المقدمة
الإجهاض هو جريمة الاعتداء على حق الجنين في الحياة وعلى حقه في النمو الطبيعي ، فان كانت القوانين الجنائية الوضعية قد اتفقت الى حد ما على حكم معين بصدد جريمة قتل الإنسان الحي ، فانها لم تتفق بذات الاتفاق على حكم جريمة الإجهاض فالاتجاهات التشريعية الجنائية الوضعية تتغير بتغير أوجه الحياة والمظاهر السائدة في المجتمع. ويرجع أساس هذا التغير في الأوضاع التشريعية الى اختلاف آراء الفلاسفة والمصلحين وعلماء الدين ورجال القانون وغيرهم حول مسألة الإجهاض ما بين مؤيد ومعارض. فالمؤيدون يرون ان في الإجهاض تقديساً لحرية المرأة في اختيارها للأمومة وطريقاً للتقليل من الأعداد المتزايدة للسكان في الدول ذات الكثافة السكانية العالية كما ان في الإجهاض تخفيف للمرأة من متاعب ومشاق الحياة اليومية. وبالمقابل يرى المعارضون عكس ما يراه المؤيدون ، فإباحة الإجهاض ستؤدي الى انتشار الفاحشة والرذيلة، وفيه هدم لبنيان العائلة كما انه يقلل من اعداد الولادات. ومع ذلك فالمعارضون للإجهاض معارضتهم ليست مطلقة أو قطعية ، بمعنى آخر توجد حالات استثنائية يحق فيها للمرأة الحامل إجهاض نفسها كالأسباب الطبية والاجتماعية والأخلاقية([1]).
فقد يكون الجنين سببه جريمة أخلاقية كالاغتصاب والمرأة المغتصبة في مثل هذه الحالة يكون قد وقع حيف عليها عندما ارتكب بحقها جريمة اغتصاب نتج هذا الاغتصاب أن حملت هذه المرأة جنيناً في بطنها مما زاد في محنتها وحيرتها ، فلم تجد بداً إلا التخلص من هذا الجنين بطريقة ما فظهر ما يعرف بإجهاض المرأة المغتصبة.
يثير هذا الموضوع عدة تساؤلات ، وهذه التساؤلات مصدرها مجموعة فرضيات ، فإذا ارتكبت جريمة اغتصاب بحق أنثى ، ينشأ عن ذلك جملة احتمالات ، فقد يكون المجرم المغتصب مجهول وقد يكون معلوم ، وقد يتناوب على اغتصاب هذه الأنثى مجموعة أشخاص ، وقد يموت المجرم المغتصب تاركاً ضحيته وما في بطنها في حيرة من أمرها لا تدري ماذا تفعل ، بل وأكثر من ذلك قد يصدر قرار من المحكمة بإعدام الجاني الذي خطفها واغتصبها ، فهل يقبل واقع المرأة الاجتماعي قبول الطفل الناتج عن مثل هذا الحمل ، فهناك عدة عوامل تتحكم في نظرة القانون الى مسألة إجهاض المرأة المغتصبة ، من ضمنها العوامل الثقافية والاجتماعية والدينية وأهم من ذلك مصلحة الجنين الذي سيخرج الى الوجود ليصطدم بالمجتمع وهو نتاج لحظة آثمة ، فهل من مصلحة هذا الجنين أن يخرج الى الوجود ؟ أم ينتهي الى العدم ؟ وهل يصلح ان تستند الى معايير قانونية للبت في ذلك؟
لكل ذلك وقع اختياري على دراسة هذا الموضوع للإجابة وعلى مثل هذه التساؤلات والإحاطة بكل ما فيه وتسليط الضوء عليه وإزالة ما يكتنفه من غموض أو لبس.
جاءت دراسة هذا الموضوع مقارنة بين حكم الفقه الإسلامي على مختلف مذاهبه وحكم القانون الوضعي في أربعة مباحث ، فقدتم تخصيص المبحث الأول لبيان ماهية إجهاض المرأة المغتصبة حيث تناولت تعريف إجهاض المرأة المغتصبة وتمييزه عما يشتبه به ثم سلطنا الضوء على التكييف القانوني له ثم تطرقنا بالدراسة الى مسألة اجتماع الظروف المشددة مع الأعذار القانونية المعفية أو المخففة عند إقدام المرأة المغتصبة على الإجهاض ، أما في المبحث الثاني فقد تعرضنا بالبحث والتفصيل الى بيان الشروط الواجب تحققها لإقدام المرأة المغتصبة على الإجهاض وفي المبحث الثالث وضحنا حالات وصور إجهاض المرأة المغتصبة أما في المبحث الرابع فقد تطرقنا الى حكم إجهاض المرأة المغتصبة في الفقه الإسلامي ومن ثم في القانون الوضعي.
المبحث الأول
ماهية إجهاض المرأة المغتصبة
تحتاج فكرة الإجهاض في تحديد معناه وبيان موضعه من السياسة الجنائية الى التعرض الى تعريف الإجهاض من الناحية اللغوية والطبية والقانونية التي قد تتفق او تختلف مع تعريف الإجهاض من الناحية الطبية ، ومن ثم التعرض الى تعريف الإجهاض من الناحية القضائية.
فبتعريف إجهاض المرأة المغتصبة سوف نتوصل الى تمييزه عما يشتبه به من أفعال أخرى.
عليه تم تقسيم دراسة هذا المبحث الى أربعة مطالب ، تناولنا في المطلب الأول تعريف إجهاض المرأة المغتصبة وفي المطلب الثاني بيان أوجه الشبه والاختلاف بين إجهاض المرأة المغتصبة عن بعض صور الجرائم الأخرى التي قد تتشابه معها الى حد ما ، وفي المطلب الثالث وضحنا التكييف القانوني لهذا النوع من الإجهاض وفي المطلب الرابع درسنا مسألة اجتماع الظروف المشددة مع الأعذار القانونية المخففة لدى المرأة المغتصبة الحامل التي تجهض نفسها.
المطلب الأول
تعريف إجهاض المرأة المغتصبة
قبل تعريف إجهاض المرأة المغتصبة ، لابد من تحديد معنى الإجهاض ، فالإجهاض في اللغة العربية مأخوذ من الفعل الثلاثي (جهض) فتقول أجهضت الناقة إجهاضاً وهي مجهض أي ألقت ولدها لغير تمام ،وقيل ألقت الناقة ولدها قبل أن يستبين خلقه، وفي الحديث فأجهضت جنيناً أي أسقطت حملها ، والسقط جهيض وقيل الجهيض السقط الذي قد تم خلقه ونفخ فيه الروح من غير أن يعيش([2]).
أما في اللغة الإنكليزية فيستخدم مصطلح (Abortion) ([3]) دلالة على الإجهاض ، وقد ورد تعريفه في قاموس مصطلحات العدالة الجنائية على انه الفعل اللاقانوني العمدي للإجهاض أو الإنزال
المبتسر للجنين القابل للحياة من قبل المرأة نفسها أو بواسطة شخص آخر([4]). أما في القاموس القانوني Black's Law Dictionary فقد عرف الإجهاض على انه الإنهاء المحدث اصطناعياً للحمل بقصد اتلاف الجنين([5]) .
أما في اللغة الفرنسية فيستخدم مصطلح (Avortement) ([6]) بمعنى الإجهاض.
أما من الناحية الطبية فالإجهاض هو انتهاء الحمل قبل تمام الأشهر الرحمية وهي الأشهر السبعة أو الستة من بدء الحمل ([7]).
أما من الناحية القانونية فلم نجد قانوناً جنائياً عربياً قد وضع تعريفاً معيناً محدداً ثابتاً للإجهاض ، وحسناً فعلت التشريعات العربية لأن وضع التعاريف هو ليس من عمل المشرع ، بل هو من واجب شراح وفقهاء القانون([8]) ، بل ان التشريعات الجنائية العربية لم تتفق فيما بينها على استخدام مصطلح محدد بذاته للدلالة على السلوك المادي المكون لجريمة الإجهاض ، وانقسموا فيما بينهم الى اتجاهين فالاتجاه الأول استخدم مصطلح الإجهاض كالقانون الأردني والعراقي والسوداني والقطري والجزائري.أما الاتجاه الثاني فقد استخدم مصطلح الإسقاط كالقانون المصري.
أما على صعيد الفقه ، فنجد أن فقهاء وشراح القانون الجنائي قد وضعوا عدة تعاريف للإجهاض ، فمن الفقهاء المصريين عرفه الدكتور محمود نجيب حسني عرفه على أنه "إخراج الجنين عمداً من الرحم قبل الموعد الطبيعي لولادته أو قتله عمداً في الرحم" ([9])، وعرفته الدكتورة فوزية عبد الستار على أنه "إنهاء حالة الحمل قبل موعد الولادة الطبيعي" ([10]) . ومن الشراح الأردنيين عرفه الدكتور كامل السعيد على أنه "القيام بأفعال تؤدي الى إنهاء حالة الحمل لدى المرأة قبل الوضع الطبيعي إذا تمت تلك الأفعال بقصد إحداث هذه النتيجة" ([11]) . كما وعرفه كل من الدكتور عيسى العمري والدكتور محمد شلال العاني على أنه "اعتداء على المرأة الحامل بضرب أو نحوه ، بحيث يسقط الجنين على أثر ذلك ، سواء أسقطته حياً أو ميتاً" ([12]). ومن الشراح العراقيين عرفه الدكتور سليم إبراهيم حربه على أنه "اعتداء موجه ليس على كائن حي بل ضد شروط تكوينه" ([13]).
أما على مستوى القضاء الجنائي ، فنجد أن محكمة النقض المصرية عرفت الإجهاض على أنه (الإسقاط) تعمد إنهاء حالة الحمل قبل الأوان ، ومتى تم ذلك فان أركان هذه الجريمة تتوافر ولو ظل الحمل في رحم الحامل بسبب وفاتها وليس في استعمال القانون لفظة (الإسقاط) ما يفيد أن خروج الحمل من الرحم – في مثل هذه الحالة – ركن من أركان الجريمة ، وذلك بأنه يستفاد من نصوص قانون العقوبات المتعلقة بجريمة الإسقاط أن المشرع افترض بقاء الأم على قيد الحياة ولذلك استخدم لفظ الإسقاط ، ولكن ذلك لا ينفي قيام الجريمة متى انتهت حالة الحمل قبل الأوان ولو ظل الحمل في الرحم بسبب وفاة الحامل" ([14])، كما عرفت محكمة التمييز الأردنية الإجهاض بأنه "تعمد إنهاء حالة الحمل قبل الأوان" ([15]).
بعد استعراض هذه التعاريف نقول ان إجهاض المرأة المغتصبة هو إنهاء حالة الحمل الناتج عن جريمة اغتصاب ارتكبت بحق المرأة التي لا ذنب لها سوى أنها كانت فريسة سهلة وضحية للمجرم الذي اغتصبها ، أثمرت جريمة الاغتصاب أن حملت هذه المرأة الضحية في بطنها جنيناً جعلها تفكر في كيفية التخلص منه بطريقة مشروعة لا أن تكون متهمة بارتكاب جريمة الإجهاض ، الأمر الذي دفع بعض التشريعات الجنائية الوضعية الى إيجاد حل ومخرج قانوني لمثل هذه الحالة.