مدخل وتمهيد:
بما أن هذه الليلة المباركة تصادف ذكرى ميلاد السيدة زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليها أفضل الصلاة والسلام أحببت في هذا اليوم أن أتطرق إلى بعضٍ مما يتعلق بحياتها ، وفي الحقيقة لا يمكنني في هذه العجالة أن أشرح أو أبسط الكلام في عرض وتناول كل زوايا وأبعاد هذه الشخصية الفذة، فالحديث عن زينب هو حديث عن الألم والمصائب، حديث عن السبي والتهجير، حديث عن المعاناة والآهات، حديث عن الجوع والعطش، حديث عن الترويع والتهديد، حديث عن الصراخ والعويل، حديث عن البكاء والتفجع، حديث عن الحرق والفرار، هذا هو حديثنا عن زينب ، ومع كونه حديثاً هذه صفاته إلا أنه في نفس الوقت حديث عن الصبر والصمود، حديث عن الشجاعة والإباء، حديث عن التحمل والشموخ، حديث عن المقاومة للظلم والاستبداد، حديث عن العزة والكرامة، حديث عن الرضا واليقين، وفي الأخير هو حديث عن النصر والفتح والغلبة، فهذا هو الحديث عن اللبوة الجريحة زينب صلوات الله وسلامه عليها في مجمله.
المرأة القدوة قدوة للرجال والنساء:
فزينب تعتبر المرأة القدوة ولا يظنن أحدٌ أن حديثنا عن السيدة العظيمة زينب ، وعن قوتها وصمودها وشموخها وشجاعتها ويقينها ورضاها وتسليمها مقتصر في الاقتداء على المرأة بل إن السيدة زينب هي قدوة وأسوة للجنسين ذكورا وإناثاً. إن زينب لم تصل إلى ما وصلت إليه من هذا الشموخ وهذه العزة وهذا العطاء إلا من خلال أمها الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، فللزهراء دورٌ كبيرٌ في صياغة شخصية ابنتها الصديقة الصغرى زينب الكبرى .
الشبه بين البنت والأم عليهما السلام:
والشبه بين الأم وابنتها جدُّ كبير ولا يكاد يعثر الإنسان الباحث في السيرتين على فرق إلا العصمة المنصوصة لأمها الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، وإلا فزينب عليها الصلاة والسلام معصومة، ولعل من أوجه الشبه بينهما أن الزهراء عاشت تلك الفترة من المعاناة مع الإمام علي فكانت جنباً إلى جنب مع علي في الدفاع عن العقيدة والمبدأ والولاية وهذا هو المهم، فهي مع كونها زوجة وهي أم وبالنتيجة هي امرأة لها حياتها الخاصة، ولكنها وقفت مع علي في مشروعه - مشروع الإسلام - ذلك المشروع الذي كان أمانة بيد الإمام علي ، فنجد الزهراء كانت هي المدافعة عن تلك المكتسبات، والزهراء كانت المدافعة عن حريم الولاية التي هي الإسلام الأصيل، ومواقفها شاهد صدق على تلك الشجاعة وذلك الصمود والشموخ والبسالة، وتلك المواقف الكبيرة التي وقفتها الزهراء عليها الصلاة والسلام في ذلك الدور المرّ من حياتها غير خافية على أحد أزاح عن عين بصيرته سحائب عصبيته.
السيدة زينب والدفاع عن الثورة الحسينية:
ونعود لنقول: كما كانت الأم الحاضنة للسيدة زينب كذلك فإننا نجد في ابنتها السيدة زينب من الشجاعة والبسالة التي تجسّدت في الدفاع والحماية والرعاية للثورة الحسينية والمشروع الحسيني، وعلينا أن نعرف أن المشروع الذي حمله الإمام الحسين ليس مشروعا خاصّا بالمسلمين فقط بل مشروعه للإنسانية قاطبة، وهذا ما يمكن معرفته من قوله في يوم العاشر من المحرم الحرام من سنة 61 للهجرة النبوية حينما وجّه خطابه المدوي في تلك البقعة الطاهرة كربلاء الفداء: «إن لم يكن لكم دين وكنت لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم»، نعم، على الإنسان ألا يكون عبدا لغيره، عليه أن يكون حرّا شريفاً لا يأتمر بأوامر تؤدي إلى عبوديته، إلى ذلته، إلى خسته حتى لو لم يكن مسلما، فزينب العظيمة وقفت مواقف عظيمة بحجم عظمة شخصيتها المنقطعة النظير، ولولا السيدة زينب لما وصلتنا الثورة الحسينية بالصورة التي وصلتنا اليوم، فالإمام الحسين ونهضته ومشروعه حيٌّ في أخته السيدة زينب ، ولولا زينب لأعطي للحسين ولأهل بيته عليهم الصلاة والسلام صورة ثانية.
الثورة الحسينية وقلب الحقائق:
وهنا مربط الفرس، فالإمام الحسين الشهيد عليه الصلاة والسلام - وهو ابن رسول الله - نهض ليدافع عن الحق، ويرفع راية العزة والكرامة لتبقى راية الإسلام خفّاقة عالية، نهض مريدا الخير لهذه الأمة، ولكن جهلة الأمة فعلوا به وبأهل بيته وأصحابه عليهم الصلاة والسلام ما تذوب له القلوب، وتنصهر له الأكباد، وعلاوة على تلكم الجرائم، وذلك التنكيل والتقتيل المنقطع المثيل عمدوا لقلب الحقائق وتشويه الصور، وهذا ما يسبب الإزعاج والألم الشديدين اللذين لا يطيقهما الإنسان الحر صاحب الضمير الحي، فالإنسان قد يتحمل القتل في سبيل الله، ويتحمل السجن والتهجير والترويع كما فعلت السيدة الطاهرة زينب العقيلة عليها الصلاة والسلام حيث تحملت هذا الشيء الكبير والكثير، ولكن أن توصف ويوصف أهل بيتها الكرام الذين نهضوا لطلب الإصلاح في أمة رسول الله بصفة الخوارج فهذا شيء يؤلم ويقض المضاجع ويندى له جبين الإنصاف والحرية، فهذا القلب للحقائق آلم ويؤلم قلب العقيلة زينب عليها الصلاة والسلام، وآلم ويؤلم قلب الإمام زين العابدين وإلا فالقتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة.
زينب تكتب التأريخ من جديد:
اليوم زينب تكتب التأريخ من جديد نعم زينب تسجل لنا هذا التأريخ من جديد فتعطينا الدروس الكبيرة التي ينبغي لنا أن نعيها لأن زينب كانت في القمة أمام تلك المصائب، وتلك الشدائد - من القتل والتهجير والأسر -، حيث وقفت زينب مواقف الأبطال موقف الشجاعة والإباء والصمود والصبر، ووالله لو ألقيت المصائب التي ألقيت على قلب زينب على الجبال الشامخة لتدكدكت وانهدت، فلله أنتِ يا عقيلة الطالبيين، ولله صبركِ ورضاكِ وتسليمكِ.
الرضا عنوان بارز في شخصية السيدة زينب :
وأكبر شاهد على صمود وصبر السيدة زينب أنها تحت وطأة كل الشدائد التي ما حدّث التأريخ بمثلها من الوحشية والقسوة كانت تقول: «اللهم تقبل منا هذا القربان» نحن عندما نصاب بمصيبة ما أو بألم ما في أنفسنا أو في أهلنا أو أصحابنا أو أحبائنا لا نكاد نستقر وتسكن نفوسنا، وقد - والعياذ بالله - تختلف حتى المفاهيم عند بعضنا لأن المؤمن الحقيقي لا يعرف إلا في وقت البلاء والاختبار والامتحان، ومع ما وقع على زينب من المصائب والمتاعب والنوائب - كما ذكرت - لم نجد في سيرتها بل ولا يوجد في قاموسها إلا الرضا والتسليم حيث قالت: «اللهم تقبل منا هذا القربان» أي يا رب ما أصابنا وحلّ بنا من عناء وتهجير وقتل وسبي وجوع وعطش كله في سبيلك وقربة إليك، فعلينا إذن أن نأخذ هذا الدرس العظيم من السيدة العظيمة زينب .
المصائب والمحن جمالٌ في نظر السيدة زينب :
زينب - كما ذكرت - مواقفها البطولية كبيرة وكثيرة جدا، ولندقق النظر في جوابها ليزيد لعنة الله عليه حينما قال لها: كيف رأيتِ صنع الله في أخيك؟ فهو لعنه الله يخاطبها من موقع نشوة النصر الظاهري ونشوة الغلبة الظاهرية ظنا منه أنه سيطر على الوضع بالقتل والترويع والتهجير وحرق الخيام، ظن أنه سيطر وهزم الحسين ، إلا أنها أجابته إجابة نافذ البصيرة صلب الإيمان وقالت له: «ما رأيت إلا جميلا» أي أن كل شيء في سبيل الله من قتل وحرق وتهجير وهدم وإن كان ظاهره الشدة والألم والحسرة إلا أنه جميل في حقيقته لكونه يتضمن العزة والكرامة، والقتل في سبيل الله شهادة وفوز وسعادة، ونجدها أيضا في مورد آخر من خطاباتها تقول: «هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج ثكلتك أمك يا بن مرجانة» نعم، وما نراه من قتل وسبي وتهجير وترويع في بعض المناطق التي نعيشها اليوم كله في سبيل الله، وكله جميل في الحقيقة - كما تقدم -.
حقيقة باقية "العاقبة للمتقين":
سيدتنا زينب الكبرى خاطبت يزيد لعنه الله بقولها: «أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء وأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة؟!» فهنا طرحت استفهامها الإنكاري إذ الأمر ليس كذلك، نعم، هذا هو الظاهر الذي يظهر ولكن الحقيقة والواقع نحن الكرماء نحن أهل العزة، وتستمر وتقول: «فمهلا مهلا أنسيت قوله تعالى ﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ﴾ فو الله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلا» أي أن العاقبة والنتيجة لطلاب الحق والبقاء والعزة والكرامة هي للحسين وأولاد الحسين وأصحاب الحسين ومن سار على نهج الحسين عليه و.
وكذلك خاطبته بخطابٍ - كما ذكرت - يعيده التاريخ اليوم: «فكد كيدك وأسع سعيك وناصب جهدك فو الله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا فهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وشملك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين» إذن الخسة والعار والشنار والخزي لأولئك الظلمة، لأولئك الذين يحملون الدناءة والخسة والحقارة.