فنقول هناك إجماع لدى الطرفين-المؤيدين للتطبير والرافضين له- في الأعم الأغلب،في إن التطبير ظهر حديثاً قبل قرنين أو ثلاثة على ابعد الفروض ولم يكن له قبل هذا التاريخ أي وجود. وهناك عدة آراء حول الموضوع-ذلك لان المسئلة ليست مضبوطة تاريخياً- وهي:
1-مقتبس عن المسيحية:
يُنقل عن الشيخ مرتضى المطهري في كتابه \"الجذب والدفع في شخصية الإمام علي(ع)\" ص165 قوله \"إن التطبير والطبل عادات ومراسم جاءتنا من أرثوذكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم\"
والقفقاز أو القفقاس أو القوقاز هي منطقة بين أوربا واسيا وتعتبر من مناطق أوربا الشرقية.
وهو بهذا يحدد أن مصدر الاقتباس مسيحي ولكنه لم يحدد متى وكيف تم الاقتباس؟.
وهناك كلام مشابه للسيد حسن الأمين كما ينقل عنه احمد العامري الناصري في كتابه \"التطبير تاريخه وقصصه\" ص31 حيث يقول \"تناول المؤرخ المعروف السيد حسن الأمين ظاهرة التطبير التي تقام ضمن الشعائر الحسينية في العاشر من محرم الحرام حيث قال: هناك قولاً يقول بان التطبير بدأ في عهد الصفويين ، والشيء الذي قد يكون معقولاً هو انه كان في بلاد ((القفقاس)) مسيحيون يقومون بتعذيب جسدهم فداءً للسيد المسيح،وكان في القفقاس عدد قليل من الشيعة نقلوه إلى إيران عندما كانوا يذهبون لزيارة ضريح الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)\"
2-الدولة الصفوية
هناك رأي يقول بان التطبير ظهر في الدولة الصفوية (906-1148هـ/1500-1736م) وهناك أكثر من رواية في أسباب ظهوره في تلك الفترة، منها ما ذكره علي شريعتي في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي ص208 حيث يقول \" ذهب وزير الشعائر الحسينية إلى أوروبا الشرقية وكانت تربطها بالدولة الصفوية روابط حميمة يكتنفها الغموض – وأجرى هناك تحقيقات ودراسات واسعة حول المراسيم الدينية والطقوس المذهبية والمحافل الاجتماعية المسيحية وأساليب إحياء ذكرى شهداء المسيحية والوسائل المتبعة في ذلك ، واقتبس تلك المراسيم والطقوس وجاء بها إلى إيران .
جدير ذكره أن مراسيم اللطم والزنجيل والتطبير وحمل الأقفال مازالت تمارس سنوياً في ذكرى استشهاد المسيح في منطقة اللورد\".
وكلامه هذا مشابه لما قاله المطهري لان الققفاس تقع في أوربا الشرقية. ولكن شريعتي يحدد الآلية والتوقيت الذي تم فيه اقتباس هذه الطقوس.
وقريب منه ما نقلناه في النقطة السابقة عن السيد حسن الأمين.
3-الدولة القاجارية(1779-1925م):
جاء في كتاب جدل ومواقف في الشعائر الحسينية ص69 تحت عنوان \"رواج التطبير في العهد الناصري القاجاري\" ما نصه \" ومما امتازت به طقوس المأتم في هذه الفترة، رواج التطبير والضرب بالموسى، وإن كانت هذه التقاليد رائجة منذ سنين، لكنها اتسعت وشاعت في هذه الفترة بشكل غير مسبوق. هناك ثلاثة آراء حول جذور هذه التقاليد. فيرى جماعة، منهم الدكتور علي شريعتي، أنّها وما شابهها من تقاليد كتعليق الأقفال بالجسم، والضرب بالسلاسل، وحتى التشابيه، اقتبسها ملوك الصفوية من الطقوس المسيحية، التي كانت تقام باسم ((مصائب المسيح)) في ذكرى استشهاده. فكانوا يمثلون المصائب والمحن التي حلت به وبالحواريين في قالب مسرحيات، ولازالت هذه الطقوس تقام سنوياً في ((اللورد)). ويعتقد آخرون بأن العرب أدخلوها على المآتم، فهي تشبه تقاليدهم من حيث شكلها وإطارها. وتعتبر جماعة أخرى أنها انتقلت من أتراك أذربيجان إلى الفرس والعرب، لاسيما التطبير والضرب بالموسى. عبد الله المستوفي من الجماعة الأخيرة، ويرى أنّ الفاعل الأصلي هو فاضل الدربندي.
يقول المستوفي عن رواج التطبير والضرب بالموسى في العهد الناصري:الضرب بالموسى من الأعمال التي أدخلها هذا الملا [فاضل الدربندي] في طقوس عاشوراء، أو على الأقل روج لها، وصوّر هذا الفعل الحرام، موجباً للثواب، وتقبّل ذلك الأتراك الجهلة، وأصبحت هذه المخالفة الصريحة للشرع من تقاليد المأتم الحسيني ومن الأعمال المثاب عليها. أما ردات ((شاخسين [الملك حسين] واخسين)) و((حيدر! صفدر!)) قبل التطبير، فردات تركية، يعتقد بها الأتراك ويرددونها، وإن شاركهم في ذلك بعض أهل العراق، فليسوا بالحسبان من حيث العدد.\"
وكذلك جاء في ص415 ما نصه \"هكذا كانت مبادرات الدربندي،حتى وصلت إلى تأسيس ونشر فكرة التطبير، يقول المستوفي (عبد الله المستوفي في كتابه بالفارسية \"شرح زندكاني من يا تاريخ اجتماعي وإداري دورة قاجارية ج1 ص276) في هذا الخصوص: إن ضرب الرؤوس بالسيف أو الشفرات يوم عاشوراء كان من ابتكارات هذا العالم في تلك الشعائر ،أو في اقل تقدير من المروجين لهذه الظاهرة؛فزعم الثواب في ارتكاب هذا المحرم.
كما قال مهدي بامداد (في كتابه بالفارسية شرح حال رجال إيران در قرن 12 و 13 و14 هـ ج4 ص138) أيضاً كلاماً مشابهاً : لقد جوز ما كان مخالفاً للأصول الإسلامية ،وسن ضرب الرأس بالسيف والشفرة في ذكرى عاشوراء، ومارس ذلك بنفسه أيضاً . . . ومنذ ذلك الحين درج العوام . . . اقتفاءً لعمله على التطبير في عاشوراء.\"
وفي التعريف بالدربندي وموقفه من الشعائر جاء في ص142 من نفس الكتاب\"الفاضل الدربندي (1286 هـ) الذي اشتهر بولعه بإقامة المآتم ، وإفراطه في إحياء مراسم ذكرى عاشوراء . ويظهر ذلك بأدنى تأمل في كتابه ، كما يصرح هو في المقدمة: ((إن الدنيا وما خلق ، لأجل إقامة عزاء الحسين (عليه السلام) فيها)) (نقلاً عن كتابه أسرار الشهادة ص5)\".
وفي ص72 من نفس الكتاب أيضاً وتحت عنوان \"الدربندي ودوره في إشاعة التطبير والخرافة \" يقول \"إن وافقنا نصر الله المستوفي على دور الملا آقا ابن عابد الشيرواني (المعروف بالفاضل الدربندي وملا آقا دربندي) في إشاعة التطبير في تلك الفترة، فيجب الاعتراف بأنّه لم يكن الدور الوحيد له في المآتم آنذاك. ولعل كتابه، إكسير العبادات في أسرار الشهادات لعب دوراً مهماً في ذلك. فهو ككتاب روضة الشهداء للواعظ الكاشفي، كتاب مقتل، وخاص ببيان مصائب سيد الشهداء(ع) وأنصاره. وقد ترك كلا الكتابين آثاراً متشابهة، إذ جاءا لسدّ نفس الثغرة، ولتلبية نفس الحاجة، وتلقيا استقبالاً واسعاً من قبل الناس، كل في فترة انتشاره ـ الأول في أيام تأسيس الحكم الصفوي، والآخر في قمة ازدهار العهد القاجاري ـ وحظيا بنفس التقدير من قبل أهل الفن، لكن تفوق كتاب أسرار الشهادة على الروضة في ترويج القصص الخرافية المجعولة حول واقعة كربلاء.
يقول مؤلف ريحانة الأدب (محمد علي مدرس ج2 ص217) في تعريف الملا آقا دربندي وكتاب أسرار الشهادة: ((تضمن الكتاب الغث والسمين، لما تمتع به مؤلفه من شغف وحب))، وينقل عن صاحب أعيان الشيعة: ((نقل الدربندي الكثير من القصص الواهية في مؤلفاته، مما لا يصدقه العقل، ولا شاهد من النقل عليه)).للمحدث النوري في اللؤلؤ والمرجان(ص190) نفس الرأي، وعلى الرغم من تأكيده على إخلاص الفاضل الدربندي ومدى حبه لأهل البيت(عليهم السلام)، ينقل قصة تأليف أسرار الشهادة، كمطلع على الموضوع، قائلاً:وفد يوماً سيد خطيب عربي، من الحلة إلى كربلاء، وقدّم للشيخ عبد الحسين الطهراني مخطوطات قديمة، ورثها عن أبيه، بقلم أحد علماء جبل عامل، تتضمن روايات عن حياة أهل البيت(عم) ومصائبهم. بعد أن اطلع عليها الشيخ، وجد فيها كثيراً من الأكاذيب الواضحة والأخبار الواهية، لذلك نهى السيد العربي عن نقلها. لكن يبدو أنّها وقعت في يد الفاضل الدربندي، الذي كان يسكن العتبات العاليات آنذاك، وكان مشغولاً بتدوين أسرار الشهادة. فنقل تلك الروايات، وأضاف عليها من عنده، وزاد على أخباره الواهية المجهولة، وفتح باب طعن مخالفيه، والسخرية منهم والاستهزاء بهم، على مصراعيه. ووصل به الأمر حيث عدّ جيش الكوفة ست مئة ألف راكب ومليوني راجل، وهيأ بذلك ميداناً وسيعاً للخطباء، لا يضيق بهم مهما صالوا وجالوا فيه، ومادة غزيرة لا ينتهي بها الافتراء على العظماء، وحجتهم أنّ الفاضل الدربندي قال كذا.
ويعتبر الشهيد مرتضى مطهري في الملحمة الحسينية، أنّ عمل الملا آقا دربندي في تأليف أسرار الشهادة، استخدام لوسيلة غير مقدسة لهدف مقدس.لكن نهاية إقبال الناس على الدربندي لم تكن بمصلحته، إذ اتخذت مواعظه على المنبر منحى آخر. فصار ينتقد أرباب السلطة لتصرفاتهم الغير أخلاقية. لذلك قرر الملك إنهاء محاضراته بالاستعانة بإمام جمعته، فأبعده إلى كرمانشاه. في المجموع، كما كان للدربندي وكتبه دوراً في ترويج للمآتم آنذاك، أثّر بشكل كبير في إدخال الروايات الكاذبة والخرافية، وإشاعتها، وتسطيح مستوى هذه المآتم.
لم يكن الدربندي وكتابه، العامل الوحيد في الجعل، ودخول الأخبار الواهية عن واقعة كربلاء إلى المآتم ـ التي بلغت ذروتها آنذاك ـ. إقبال الناس على قصص كهذه، أدى إلى غلبة الطابع البطري على الطابع الديني في المآتم والتشابيه، مما هيأ أرضية خصبة لظهور أمثال هذا الكتاب. فيمكننا ذكر طوفان البكاء للميرزا إبراهيم الجوهري، ومحرق القلوب للملا مهدي النراقي كشواهد على كتب شاطرت روضة الشهداء وأسرار الشهادة في خلط الغث بالسمين، والصدق بالكذب، ودعمت الطابع القصصي على حساب انحسار الطابع التأريخي المستند.\"
4-البكتاش
يقول احمد العامري الناصري في كتابه التطبير تاريخه وقصصه ص42 \"بعد أن انتشرت دعوة الحاج بكتاش(تركي تبريزي المولد درس في خراسان وأصبح داعية إصلاح في عموم بلاد الأتراك) ،ووصل انتشار دعوته أن التزم بمبادئها السلطان العثماني السلطان الغازي مراد خان الأول الأشعري ابن السلطان أورخان الغازي وأسس الجيش الإنكشاري في سنة 736هـ وفق تعليمات السيد محمد الرضوي التبريزي المعروف بالحاج بكتاش، وأسماهم الجيش الجديد (يكي جري) الذي صُحِّف فيما بعد بـ(إنكشاري)، وكان وفق تعليمات الحاج بكتاش تأسيس(تكية-صالة) في كل ثكنة عسكرية للتوجيه المعنوي والديني،وبقيت هذه التكيات مرتبطة بالجيش الإنكشاري مدة ثم انفصلت عنها، وتحولت إلى صالات مستقلة للتوجيه الديني (الصوفي في الغالب سني وشيعي) في طول البلاد العثمانية وعرضها،غير أنها من جهة ثانية لم تنفصل عن الجيش العثماني حتى بعد انحراف الإنكشارية والقضاء عليهم فقد بقيت التكايا البكتاشية في كثير من ثكنات الجيش خصوصا الجحافل الشرقية والتي قاتلت مئات السنين للجيوش الروسية في القفقاس.
ويبدو أن هذه الثكنات حسب رواية الأتراك عانت في القرن الثالث عشر الهجري من مشكلة عويصة بعد انتشار الأسلحة النارية وهي أن التدريبات بالسلاح الناري الحي تستدعي وفاة بعض الأفراد وهذا مسموح به في الجيوش حسب العرف العسكري الحديث المعمول به لحد الآن. وقد أشكل هذا الأمر على المتدينين في التكايا العسكرية في الجهات الشرقية والتي تحوي على الجنود الشيعة والسنة، وجرت بينهم مداولات أدت إلى ما يلي:
بما أن التدريب العسكري للقتال الحقيقي يستدعي رؤية أشد ما يرعب الإنسان وهو الدم والموت حتى يكون المقاتل جاهزاً وغير مبالٍ بما يراه حين المعركة لشد عزيمته فإن الجهات الدينية في التكايا اقترحت أن يقوم بعض الجنود بنوع من حجامة الرأس المكشوفة (الفصد) لأنها غير محرمة، وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدة مرات، وفيها أحاديث عن الاستطباب بها. ويكون ذلك بمناسبات دينية فاختاروا أن يكون يوم قتل الحسين عليه السلام، وهو يوم عاشوراء.
وقد نجح هذا الأمر فعلاً في تقوية قلوب الجنود وإزالة بعض عوائق الإقدام في الحرب وهي العوائق النفسية. وهكذا بدأ الانتشار تدريجياً من تكية إلى تكية حتى وصل إلى تكيات خارج حدود الجيش العثماني، وهي التكيات الدينية الشعبية المنفصلة عن الجيش الإنكشاري من مدة طويلة. وقد كان الأمر محصوراً في تكيات القفقاس وأذربيجان وتبريز وفي نهاية القرن الثالث عشر وصل إلى تكية البكتاشية في كربلاء، وبعده بقليل في النجف الأشرف في العراق، أي بحدود سنة 1890م أو أكثر قليلاً. ولكنه كان في تكيات البكتاشية في مصر قبل ذلك ببضع عشرات السنين، وكان التطبير موجوداً في مصر قبل سنة 1870م ويتم في باحات مسجد رأس الحسين عليه السلام. ويبدو أنه كان موجودا إلى ما بعد سنة 1900م بشهادة بعض المعمرين في مصر لأحد العلماء في النصف الأول من القرن العشرين وقد اخبرني بذلك شخصياً.\"
وينقل قريب من ذلك باختصار محمد جمعة بادي-وهو من مؤيدي التطبير- في كتابه \"المصيبة الراتبة\" ص619 ويضيف \"وتقول الرواية إن علماء الشيعة فوجئوا بهذه الظاهرة الجديدة التي ظهرت في المحيط الشيعي فاستدعوا إدارة الهيئات الدينية البكتاشية وسألوهم عنها فأكدوا غرض التعبئة العسكرية بما لا يتعدى مضمونه الحجامة، والقصد منه ربط الوجدان الشعبي بالحسين (ع) وذكره وتأكيد الاستعداد للفداء. فاقتنع الفقهاء بعدم وجود دليل على تحريم ذلك، خصوصاً وان الظاهرة تضم العناوين الحسنة\"، ويذكر أن ذلك كان بحدود سنة 1890م.
5-الأتراك:
يقول طالب الشرقي في مجلة الموسم العدد 12 المجلد 3 (1412هـ-1991م) ص212 ما نصه \"ثمة رواية أخرى تفيد أن الشيعة من أتراك أذربيجان وتبريز وقفقاسية قدموا العراق لزيارة العتبات المقدسة وذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي فدخل جماعة منهم في العاشر من محرم الحرام إلى صحن الحسين ( ع ) واجتمعوا قرب الباب المعروف اليوم بالزينبية ومعهم القامات وهو سلاحهم التقليدي الذي يلازمهم خلال سفرهم .
ثم أقاموا مجلساً للتعزية في المكان المذكور وأخذ مقرؤهم يشرح لهم واقعة الطف باللغة التركية بشكل أهاج مشاعرهم فاخرجوا قاماتهم واخذوا يضربون رؤوسهم دون أن يحلقوها وبشكل عنيف ، حول صخرة بارزة في المكان المذكور .
وقد توفي اثنا عشر شخصاً من هؤلاء الأتراك بعد عملية التطبير المذكورة مباشرة حيث لم تسعفهم الجهات الصحية في حينه ، لأنها لم تتوقع إقدامهم على مثل هذا العمل ، ولم تتهيأ له.\"
وينقل أيضاً احمد العامري الناصري في كتابه التطبير تاريخه وقصصه ص45 نقلاً عن كتاب \"الأيام في كربلاء\" لمحسن العلام، قصة القائد التركي الذي لم يصل في الوقت المناسب لحضور مراسم الشعائر الحسينية في كربلاء ووصل بعد انتهاء تلك المراسم فقام بضرب رأسه بالسيف ندماً أمام جنوده حتى قضى، فصار جنوده يأتون كل عام وهم يحملون السيوف ويضربون بها على رؤوسهم وفاءٍ لذلك القائد ،فاستحسن الناس هذا الفعل وقاموا بتقليده ومنه نشأ التطبير.
وينقل كلام شبيه بذلك-أي برواية الشرقي- إسحاق النقاش في كتابه \"شيعة العراق\" ص269.
ورواية الشرقي كما يبدو تتحدث عن ظهور التطبير في العراق مابين1800م إلى 1850م ، فلا تصلح لبيان بدء ظهور التطبير ، وتتعارض مع ما ورد من نصوص حول وجود التطبير قبل هذا الوقت في إيران. ولا يمكن القول بعفوية التصرف من قبل الأتراك الشيعة وإنما يمكن القول-لو صحت الرواية- أنهم أول من بدأ بالتطبير في العراق تقليداً لما موجود في إيران قبل هذا التاريخ.
6-الهند
جاء في جواب الشيخ حسن الصفار في المقابلة التي أجراها معه تركي الدخيل في برنامج إضاءات في قناة العربية بعد ما سأله المقدم عن بداية التطبير حيث قال إن \"التطبير حالة حادثة جديدة لم تكن سابقاً موجودة، لعلها يعني بعقود من الزمن، يعني نشؤها منذ عقود من الزمن، وقد نشأت أولاً عند الهنود، يعني في الهند، الشيعة الهنود بدؤوا ممارسة هذا العمل وبعد ذلك انتقلت إلى إيران، ومن إيران انتقلت إلى بعض البلدان العربية، باكستان وإيران والبلدان العربية\"
يقول موسى الموسوي في كتابه الشيعة والتصحيح ص99 ما نصه \"ولا ندري على وجه الدقة متى ظهر ضرب السلاسل على الأكتاف في يوم عاشوراء وانتشر في أجزاء المناطق الشيعية مثل إيران والعراق وغيرهما ولكن الذي لا شك فيه أن ضرب السيوف على الرؤوس وشج الرأس حداداً على \" الحسين \" في يوم العاشر من محرم تسرب إلى إيران والعراق من الهند وفي إبان الاحتلال الإنجليزي لتلك البلاد وكان الإنجليز هم الذين استغلوا جهل الشيعة وسذاجتهم وحبهم الجارف للإمام \" الحسين \" (ع) فعلموهم ضرب القامات على الرؤوس، وحتى إلى عهد قريب كانت السفارات البريطانية في طهران وبغداد تمول المواكب الحسينية التي كانت تظهر بذلك المظهر البشع في الشوارع والأزقة وكان الغرض وراء السياسة الاستعمارية الإنجليزية في تنميتها لهذه العملية البشعة واستغلالها أبشع الاستغلال هو إعطاء مبرر معقول للشعب البريطاني وللصحف الحرة التي كانت تعارض بريطانيا في استعمارها للهند ولبلاد إسلامية أخرى وإظهار شعوب تلك البلاد بمظهر المتوحشين الذين يحتاجون إلى قيِّم ينقذهم من مهامه الجهل والتوحش فكانت صور المواكب التي تسير في الشوارع في يوم عاشوراء وفيها الآلاف من الناس يضربون بالسلاسل على ظهورهم ويدمونها بالقامات والسيوف على رؤوسهم ويشجونها تنشر في الصحف الإنجليزية والأوربية وكان الساسة الاستعماريون يتذرعون بالواجب الإنساني في استعمار بلادٍ تلك هي ثقافة شعوبها ولحمل تلك الشعوب على جادة المدنية والتقدم، وقد قيل إن \" ياسين الهاشمي \" رئيس الوزراء العراقي في عهد الاحتلال الإنجليزي للعراق عندما زار لندن للتفاوض مع الإنجليز لإنهاء عهد الانتداب قال له الإنجليز: نحن في العراق لمساعدة الشعب العراقي كي ينهض بالسعادة وينعم بالخروج من الهمجية، ولقد أثار هذا الكلام \" ياسين الهاشمي \" فخرج من غرفة المفاوضات غاضباً غير أن الإنجليز اعتذروا منه بلباقة ثم طلبوا منه بكل احترام أن يشاهد فيلماً وثائقياً عن العراق فإذا به فيلم عن المواكب مواكب التطبير في شوارع النجف وكربلاء والكاظمية تصور مشاهد مروعة ومقززة عن ضرب القامات والسلاسل وكأن الإنجليز قد أرادوا أن يقولوا له: هل إن شعباً مثقفاً لم من المدنية حظ قليل يعمل بنفسه هكذا؟\"
مع ملاحظة انه من الصعب الوثوق بما ورد في كتب الموسوي لان كتاباته مغرضة والهدف منها ضرب المذهب الشيعي وهي ليست مجرد عملية تصحيح بريئة ، ولكننا ذكرنا نصه هنا محاولةً منا في استقصاء اغلب الآراء حول الموضوع.
7-الشيعة القفقاس
يقول طالب الشرقي في مجلة الموسم العدد 12 المجلد 3 (1412هـ-1991م) ص212 ما نصه \"كل ما يعرف عن التطبير في النجف هو الشائع على ألسنة معمري البلدة ، وهو أن الشيعة من القفقاسيين عندما يأتون إلى زيارة الأئمة في كربلاء والنجف كانوا يستخدمون ظهور الحيوانات في سفرهم ، وأسلحتهم السيوف ، وتستغرق مدة السير من ثلاثة إلى أربعة أشهر حتى يصلوا إلى العتبات المقدسة ، وكلهم لهفة لرؤية قبور الأئمة ونفوسهم مفعمة بالحب لآل البيت .فصادف أن دخلت إحدى قوافل الزائرين القفقاسيين إلى كربلاء يوم العاشر من المحرم وكانت المدينة صورة صادقة للحزن ، ولقد سودت المساجد والجوامع و واجهات المحل ، والبكاء واللطم على أتمه .ومقتل الحسين يقرأ في الشوارع أو في الصحن الحسيني الشريف .واتفق أن يكون احد القفقاسيين جاهلاً بهذه الأمور ، فشرح له أحد العارفين باللغة التركية معركة الطف ، واظهر له بشكل لا يطيقه قلب محب ، الصورة المؤلمة التي مرت على الحسين ومن معه ، فأثر ذلك في نفسه ، وأفقده صوابه ، فسل سيفه وضرب رأسه ضربة منكرة مات على أثرها ، وتحولت مواكب العزاء إلى تشييع ذلك الرجل الزائر .واستحسن احد رؤساء مواكب العزاء ( وكان تركياً ) هذه العملية فنظم في السنة التي تلت تلك الحادثة عزاءً مكوناً من مجموعة صغيرة من الأفراد يلبسون الأكفان ويحملون السيوف.ذهب بهم إلى المكان المعروف اليوم بالمخيم ( خيمكاه ) و جاء بحلاق فحلق شعر رؤوسهم وجرح كل فرد منهم جرحاً بسيطاً في رأسه ، وخرجوا بهذه الهيئة متجهين إلى مرقد الحسين ، وهم يندبون ( يا حسين ) حتى وصلوا إلى الصحن الشريف ، وبعد عويل وبكاء تفرقوا\".
وهذه الرواية تتحدث أيضاً عن ظهور التطبير في العراق فقط ولا تربط بين الشيعة القفقاسيين والطقوس المسيحية في بلادهم.
ويذكر توفيق بوخضر في كتابه \"وقفة مع التطبير\" ص31 نقلاً عن الشعائر الحسينية لمحمود الغريفي ص84 ما مضمونه إن الشيعة القفقاس هم أول من بدأ التطبير.
8-روسيا وقام بنقلها رجل إيراني:
يقول محمد جمعة بادي في كتابه \"المصيبة الراتبة\" ص618 ما نصه \"وقال البعض إن الظاهرة –أي التطبير- ترجع إلى روسيا أيام القياصرة، وقد قام رجل إيراني بنقلها إلى الشيعة\".
ملاحظات:
1-يبدو إن التطبير ظهر أول ما ظهر في الدولة الصفوية كما نقلنا سابقاً ويؤيد ذلك ما ورد في مشاهدات بعض الرحالة الأوربيين عن إيران في العهد الصفوي، لكن يبدو إن التركيز كان في تلك الفترة على الشبيه –أو التشابيه أو التمثيل- أكثر ولم يكن التطبير منتشراً بشكل واسع، حيث كان يقوم به عدد قليل جداً من الأفراد.
2-أصل الاقتباس مسيحي في الأغلب –وفقاً لما ذكرنا سابقاً- وكذلك فان ظاهرة التسوط أو تعذيب الذات أو معاقبتها باستخدام السوط أو غيره (flagellation) ظهرت عند المسيحيين في سنة 1348م ،أي قبل ظهور التطبير،حيث تذكر اغلب المصادر التي أرخت للطاعون الكبير الذي اجتاح أوربا في تلك الفترة والذي سمي بالموت الأسود كما في كتاب \"الموت الأسود للويس جيبلي سلافيسيك\" ص48 -الكتاب غير مترجم وهو بالانجليزية \" The Black Death by Louise Chipley Slavicek \"-يذكر هذا المصدر ومصادر أخرى ظهور فرق الجلادين أو المتسوطين(flagellants) تأثراً بالدمار الذي خلفته موجة الطاعون وكوسيلة من وسائل الخلاص من هذا المرض ، كما ادعى القائمون عليها.علماً إن التسوط شمل عدة وسائل منها ضرب الجسم بالسوط أو بالسيوف وغيره من الآلات الجارحة ، وتذكر تلك المصادر أيضاً أن تلك الظاهرة بقيت لفترة ثم بدأت بالانحسار وقد اعتبرها البعض من البدع وحاربتها الكنسية لفترة. ولازالت آثار هذه الظاهرة موجودة عند بعض الفرق المسيحية كما في بعض مناطق شرق آسيا وأوربا الشرقية.
فالحديث عن اقتباس التطبير من المسيحية أمر وارد جداً.
3-قد يكون البعض ممن مارس التطبير تأثر ببعض الطقوس الموجودة في الهند أما بشكل مباشر أو عن طريق المسلمين الموجودين في الهند أو قريباً منها. ويوجد في الهندوسية والجينية والبوذية ما يشبه ذلك من الطقوس كطقوس تعذيب الجسد كما في مهرجان ثيابوسام والمشي على الجمر والمشي على الزجاج وغيرها.
4-في عهد الدولة القاجارية وبحثٍ من الفاضل الدربندي –كما ذكرنا سابقاً- توسعت مظاهر التطبير في إيران ومنها انتشرت إلى باقي المناطق.
5-يمكن القول بان تقاليد البكتاش قد تكون مصدراً لظهور التطبير ولكني لا أؤيد هذا الرأي وذلك لـ:
أولاً: إن التطبير ظهر في إيران على الأرجح.
ثانيا: إن البكتاش هم عسكر الدولة العثمانية وليس من المعقول أن تأخذ الدولة الصفوية تقليداً معيناً من منافستها اللدود.
ثالثا:إن ضرب الرأس بالسيف عند البكتاش حتى لو قلنا بوجوده فهم لم يربطوه بقضية الشعائر الحسينية وإنما هو تقليد عسكري فقط،وما ذكره محمد جمعة بادي في النص الذي ذكرناه عنه سابقاً في كتابه المصيبة الراتبة ربما يكون مجرد استنتاج أو تخمين شخصي إذ هو لم يذكر مصدره.
نعم يمكن القول بان كلاً من التطبير وتقاليد البكتاش تأثر احدهما بالآخر بشكل من الإشكال.
6-ظهر التطبير في العراق متأخراً عن ظهوره في إيران،أما عن طريق الحكومة الصفوية أو عن طريق الإيرانيين في وقت الحكومة الصفوية أو بعدها أو عن طريق الشيعة الهنود أو الشيعة القفقاس أو عن طريق الشيعة الترك. ولعل الأقرب للواقع هو إن التطبير ظهر في العراق في أيام الدولة القاجارية وكان اغلب ممارسيه من غير العرب-الترك والفرس بشكل خاص- وبقي هذا الحال لفترة طويلة ثم ظهرت لاحقاً مواكب التطبير العربية.
رشيد السراي