقدّم بعضها وسيأتي ـ أنه يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويسير بسيرة جدّه، ويقيم العدل، ويعمل بالحق... وهو ما ورد في العديد من الروايات التي يستشهد بها في مواضع عديدة حتى عند مخالفي النظرية السياسية، أليست هذه النصوص كافية لإعلان أنه يريد إصلاح الأمور؟! يضاف إلى ذلك: إن من الطبيعي لمن يخرج في ثورة أن يوطّن أنصاره على الشهادة، فهذه هي ثقافة الثورات ولو التي تهدف النصر والإمساك بزمام السلطة، فلا يعني إنكار علم الإمام بشهادته أنه لابد أن يكون متأكداً من الوصول إلى السلطة بدون أيّ قطرة دم، ألم يكن الرسول - يهدف إسقاط قريش واستبدادها ومع ذلك حث القرآن والنبي ووطّنا المسلمين على الشهادة؟! فلا ملازمة بين هذه الظاهرة وبين عدم وجود هدف سياسي للثورة.
الملاحظة الرابعة: تؤكّد الشواهد التاريخية أنّ العديد من الصحابة والشخصيات الإسلامية الكبيرة في الأمة كانت وجهة نظرها أن لا يخرج الحسين إلى العراق، فقد نبّهه إلى ذلك مثل عبد الله بن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الله بن جعفر، وأبي بكر المخزومي، وعبد الله بن جعدة، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن مطيع، وعمرو بن سعيد، ومحمد بن الحنفية، وعبد الله بن عمر، وأم سلمة، وعبد الله بن الزبير وغيرهم، بصرف النظر عن نواياهم في مقولاتهم، وكثير منهم صادق[84] ؛ فهل يمكن أن نفترض ـ كما قيل[85] ـ أنّ الإمام أخطأ في قراءته السياسية والميدانية للواقع، فيما أصاب مثل هؤلاء، وهو الأعلم منهم والأخبر والمؤيّد من الله تعالى؟! ومن الواضح أنّ هذا الاستدلال أيديولوجي قائم على العقيدة المذهبية، ولا يمكن للمؤرخ أن يقبل به إلا بعد الاعتقاد بالمذهب الإمامي، على خلاف بعض ما تقدّم من مناقشات، ولهذا استند بعض الكتّاب العرب والمستشرقين إلى مثل هذه القضية كي يفترضوا أنّ الحنكة السياسية للإمام الحسين لم تكن بالمستوى المطلوب، وأنّ هناك من كان أكثر وعياً للسياسة والأوضاع منه.
لكن ـ مع ذلك ـ لنضع أنفسنا مكان الإمام الحسين، شخصٌ تأتيه رسائل كثيرة من أهل الكوفة منذ زمن معاوية[86] ، ويرفضها نظراً لعقد الصلح مع معاوية ـ كما يقول الشيخ المفيد وغيره حسبما تدلّ عليه بعض الروايات[87] ـ بل ولغير عقد الصلح أيضاً[88] ، ثم تتالى عليه آلاف الرسائل بعد ذلك حتى بلغ بها الذهبي «748هـ» المائة ألف اسم[89] ، ولا يكتفي بذلك ولا يستعجل ـ خلافاً لما صوّره بعضهم[90] ـ بل يرسل مبعوثاً له إليهم لينظر في الأمر، ثم يأتيه المبعوث ـ مسلم بن عقيل ـ بخبر مفرح بأن الأمر مستتبّ له، فيقول: "أما بعد فإنّ الرائد لا يكذب أهله، إنّ جمع «جميع» أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام"[91] ، وقد نصّت بعض مصادر التاريخ أن من بايع مسلماً بلغ ثمانية عشر ألفاً، كما يقول الطبري[92] ، أو نيفاً وعشرين ألفاً، كما يقول ابن الأعثم الكوفي[93] ، أو أكثر من ثلاثين ألفاً كما يقول الدينوري[94] ، بل ذكروا أكثر من ذلك[95] ، يضاف إلى ذلك كون الكوفة أقرب البلدان إلى التشيّع آنذاك بحيث يمكن حشد الجيوش منها، فمصر أقرب إلى العثمانية والأموية منها إلى العلويين آنذاك، وفارس ليس فيها رصيد يذكر لأهل البيت، والبصرة عثمانية الهوى، ومنطقة الحجاز غير قادرة على الصمود العسكري إطلاقاً كما أكّدته أحداث ما بعد كربلاء، واليمن بلاد فقيرة آنذاك لا يمكن لها أن تستمرّ في الانشقاق عن السلطة المركزية، على خلاف الكوفة وما لها من خراج هائل وبلاد تتبع لها[96] ؛ ففي ظروف كهذه هل يجوز لقائد حكيم أن يترك كل هذه المعطيات ويتكل على احتمال الغدر والخيانة؟ بل لو اغتال مسلمُ بن عقيل عبيدَ الله بن زياد ـ كما يقول الشريف المرتضى ـ في دار شريك بن الأعور، لحسم الأمر لصالح الإمام الحسين، لكنّ مسلماً رفض معللاً بالنص المعروف عن النبي بأنّ "الإسلام قيد الفتك"؛ فلعلّ الشخصيات التي أشارت على الحسين بعدم الخروج لم تكن مطّلعةً على تمام هذه التفاصيل والمجريات[97] ، بل اتكلت على الصورة النمطية التي كانت تحملها عن تجربة البيت العلوي مع أهل الكوفة، وعلى فرض صحّة الروايات التي نقلت عن بعض الشخصيات الكبيرة، وبعضها ضعيف المستند تاريخياً ورجالياً، لكن هل يصحّ القبول بها مع وجود حجّة على الإمام ـ وهي الناصر والمعين ـ ونحن نعرف أنّ الإمام يعمل بالظاهر في حياته وليس بالعلوم الإشراقية الغيبية التي عنده؟! لست أدري لو أنّ الحسين % لم يخرج بعد كلّ هذه الرسائل والظروف لربما قال النقاد والمستشرقون: إنّه أيضاً غير ناضج سياسياً! فقد ترك فرصاً ثمينة، فالمشكلة تكمن في الأفكار المسبقة التي نسقطها على تحليل التاريخ، لاسيما عندما نقرؤه بعد وقوعه لا في ظرفه الزمكاني. وربما لهذا كنا نجد في بعض الروايات أنّ الإمام يريد أن ينظر في الأمر ويفكّر فيما يقولون، ولعلّه كان ينتظر توافر المعطيات ليرى ماذا يمكن أن يتخذ من إجراء، وهذا كلّه عملٌ في غاية الحكمة والإتقان، والإنسان مكلّف بالوظيفة وطلب النتيجة الحسنة، وقد تحصل وقد لا تحصل، فالهزيمة ليست خطأ من الإمام وإنّما من تخاذل من طلبوه، فهل نحمّل أحداث معركة أُحُد للنبي -؟! ثم لماذا نصوّر وجوه المسلمين رافضين لخروج الحسين وننسى أنّ هناك الكثير منهم كانوا معه؟! ولا يخفى على أحد كم هو عدد الصحابة والوجوه الذين كانوا مع الحسين في كربلاء، فلا يفترض أن نصوّر المشهد استبداداً بالرأي من الحسين في مقابل إجماع وجوه المسلمين، وهذه نقطة جديرة بالتأمل.
الملاحظة الخامسة: ما ذكره بعض العلماء الباحثين[98] ، من أنّه إذا كان هذا التفسير صحيحاً فلماذا استمرّ الإمام الحسين في سيره شمالاً بعد علمه بمقتل ابن عقيل ومسهر بن قيس الصيداوي وغيرهما من الرجال والأنصار، وتخاذل أهل الكوفة وتركهم له؟ إنّ هذا الاستمرار ليس له أيّ معنى سياسي إطلاقاً؛ لأنّ كل المبرّرات التي طرحت لحركته على أساس سياسي ستنهار هنا، فقد كان يفترض به أن يعود فوراً، وهذا ما لم يحصل. ويمكننا حشد الشواهد لهذا الكلام الذي ذكروه بصرف النظر عن قصة ابن عقيل و.. فلقاء الحسين بالفرزدق كان في منطقة الصفاح أو بالشقوق أو بذات عرق[99] ، وهي قريبة من مكّة، أي قبل مسافة كبيرة من ملاقاة جماعة الحر بن يزيد الرياحي، وكذلك لقياه للأعرابيّين من بني أسد قبل ملاقاة الحر[100] ، ولقاؤه بشر بن غالب الأسدي في ذات عرق أو الثعلبية[101] .
وهذه الملاحظة جيدة، غير أنّه يمكن التوقف عندها من ناحيتين:
أولاً: الحديث عن هذا الأمر تعارضه بعض النصوص التاريخية التي سبق التعرّض لها، والتي تتحدّث عن عرض الإمام على القوم الذهاب إلى مكان آمن وتركهم؛ فهذا الكلام معناه أنّه عندما أيقن بتحوّل الظروف طلب التوجّه إلى مكان آخر يكون فيه في أمان، ولم يكن يريد الاستمرار لو سمحوا له بهذا الخيار. وربما من هنا بدا التردّد في كلمات السيد محمد الصدر في هذا المجال؛ إذ احتمل أخيراً أن يكون الإمام غير قادر على الذهاب إلى اليمن التي كانت المنطقة الأوفر حظاً بعد الكوفة؛ حيث كان قد خرج من مكّة في ذلك الوقت وبدت الأمور بالنسبة إليه صعبة، فكأنّه صار يائساً من الحياة، بحسب تعبيره[102] ، وربما من هنا أيضاً نشأت فكرة أن الحسين كان يغلب على ظنّه أنّهم لن يقتلوه لمكانه من رسول الله، وهذا يعني أنّ قتلهم لبعض الشخصيات لن يمتدّ لقتله هو بنفسه، نظراً لمكانته الاستثنائية، وقد جعل هذا الاحتمال الطبرسيُّ أحدَ احتمالين في تفسير خروج الإمام الحسين[103] ؛ وعليه فمن يأخذ بهذه الروايات عليه التوقف مع هذه الملاحظة هنا، أو الجواب عنها، تماماً كما يفترض بالآخرين أن يفسّروا الاستمرار في المسير.
ثانياً: إنّ هذه الملاحظة تبطل التفسير السياسي البحت القائم على جعل دعوة أهل العراق للإمام هي محور الحركة الحسينية، لكنّها لا تنفي أن تكون الحركة الحسينية قد تعدّدت المبرّرات لها؛ إذ يمكننا للخروج من هذه الملاحظة وتبعاتها أن نجمع هنا بين نظريّتي: الفرار من البيعة والعامل السياسي، بصرف النظر عن تحديد أيّ من هذين العاملين كان هو الأساس؟ فلما علم الحسين بفشل المشروع في الكوفة، لم يرجع إلى مكة ولا المدينة؛ لأنّه سوف يقتل هناك، كما أسلفنا المؤشرات التاريخية على ذلك، فاستمرّ نحو العراق باتجاه الشمال إمّا كسباً للوقت؛ بحيث بعد أن وصله الخبر ما استطاع الرجوع، فكان يريد أن يستقرّ فترة لكسب الوقت فاتجه شمالاً ليصل مكاناً ما ثم يعود! أو أنّه يتخيّل للناظر ـ كما يقول السيد هبة الدين الشهرستاني[104] ـ أنّه كان يريد عبور الفرات نحو الأنبار أو المدائن؛ علّه يجد لنفسه أنصاراً وشيعة، أو لعله كان اقتراحاً من الحر بن يزيد الرياحي للخروج من المأزق، كما تفيده بعض الروايات التاريخية[105] .
ونظريّة تعدّد العوامل المسبّبة للثورة كان فصّل فيها الشهيد الشيخ مرتضى مطهري، ليس بقصد الانتصار للتفسير السياسي؛ فقد كان من المعارضين له، وإنّما بقصد التحليل ووضع أسباب الثورة ضمن نظام من الأولويات والرتبية؛ فقد ذهب المطهري إلى أنّ الشواهد بأكملها تؤكّد أنّ حركة الإمام الحسين انطلقت من ثلاثة عناصر، هي:
1 ـ عنصر رفض بيعة يزيد؛ وهذا العنصر الرافض هو الذي حرّك الحسين للخروج من المدينة المنوّرة، كما صار واضحاً بملاحظة النصوص التاريخية. وهذا معناه أنّ عنصر الفرار من البيعة كان عنصراً أساسياً في انطلاقة الثورة واستمراريّـتها.
2 ـ عنصر دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين، وهذا العنصر لم يكن في المدينة بل ـ كما صار واضحاً ـ فإنّ رسائل أهل العراق وصلت للحسين بعد حوالي أربعين يوماً من خروجه من المدينة، أي بعد أن علموا بخروجه، كما تؤكّده أيضاً جلسة كبار رجال الكوفة بهذا الصدد، من هنا يلاحظ على التفسير السياسي الذي طرحه الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي أنّه ركّز على هذا العنصر الثاني في حين كانت ولادة هذا العنصر متأخرةً عن انطلاقة حركة الحسين.
3 ـ عنصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تكشف عنه بعض النصوص الحسينية التي سبق أن أسلفنا ذكرها، وهو عنصر برز في نصوص الحسين حتى وهو في المدينة المنوّرة، ممّا يدعم فرضية أنّ دعوة أهل الكوفة كانت عنصراً ثانوياً[106] . وأقصد من الاستعانة بنظرية المطهري، أنّه لا يوجد ما يؤكّد أنّ الإمام الحسين خرج من المدينة يحمل مشروعاً سياسياً في العراق، وإنّما لم يرد البيعة ولم يشأ أن تظلّ نساؤه وأمواله تحت رحمة القوم؛ لاحتمال ظهور مستجدّات في الأمر، لكن لما بلغته رسائل أهل الكوفة وغيرهم، بدأت تتبلور فكرة الحركة السياسية الثورية، فأقدم على مقدّماتها من إرسال مسلم وغيره، ثم لما علم بخطّة اغتياله في مكّة استعجل خروجه، وكانت أكثر الفرص آتية من ناحية العراق، فاتجه نحوها، وبلغه استتباب الوضع فاكتملت الفكرة لأخذ العراق ومناهضة حكم الشام منه، ولمّا عادت الأخبار تنبؤ بتدهور الأوضاع لم يعد يمكن وضع برنامج سياسي مضمون، لكنّه كان يحتمل أنّ توجهه إلى العراق رغم المعطيات قد يقدّم فرصاً أكبر من توجّهه نحو أيّ بلد آخر بعد عجزه عن الرجوع إلى مكّة والمدينة، فاستمرّ يجدّ السير تحدوه الآمال بوضعٍ ما لحركة سياسية ما وإن ضعفت احتمالات نجاحها، ولمّا جاء الحرّ بن يزيد الرياحي، وتفاقمت الأوضاع، عزم على الشهادة حيث رآها السبيل الوحيد للنهوض بالأمة. من هنا؛ فهذه الملاحظات لا ترد على التفسير السياسي، بل تضيّق بعض مساحاته على امتداد المسافة الزمنية لحركة الحسين %؛ لهذا نعتقد أنّ أقوى مشكلة تواجه التفسير السياسي هي مشكلة النصوص الكثيرة الدالّة على إنباء النبي - وأهل البيت «بشهادة الحسين[107] ، وبهذا تمتاز هذه النصوص عن قضية العلم اللدني للإمام، فإنّ ذاك العلم حيث كان خاصّاً بالإمام أمكن التمييز فيه بين الظاهر والواقع كما أسلفنا، لكنّ هذه النصوص تخبر عن إنباء المعصومين «للناس بأمر الحسين، وعلى أية حال فالبحث فيها يطول، فنتركها لمجال آخر.
4 ـ النظرية الرسالية الإحيائية، أو مشروع التوفيق بين الغيبية والتعقيل : وتعرف هذه النظرية في الفترة المتأخرة، وقد اشتهرت بها مدرسة الشهيد محمد باقر الصدر، حيث ذكرها الشهيد وشرحها تلامذته وأنصاره، كما تبنّاها غير واحد من العلماء، مع اختلاف في كيفية التعبير[108] ، وتذهب هذه النظرية إلى أن التفسير السياسي ـ على صحّته ـ يجعل حركة الحسين % محدودة مكانياً، فيما التفسير الرسالي يعطيها بُعداً عملياً وتاريخياً. وخلاصة هذا التفسير أن الحسين كان يواجه في الأمة مرض موت الضمير، وفتور الهمم، وضياع القيم، ففي فترة العشرين عاماً بعد شهادة علي % قام معاوية بحرف وعي الأمة، وكسر عنفوانها، وقتل روح العزّة والشموخ فيها، وبهذا تكون الثورة بهدف الاستشهاد كي يصحو ضمير الأمة، ويهتزّ كيانها، بمنظر مأساوي فجيع، يعيدها حيةً من جديد، لتعيد إحياء الإسلام، وبعث الروح الرسالية، وتلك النصوص كلّها التي تتحدّث عن إرادته إصلاح الأمور يمكن تفسيرها أيضاً بهذا التفسير، وهذا ما حصل فعلاً، كيف اهتزّ ضمير الأمة بعد شهادته بحركة التوابين وأحداث مكة والمدينة وغيرها[109] ، وبه نجمع بين كلّ الروايات الغيبية والميدانية، ولا نقع في أيّ محذور يخصّ علم الإمام. وهذه النظرية من النظريات التي تحمل افتراضاً منطقياً في الثقافة الدينية، إلا أنه إذا استبعدت نظرية علم الإمام، إما من أصلها أو توظيفها كما أشرنا سابقاً، إلى جانب إنكار الروايات الدالّة على التنبؤ بشهادته من قبل الرسول و.. فإنّ هذه النظرية ستغدو خلاف ظاهر النصوص والأحداث، ولا شاهد لها، بل الشيء الذي يفهمه أيّ قارئ للتاريخ هنا ـ بعيداً عن القراءات الأيديولوجية المسبقة ـ هو الاقتراب من الفهم السياسي أو الفرار من البيعة؛ إذ ليس هناك نصّ واضح أو موقف صريح يبيّن هذا الهدف الحسيني، فهو عملية تأويلية، على خلاف نظرية هدفية تغيير الواقع أو الفرار من البيعة، فهي أقرب لدلالة النصوص بدون توسّط مفهوم غير مختزن في النص نفسه؛ وعليه، فمعيار البحث في هذا الموضوع هو النصوص المذكورة ودراستها من ناحية السند والمتن، إلى جانب الرصد التاريخي لها. بعد أن تحدثنا عن سائر المعطيات والشواهد التي تقف لصالح التفسيرات الثلاثة السابقة أو ضدّها، فلا نعيد.
التأثيرات الفقهية لنظريات الثورة الحسينية، مقاربة ومقارنة
طبقاً لما تقدّم، ومع استبعاد التفسير الأول، ودوران الأمر بين الثلاثة الباقية، أو بالبيان الذي بيّناه بما يجمع بين بعضها، لا بد من الخروج بنتائج؛ من هنا:
أ ـ لا شك ـ مبدئياً ـ في أن التفسير الثالث أقرب هذه التفاسير إلى تصحيح الاستناد لثورة الحسين % في شرعية الخروج على الحاكم الجائر خروجاً مسلّحاً؛ لأنها تفرض أنّ الحسين خرج بصورة عسكرية لإسقاط نظام ظالم، فتكون دلالتها على ما نحن فيه واضحة جداً.
ب ـ أما إذا أخذنا بالتفسير الرابع فقد يقال: إنّ هذا التفسير يعطينا دلالة على جواز الاستشهاد العمدي لإيقاظ الأمة، دون الدلالة على شرعية الخروج المسلّح لإسقاط النظام أو إقامة نظام إسلامي؛ لأن الحسين % ـ حسب الفرض ـ لم يكن يريد لا إسقاط نظام بني أمية، ولا إقامة نظام إسلامي بديل. لكن مع ذلك، وإذا مارسنا نظرة مقاصدية لثورة الحسين % ـ طبقاً لهذا التفسير ـ سنجد أنّ هذا الخروج عندما يراد له أن يحيى ضمير الأمة فمعناه أنه يدفعها لاستنساخه وممارسة تجربة شبيهة به، أي أنه من الناحية الطبيعية المفترضة سوف يحرّك جماهير الأمة للثورة والرفض، وإلا ماذا سيكون معنى إحياء ضمير الأمة وهزّ كيانها الذي يتحدّث عنه هذا التفسير؟!
وثمّة إشكاليات هنا نطرحها لمزيد من الدرس والبحث والتفكير؛
1 ـ إشكالية البُعد اللاديني في السلطة : وتعني هذه الإشكاليّة أنّ الحسين كان يريد كشف عدم شرعية هذه السلطة وعدم كونها دينية، وأن جمعها بين الديني والدنيوي كان جمعاً باطلاً، كما يذهب إليه العلامة محمد مهدي شمس الدين[110] ، فهو يريد كشف «لا دينية النظام» بأسلوب من الصدمة الوجدانية، عندما يرى المسلمون أن هذا النظام قد قتل أسرة النبي % وشخصيات من وجوه الصحابة، وليكون ذلك انطلاقاً لعدم جعل هذا النظام ورموزه ناطقين باسم الدين ولا معبّرين عنه، بقطع النظر عن لزوم إسقاطهم من سدّة السلطة بالقوة أو لا، فطبقاً لهذا التفسير الرابع قد يصعب الاستناد إلى الثورة الحسينية للإفتاء بجواز الثورة المسلّحة إلا في حالات شبيهة، مثل إرادة كشف لا دينية الحاكم، لا إسقاطه من سدّة السلطة؛ لأن كشف لا دينيته يحمي الإسلام منه حتى لو لم يحمِ المسلمين من بطشه. وهذه الملاحظة لا تأتي على التفسير السياسي للثورة، لأنّ هذا التفسير لا يفترض حالة الصدمة الوجدانية التي تحدثها شهادة ابن بنت النبي في الأمّة، وإنما تطال التفسير الرابع بشكل رئيس، وما دامت الاحتمالات التفسيرية في فعلٍ ما متعدّدة فيصعب ترجيح أحدها إلا بشاهد أو معطيات إضافية أو نفي تمام الاحتمالات الأخرى.
2 ـ إشكالية الصمت في دلالة الأفعال : وفي قراءة تخضع لمعايير الدرس الأصولي، قد يورد على الاستدلال بثورة الحسين ـ كما أورده السيد الحائري[111] ـ حتى بالتفسير الثالث فضلاً عن غيره، أنها فعل المعصوم، والفعل ليس فيه دلالة إطلاقية؛ فقد يكون خروج الحسين % منحصراً بحالة الخوف على الإسلام أن يزول نهائياً، وفي هذه الحالة لا شك في شرعية الخروج، ولو بالعنوان الثانوي، لكنه لا يثبت جواز الخروج على الظالم لظلمه للرعية أو لعدم قانونية دولته، أو لفسقه الشخصي أو لعدم حكمه بالإسلام، مع سماحه للدين أن يواصل مسيره أو.. وهذا الإشكال يعزّزه أننا لم نشهد تكراراً لهذه التجربة طوال عهد الأئمة «، رغم ظلم وجور و.. الخلفاء الأمويين ثم العباسيين، فكونها التجربة الفريدة، إلى جانب رفض الأئمة لبعض الحركات الثورية التي عاصروها ـ على بحث مفصّل سبق أن تعرّضنا له في موضع آخر ـ شاهد على صعوبة اتخاذ تعميم من الثورة لغير القدر المتيقن المشار إليه، سيما على نظرية العلامة شمس الدين الذي يذهب إلى أن علياً والحسن ' لم يخرجا على الخليفة، لا من أجل الخوف من إبادة الشيعة، بل من أجل حفظ كيان الأمة الإسلامية ووحدتها، وهكذا موقف سائر الأئمة بعد الحسين[112] . فاعتداء بني أمية على الناس بالظلم والقتل والجور، يضاف إليه احتمال إحساس الخطر على الدين كلّه وقيمه، قد يجيز الخروج المسلّح، لكنه من غير المعلوم أنه يجيزه في غير هذا النطاق. وهذه الإشكالية لابد من الأخذ بها، ومن ثم التفتيش عن المقدار المتيقن للسير خلفه، فتبقى الثورة الحسينية شاهداً فقهياً لكنّها لن تحوي إطلاقاً يستوعب تمام حالات فساد الأنظمة، والمخرج الوحيد من هذه الإشكالية هو ملاحظة بعض النصوص التي يطبّق فيها الحسين % عمومات نبوية على ثورته، فإنّ هذه النصوص ـ إذا رآها الفقيه حجةً معتبرة ـ يمكنها أن تكون دليلاً على التعميم، وقد أسلفناها، فلا نعيد؛ لأنّها تجعل حركة الحسين ضمن قانون لفظي يمكن التمسّك بإطلاقه.
3 ـ إشكالية التعارض في أفعال المعصومين : وهي إشكاليّة أثارها السيد محمد صادق الصدر، ويقصد بها أنّ الإمام الحسين قد خرج وترك التقية فيما التزم بها سائر الأئمة من بعده، وفي هذه الحال لا نستطيع ترجيح أحد الموقفين ما داما قد صدرا من المعصوم، فتقع المعارضة بين الأفعال وتتساقط، فتسقط الدلالة على العموم ـ أي شمول التكليف للآخرين ـ ويرجع إلى القواعد العامة[113] . هذا الكلام جيّد إذا قصد به عدم إمكان استفادة وجوب أو جواز الخروج المسلّح بنحو القاعدة العامة، إلا أنّه لا يمنع من الأخذ بالقدر المتيقن لمورد هذا الفعل أو ذاك، فإذا حصلنا على قدر متيقّن أمكن الأخذ به بلا محذور؛ لأن التعارض هنا وقع بين إطلاقي الفعلين لا الفعلين نفسيهما؛ فنرفع اليد عن الإطلاقين ـ على تقدير انعقاد إطلاق هنا ـ لصالح القدر المتيقن لكلّ من الفعلين؛ وبهذا لا يخرج فعل الحسين عن الشمول للآخرين؛ بل حتى لو أجمل الأمر كليّاً لا يكون ذلك دليل الاختصاص به، بل هو من باب عدم الدليل على شكل التعميم لنا؛ فالمشكلة إثباتية لا ثبوتية؛ ولهذا ذكرنا هذا الوجه هنا ولم نذكره لدى بحث النظرية الأولى. بل يمكن القول بأنّ الفعل دليل الجواز، فتدل سيرة مجموعهم على الجواز، أي جواز الثورة وجواز عدمها، وهذا هو مطلوب المستدلّين بثورة الحسين، نعم استفادة الوجوب مشكل ضمن الصيغة والإطار الذي بيّناه أعلاه، إلا إذا قيل: إنّ الاستدلال يكون بمعونة النصوص المحيطة بأفعالهم والتي تمنع عن القيام بغير ما قاموا به، مثل التي تذمّ من يترك التقيّة، أو من يتخلّف عن الحسين، وهذا بحث فقهي آخر يتعدّى دائرة الفعل، فلاحظ جيداً.
4 ـ إشكالية اللاثورية في الحركة الحسينية : وثمّة مشكلة أخرى أمام الاستدلال بالثورة الحسينية على جواز الثورة المسلّحة ضد النظام الفاسد، ينقلها العلامة محمد حسين فضل الله ثم يناقشها بمخالفتها لظاهر النصوص والأحداث الحسينية[114] ، وهي أنّ الإمام الحسين لم يكن يريد من الأساس القيام بثورة دموية، بل أراد إرسال مسلم بن عقيل للإمساك بزمام الكوفة؛ نتيجة تأييد وجوهها له دون حرب أو سفك دماء، فلا يحرز أنّه كان يريد الخوض بمعركة دموية ضدّ النظام الفاسد، وإنّما اضطرّ إليها في آخر المطاف اضطراراً؛ دفاعاً عن نفسه وأهل بيته. وهذه الفرضية تحتاج لوقفات جادّة لتحليل الموقف، وإن كانت المؤشرات ـ بحسب التحليل الذي أوردناه ـ تساعد على عكس ذلك، فلا نطيل؛ فإنّه من البعيد جداً أنّ حكومة الشام لن تواجه حركة الحسين حتى لو سيطر على الكوفة بلا قتال.