تمهيد:
إن الحديثَ عن المجتمعِ العربي قبل الإسلام يثير بعض اللُبس والغُموض، بالنسبة لمن يُحاول أخذ دروس تربوية من تلك الفترة، بسبب مبالغة البعض في التقليل من شأن العرب، وتفريغ تلك الحقبة التاريخية من الصفات والخصال، بشكل يُناقض ما يستشعره كل دارس حصيف من أهلية مستحقة لذلك المجتمع لاحتضان رسالة عظيمة شرفت الأمم بالسير على هُداها، ولا زالت البشرية إلى اليوم تجد فيها ما يُنقذها مما هي فيه من تيه وزيغ.
= أهلية مستحقة:
بالرغم من اتفاق كل الباحثين على وجود صفات خُلقية لسكان الجزيرة العربية، إلا أنّ الغفلة المعرفية عند المتسرعين تجعلهم، ينسون ذلك ويسارعون في الحط من شأن ذلك المجتمع، وربما قد يرفعون من شأو شعوب أخرى قليلة الشأن.
ولذلك، على المنصفين تصحيح مثل هذه المغالطات التاريخية، والتأكيد على أن تلك الأمة التي اختارها الله لتحتضن كتابَه كانت تتوفر على صفات قلما وجدت في مجتمعات أخرى، صفات عامة أهلتها عن جدارة لتحتضن كتاب الله، وتصُبح في وقت وجيز جدا، أمة شهيدة على سائر الأمم.
نعم، امتلكت جزيرة العرب، مؤهلاتٍ وتقاليد أصيلة، إلى جانب ما ذكر من فطرة خالصة لم تشوهها الممحاكات الفلسفية، أو تعكر صفوها الصراعات الفكرية المذهبية، منحتها القدرةَ والقابليةَ لتتحول من حاضن لنورِ الإسلامِ إلى ناشر لنوره بجدراة وتفان وإتقان، فيحصل من ثبت من أهلها على شهادةٍ عليا من السماء، كان نصها << كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر>>
فهذا، هو ذلك الجيل الذي ينظر إليه البعض على أنه خريج الحروب والتطاحن، ومن أنصار القتال الدائم والغزو المتتابِع، فهم يستشهدون بحكم فردية أو أقوال يتيمة، للتأكيد بأن شرعةُ الظلم كانت هي المنهاج السائد، كما جاء عند زهير بن أبي سلمة:
ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحِه يُهدّم ومَنْ لم يظلم الناسَّ يُظلم
= البيئة التربوية الراقية:
فلو كانت الغارات هي سيدةُ الموقف لما بعث الأشراف فلذات أكبادهم إلى البادية للرضاعة واكتساب الفصاحة، فقد كان البادية العربية، وعلى خلاف الوهم المسيطر أكاديميا، بيئةً صحيةً وقاموسا ثرياً، وفضاءً ينبض بالبيان الساحر.. فهل يمكن لربوع يُبدع فيها اللِّسان، وتتفجّرُ فيها الفصاحةُ أن يكونَ ديدانُها هو السبي والقتل والإجرام؟
فهل يُعقل تعميم الطعن على طريقة الغربيين، والمساس بأمة كانت قبل قرون متراخية جدا، تُعنى بأناقةٍ بتجويد اللغة لدى أبنائها، وتحرص على أن يكتسبوا نصاعة البيان. هل يجوز الحكم جزافا على أمة كانت أول من حرص على توفير بيئة تربوية تشكل مخزونا لغويا ثريا؟، وحتى سكان مكة كانوا يفعلون ذلك بالرغم من أنّ مكةَ كانت هي الميزان اللغوي الذي يُعتمد عليه في سائر أطراف الجزيرة.
وهل يُعقل أن نسرف في الطعن بإسم الجاهلية في أمة كانت تمتلك ثقافة صحية راقية، وتصبر على غياب أبنائها من أجل أن يتمتعوا بالصحة الجدية حيث الهواء المنعش، و الصحة والعافية؟
= خصال خاصة:
أضف إلى ذلك، فقد امتاز أهل جزيرة العرب بفضائل لم تدركها أو تصل إلى سناها سائر الأمم، فلم يذكر التاريخُ أنّ أمة من الأمم، كان من عادات أفرادها أنهم يُوقدون النيران أمام بيوتهم لإرشاد المسافر والضال إلى حيث الضيافة والكرم والحماية، ولم تتحدث كتب والتاريخ بإسهاب عن مروءة أو شهامةٍ مثل تلك التي كانت تجعل العربي يقدم حياته رخيصة لحماية من يستجير به، ويطلب الأمن عنده.!!
فضلا عن ذلك، فهل من المنطقي أن يشيع الظلم والعدوان في بيئة، عرفت العديد من المدن التجارية ذائعة الصيت مثل مكة، أو مدنا للسياحة الداخلية مثل الطائف، التي كان يصطاف بها أهل مكة مثلا، أو مدنا زراعية مثل يثرب؟
كانت المناطق العربية تتنقل إليها القوافل من كل حدب وصوب، في سكينةٍ وهدوءٍ، حيث يصلَ التاجرُ اليمنيُ أو الشاميُ إلى أيِّ منطقةٍ وهو آمنٌ على مالِه وثروتِه.. وكما ينقل الندوي في السيرة النبوية(ص100)، فقد كان لأهل مكة منتجعات ينتجعونها في الأصائل؛ كما أنّ تُجار وأشرافَ ذلك الزمان كلفوا بعض القبائل بحراسة الطرق، وأقاموا أحلافا وعقدوا اتفاقيات لحماية مصالح التجار والغُرباء، مثلما ما حدث مع حلف الفضول، وهو الحلف الذي شهده الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، واعتبَره أكرمَ حلفٍ سمع به، لأن بعض أصحابَ المروءةِ اجتمعوا في دار عبد الله بنُ جدعان وتعاهدوا على نُصرة المظلوم وتمكينه من حقه، ولو كان الظالم من ذوي المكانة الاجتماعية المرموقة وأصحاب القوة وأهل النفوذ.
وإلى جانب ذلك، كانت الأخلاق الكريمة ميزة وعنوانَ شرف بين القبائل، ولذلك نجد أن فهر القرشية كانت تحظى بين العرب وبإقرار منهم، بعلو النسب، وقوة البيان، وعظمة الأخلاق، والشجاعة، وقد اشتهر أيضا بعض العرب بالشجاعة والكرم والعفة وإلى غير ذلك من السجايا التي شجعها الإسلام، وأهلت هؤلاء القوم ليكونوا القوة الضاربة في الفتوحات الإسلامية المختلفة.
نقول ذلك مع إقرارنا بوجود صفات أخرى ذميمة نهى عنها الإسلام، مثل عادة الأخذ بالثأر، وغيرها من الصفات التي كان الأشراف وأهل الضمائر النقية يمقتونها، مثل تلك التي وصفها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي بقوله: "أيها الملك، كنا قوما أهلَ جاهلية، نعبدُ الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف" فهذه الوثيقة الشفهية تصف بدقة الصفات الخُلقية التي كانت موجودة ، ولكنها لا تعني عدم وجود صفات أخرى.
إلى جانب البادية، التي كانت تشكل فضاء للعب واكتساب اللغة والعافية والصحة، كانت العائلة أيضا تؤدي دورا هاما في التربية والتعليم في المجتمع العربي قبل الإسلام، حيث كان أفرادها يحفظون الأشعار في الوسط العائلي، وكانت الفتاة مثلا تحفظ الأشعار والسير والأخبار عن أمها وخالاتها وعاماتها. وكانت الفتى يتعلم من أبيه وأقاربه الصنائع، وفنون الرماية والمبارزة، كما كان ينتفع بإرشاداتهم، وأمثالهم وِحكمهم.
وكانت الأم تفعل نفس الشيء مع أبنائها، فمن الوصايا التي سجلها التاريخ، وصية الأعرابية لابنها: << يا بُنيّ، إن سؤالَك الناسَ ما في أيديهم من أشد الافتقار إليهم، ومن افتقرت إليه هِنت عنده، ولا تزال تحفظ وتُكرم حتى تُسأل وتُرغب.فإذا ألحت عليك الحاجةُ ولزِمك سوءُ الحالِ فاجعل سؤالَك إلى منْ إليه حاجة السائل والمسؤول، فإنه يعطي السائلَ>>
وكان الأخ أيضا ينصح أخاه، كما يُروى عن ذلك الأعرابي الذي أفسد أخاه ماله بالشراب فقال له: << لا الدهرُ يعظُك، ولا الأيام تُنذرك، ولا الشيبُ يزْجُرك .. والساعاتُ تُحصى عليك والأنفاسُ تعدّ مِنك، والمنايا تُقاد إليك أحبُّ الأمورِ إليك أعْوَدُها عليك بالمضرَّةِ عليك.>>
= بيئة وعظ وتعليم:
يُلاحظ أن أسلوب النصيحة وتداول الحكم والمأثورات كان أسلوبا متبعا لتربية الأبناء ونشر الصفاتِ الحميدة، والحث على الأخذ بأفضلها.
كما كانت هناك مجالس للأدب وأسواقا شعرية، والتي اعتبرت وسائط إعلامية ووسائل للتعليم والمعرفة، وفرصة للتعرفِ على المواهب الجديدة، وعلى الجديد من الشعر والأخبار. ومن بين الأسواق الأدبية المشهورة: سوق عُكاظ القريب من الطائف، وسوق ذي المجنة قرب مكة، وسوق ذي الحجاز قرب عرفة.
وكانت التعليم آنذاك ينقسم إلى مرحلتين: مرحلة أولى يتعلم فيها الصبي القراءة والكتابة والحساب، وحسب بعض المؤرخين فإن المعلم كان يكتب على ألواح من الطين الطري، ثم يجففه ويقدم تلك الألواح للتلاميذ ليكتبوا مثله في ألواحهم، وكان التعليم في الكتاتيب، ويُروى أن يوسف الثقفي كان يُعلم في كُتاب له في الطائف. أما المرحلة الثانية، فيمكن أن نطلق عليها مرحلة التعليم العالي بالمعنى المجازي للكلمة، فكان طالب العلم يتعلم فيه على يد بعض المعلمين والعرافين الطب والفلك.
وكان العرب يشتهرون ببعض العلوم، مثل علم الريافة، وهي معرفة تستعمل للاستدلال على وجود المياه في الأرض، وعلم القيافة، والذي يستعمل لتتبع آثار الأقدام والحوافر، والوصول إلى الأماكن التي ضلت فيها المواشي، وتستعمل القيافة أيضا للتحقق من صحةِ نسبِ الشخص، وعلم الفراسة الذي يُستدل به على أخلاق الشخص وطباعه من مظهره وشكله. وعلم الأخبار وهو معرفة أخبار الأمم الماضية وسيرهم وأيامهم.
هذه بعض الجواهرِ التربويةِ والتعليميةِ التي جادت بها جزيرةُ العرب، والتي بفضل دين الإسلام ازدادت قيمتُها، وانتفت الشوائبُ عنها، وصارت منارة للمهتدين.