النسب والنشأة:
هو الشيخ محمد الحسين بن شيخ العراقيين الشيخ علي بن الحجة الشيخ محمد رضا بن المصلح بين الدولتين الشيخ موسى بن شيخ الطائفة الشيخ الأكبر جعفر بن العلامة الشيخ خضر بن يحيى بن سيف الدين المالكي الجنابي النجفي، من كبار رجال الإسلام المعاصرين ومن اشهر مشاهير علماء الشيعة. ولد في النجف الاشرف في (1294) وأرخ ولادته العلامة السيد موسى الطالقاني بقوله ـ وهو تنبأ في الحقيقة:
سرور به خصّ أهل الغري***فعمَّ المشارق والمغربيـــن
بمولد مـــن فيه تـــم الهنـــا***وقرّت برؤيتــه كـــل عيـــن
وقد بشر الشرع مذ ارخــوا***ستثنـــى وسايـــده للحســين
نشأ في بيته الجليل الطافح بالعلم والعلماء نشأة طيبة، وربا في حجر العلياء والشرف والعزة والترف، ولما بلغ العاشرة من عمره شرع بدراسة العلوم العربية ثم قرأ علوم البلاغة كالمعاني والبيان والبديع، وكذا الرياضيات من الحساب والهيئة وأضرابهما وأتم دراسة سطوح الفقه والأصول وهو بعد شاب، واخذ بالحضور في دروس الطبقات العليا كالشيخ محمد كاظم الخراساني ـ فقد حضر بحثه ست دورات ـ والسيد محمد كاظم اليزدي، والشيخ آغا رضا الهمداني، ولازم حلقات هؤلاء الأعاظم سنين طوالا حتى عدّ من المبرزين، وكان له عند أساتذته احترام وتقدير لغزارة فضله وكثرة تبحره، وتتلمذ في الفلسفة والكلام على الميرزا محمد باقر الاصطهباناتي، والشيخ احمد الشيرازي، والشيخ علي محمد النجف آبادي وغيرهم من فحول الحكماء والرياضيين وحصل من ذلك قسطاً وافراً ونبغ نبوغاً باهراً، وتقدم تقدماً ملموساً وأربى علمه وفضله على سنه.
وألف في حياة أُستاذه شرحاً على (العروة) وشرع بالتدريس فكانت له حوزة تتألف من الفضلاء ويزيد عددهم على المئة، وكان تدريسه في (مسجد الهندي) تارة والصحن أو مقبرة المجدد الشيرازي أخرى وكان يكتب الشرح المذكور ليلا ويلقيه على تلامذته نهاراً. ألف كتابه (الدين والإسلام) أو (الدعوة الإسلامية) إلى مذهب الإمامية وهو في الحكمة والعقائد وطبع في بغداد في (1329) وكان مشغولا بطبع الجزء الثاني منه وإذا بالسلطة تهاجمه بأمر الوالي (ناظم باشا) وبإيعاز المفتي (الشيخ سعيد الزهاوي) فصمم على طبعه خارج العراق فسافر إلى الحج وكتب في سفرته رحلة بديعة سماها (نزهة السفر) ونزهة السفر(2) وبعد أداء المناسك عاد إلى الشام فبيروت وأنجز طبع الجزئين بصيدا، واتصل بكبار العلماء وأفذاذ الرجال وقادة الفكر، كما جرت له مناظرات مع الفيلسوف أمين الريحاني، وطبع الجزئين من كتابه (المراجعات الريحانية) الموسوم بـ(المطالعات والمراجعات) أو (النقود والردود) وهو من خيرة مؤلفاته. حوى الجزء الأول منه بعض المراجعات والمراسلات التي دارت بينه وبين الريحاني وما ردّه عليه المترجم له وما نقده به. وتناول في هذا الجزء أيضاً اللغوي المعروف (الأب انستاس الكرملي) صاحب مجلة (لغة العرب) تناولاً مدهشاً لو تأمله منصف غير متحيِّز لعرف أهمية علماء الشيعة لا سيما المترجم له، وإني أحث كل مبتدأ والزم كل مسلم من الناشئة أن يقرأ هذا الكتاب. وقد تناول في الجزء الثاني منه المؤرخ المعروف جرجي زيدان بمناسبة تأليفه ـ يوم ذاك ـ (تاريخ آداب اللغة العربية)، فقد ناقشه نقاشاً علمياً حلواً اثبت فيه قصر باعه، وقل اطلاعه، ونبهه على أخطاء تاريخية بل ولحن فاحش في العربية، وخلل في كثير من الأوزان الشعرية وما نسبه من الشعر لغير أهله، إلى غير ذلك من الهفوات والشطحات والأغلاط مما يلزم القارئ بالإذعان للمترجم له وعدم الاهتمام لمن سواه من الخصوم، إلى غير ذلك، وناقش فيه أيضاً أحد أصحابه وهو الشيخ يوسف الدجوي من مدرسي الجامع الأزهر كما تناول فيه (الشيخ جمال الدين القاسمي) عالم دمشق بعصره وغيرهم، وخرج من كل هذه الميادين منصوراً عالي الرأس مشهوداً له بالعظمة والتقدم والنبوغ، ونشر من مؤلفاته في هذه السفرة (التوضيح) في الإنجيل والمسيح. وكما قام بخدمات علمية، فقد نشر (الوساطة) للقاضي الجرجاني و(معالم الإصابة) في الكاتب والكتابة، وديوان السيد محمد سعيد الحبوبي وديوان السيد جعفر الحلي المسمى بـ(سحر بابل) وسجع البلابل إلى غير ذلك، فقد اشرف على تصحيحها وله عليها تعاليق وحواشي نفيسة وبالجملة فقد قضى في ربوع سوريا ولبنان ومصر ثلاث سنوات، اشترك خلالها في الحركة الوطنية، ونشر في أمهات الصحف والمجلات مقالات نفيسة وقصائد بديعة وفي (1332) عاد إلى العراق فوافق ذلك نشوب الحرب العالمية الأولى فسافر إلى الجهاد مع السيد محمد ابن أستاذه اليزدي وجمع من العلماء إلى الكوت حتى إذا وضعت الحرب أوزارها؛ قفل إلى النجف وعاد إلى مزاولة أعماله وسائر أشغاله من التأليف والتدريس. فكان أستاذه اليزدي ـ الذي انتهت إليه المرجعية في عموم الأقطار ـ يعوّل عليه وعلى أخيه الشيخ احمد في اكثر مهماته ويثق بهما ويرجع إليهما مرافعاته حتى انه أوصاهما، ولما توفي في (1337) تحملا وصيته فرجع الناس إلى الشيخ احمد بالتقليد وعلق على بعض الرسائل العملية لعمل مقلديه، ثم اصدر رسالة وفي (1338) رجع إلى المترجم له في التقليد جماعة من أهل بغداد فعلق على (التبصرة) وطبعت في هامش الكتاب مع تعليقة أستاذه، ولم يزل اسمه يشتهر في الأوساط وتتسع دائرة مرجعيته شيئاً فشيئاً حتى اضطره انتشار المقلدين في الأصقاع والبقاع إلى نشر الرسائل العملية فطبع له (وجيزة الأحكام) رسالتان صغرى وكبرى فارسية وعربية و(السؤال والجواب) عربي طبع كراراً و(زاد المقلدين) فارسي تكرر طبعه في النجف وخراسان وحاشية (التبصرة) وحاشية (العروة الوثقى) وعلق على (سفينة النجاة) لأخيه المذكور وعلى (عين الحياة) الفارسي وله (مناسك الحج) اثنان عربي وفارسي وحاشية على (مجمع الرسائل) فارسي أيضاً إلى غير ذلك، وكان خلال هذه المدة مشغولاً بالوظائف الهامة وحاملاً للأعباء الثقيلة، وكان يحضر درسه الخارج جمع كثير ويستفيد من بركاته سائر طبقات النجف؛ وكان صاحب همة عالية تنسف جبال المصاعب ولذا قام ببعض المهام والأسفار التي لم يجرأ أحد على القيام بها، وما ذاك إلا لاعتماده على الله واعتداده بنفسه. ولما انعقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس الشريف في رجب (1350) وكانون الأول (1931) دعي من قبل لجنة المؤتمر عدة مرات. فأجاب وسافر إلى القدس فلاقى هناك إقبالاً منقطع النظير؛ وبرزّ على سائر أعضاء المؤتمر وبان هناك فضله وظهرت عظمته حتى عدّ المقدم المبرز على سائر علماء الإسلام المدعوين هناك، وخطب خطبة تاريخية ارتجالية طويلة كانت بذرة التقارب والألفة، وأتم به في الصلاة عدد يناهز عشرين ألفاً. بينهم أعضاء المؤتمر وهم مائة وخمسون عضواً من أعيان العالم الإسلامي، ثم عاد إلى العراق وكان لهذه الإمامة في القدس دوي في الشرق والغرب؛ فقد تباشرت بها الطبقات وعقدت عليها الآمال ونشرتها الصحف والمجلات وذكرها بعض المؤلفين من محبي الوئام واتفاق الكلمة، كالأستاذين الشيخ هاشم الدفتردار المدني والشيخ محمد علي الزعبي، المدرسين في كلية فاروق الأول بيروت في كتابهما الجليل (الإسلام بين السنة والشيعة)(3) المطبوع ببيروت في (1369) إلا انهما سمياه هناك بـ(السيد محمد آل كاشف الغطاء) وهذا نصّ ما جاء في ص56 من الكتاب: وهل كان يدور في خلدك ـ لولا بركات النهضة الحديثة ـ أنّ المؤتمر الإسلامي المنعقد بالقدس. يتشرف باجتماعه في المسجد الأقصى بالصلاة خلف المجتهد الكبير السيد محمد آل كاشف الغطاء؛ بل هل كان يدور في خلدك إن كتابه (الدعوة الإسلامية) يتلقفّه علماء السنة قبل علماء الشيعة ويستوحون أهدافه العليا الكريمة الخ، وبعد عودته من القدس عرفت شخصيته في البلاد الإسلامية وغيرها بشكل خاص؛ واخذ البريد يحمل إليه كتباً من الأقطار البعيدة والقريبة تشتمل على مسائل غامضة ومطالب عويصة في الفلسفة وأسرار التشريع، كل ذلك بالإضافة إلى الاستفتاءات الفقهية من الفروع والأصول فكان يقوم بذلك بمفرده، ولم تشغله هذه الأمور ولا مرجعيته ولا تدريسه عن التأليف في المواضيع المهمة اللازمة في بناء صرح الإسلام وهيكله المقدس.
وقد سمت مداركه ونفذ فكره إلى أعماق الحقائق وأسرار العلوم والفضائل، حتى تجلى ذلك في نفحات ألفاظه ورشحات أقلامه. أما هو في خصوص الخطب والأدب والبلاغة والفصاحة فسحبان وائل، حيث توسع في ذلك وضرب بسهم وافر منه ولا أغالي إذا قلت انه اخطب خطباء الشيعة. وقد سجل الكثير من خطبه في مختلف المواضيع وشتى المناسبات وأذيع على أمواج الأثير فقرع سمع القاصي والداني، ودان له القريب والبعيد ونشر قسم منه في المجلات والجرائد. أما غيرته على الإسلام واهتمامه للألفة وسعيه لاتفاق الكلمة فحدث عنه ولا حرج فقد بذل في ذلك طارفه وتلاده، وسخى بمهجته في الله سالكاً أوعر السبل واشق المناهج، ولم يترك طريقاً مؤدية إلى ذلك إلا سلكها ولا باباً إلا طرقه وله مواقف مشهودة اعترف له بها المخالف والمؤالف والعدُّو والصديق.
والحقيقة انه من مجتهدي الشيعة الذين غاصوا بحار علوم أهل البيت (عليهم السلام) فاستخرجوا من تلك المكامن والمعادن جواهر المعاني ودراري الكلم فنشروها بين الجمهور، وقد أدى رسالة جليلة قل من حصل له التوفيق فادى مثلها حيث كان مطلعاً على التراث الروحي يختار منه ما يتفق مع القرآن والسنة، ويتناسب مع عقلية الزمن وحاجة العصر، زار إيران في (1352) فمكث نحو ثمانية اشهر متجولاً في مدنها المهمة داعياً الإيرانيين إلى التمسك بالمبادئ الإسلامية حيث كان اتجاههم يوم ذاك شديداً نحو التمدن الأوربي فلاقى حفاوة كبيرة، وكان موضع تقدير وإكبار بالغين وخطب باللغة الفارسية في: كرمانشاه، وهمدان، وطهران، وشاهرود، وخراسان، وشيراز، والمحمرة، وعبادان. واجتمع بملك إيران يوم ذاك رضا شاه البهلوي وعاد من طريق البصرة فكانت له مواقف وخطب أيضاً، وتعددت أسفاره إلى إيران وسوريا ولبنان وفي (1371 ـ 1952) دعي لحضور المؤتمر الإسلامي في كراچي فلقي حفاوة عظيمة من الأهالي والحكومة، وخطب خطبة طويلة أذيعت بالراديو ونشرت مستقلة.
اجتمعت في بدنه في أواخر عمره عدة أمراض وأسقام؛ لكن لم تردعه آلامه الروحية بل كان ينوء تحت الأعباء الثقيلة وقلمه جمرة تستعر دفاعاً عن الدين وكرامة الإسلام ويتدفق فلسفة وعبقرية وبحثاً وتحقيقاً، وفي السنين الأخيرة اخذ ينعى نفسه بنفسه فقلما قرأت له كتاباً أو رسالة أو تقريضاً إلا ورأيته يبدي الضجر ويشكو السأم واشتد عليه المرض فسافر إلى بغداد ودخل المستشفى فبقي شهراً ثم رجح له البعض الرواح إلى كرند فقصدها في (15 ـ ذي القعدة ـ 1373) وتوفى بها بعد صلاة الفجر يوم الاثنين (18) من المذكور ونقل جثمانه إلى النجف بعظمة قل ما شوهد نظيرها؛ ودفن بمقبرة خاصة أعدها لنفسه في وادي السلام، وكانت الخسارة بفقده فادحة وقد فجع به العالم الإسلامي في أمسّ أوقات الحاجة إليه إذ كان ركناً من أجل أركانه، وبقي مكانه ـ وسيبقى ـ شاغراً كما خسرته النجف زعيماً عظيماً وأباً باراً رؤوفاً.
وقد وردت إلى النجف برقيات التعازي من سائر الأقطار والممالك الإسلامية وغيرها مما لم يتفق لعالم من علماء الشيعة، كأمريكا وبريطانيا والحجاز ومصر وإيران والهند وغير ذلك، وأذاعت نبأ وفاته اكثر المحطات لا سيما الشرقية وعطل البلاطان العراقي والإيراني ونشرت عنه اكثر الصحف والمجلات العربية وغيرها، ودام عزاؤه في النجف زمناً طويلاً وأقيمت له حفلة أربعينية حضرها وفود من الهند والباكستان وإيران وغيرها؛ أما الشعر الذي قيل في وفاته والكلمات التي أُبن بها فكثير لا يمكن جمعه كما انه مدح في حياته بما لو جمع ـ ولعله مجموع ـ لكان عدة دواوين لا ديواناً، أرخ وفاته الشيخ محمد الخليلي بقوله:
مالي ارى الاعين تجري دماً***ما بيــن مهطــول ومسفــوح
وهذه الاكبـــد تغلـــي شجــى***من ذائـــب حــزناً ومقـــروح
اهدّ ركن الشــرع ارخـــت ام***قـــد فقدوا خيــــر أب روحــي
مؤلفاته:
ومؤلفاته في الفقه والأصول والفلسفة والكلام والأدب والتفسير وغيرها تنيف على الثمانين نذكر منها قسماً ونترك الباقي للآخرين؛ منها غير ما ذكر (الآيات البينات) و (أصل الشيعة وأصولها) طبع اثنتي عشرة مرة وترجم إلى بعض اللغات و(الفردوس الأعلى) و(الأرض والتربة الحسينية) سئل عن التربة الحسينية فأجاب عنها بكتاب و(العبقات العنبرية) في الطبقات الجعفرية في تراجم عائلته و(تحرير المجلة) في الفقه وهذا الكتاب من أهم آثاره؛ ألفه بعد أن رأى (مجلة العدلية) أو (مجلة الأحكام) المقرر تدريسها في كلية الحقوق ببغداد من زمن الأتراك، ورأى فيها نقصاناً وزيادة وحاجة إلى التنقيح والتحرير فألف هذا الكتاب وهو خمسة أجزاء يعرف قدره وجلالة مؤلفه من تبحر في الفقه؛ وختم حياته بكتابه (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون) فكان نعم الختام. إلى غير ذلك من آثاره المطبوعة والمخطوطة؛ وولده الشيخ عبد الحليم أديب فاضل ترجم لوالده في عدد العراق الخاص من مجلة (العرفان) فأخذنا منه موضع الحاجة في هذه الترجمة كما رجعنا إلى ما كتبه المرحوم عن نفسه في مقدمة كتابه (الفردوس الأعلى).