كتابات - ضياء الشكرجي
كمدخل للموضوع لا بد من بيان أمر مهم للقارئ غير المطلع على ما يسمى بمصادر الاستنباط الفقهي عند فقهاء المسلمين. المتفق عليه عندهم جميعا المصدران الأساسيان، ألا هما القرآن والسنة، والسنة أشمل من الحديث، لأن الحديث يمثل قول النبي (أو المعصوم بما هو أعم من النبي عند الشيعة)، وما قول النبي أو المعصوم إلا أحد العناصر الثلاثة التي يتشكل منها مفهوم (السنة)، ألا هي (قول، وفعل، وإقرار) المعصوم، أي النبي عند السنة، والنبي والأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية. ويأتي بعد القرآن والسنة، أو الكتاب والسنة الإجماع، ولكن يبقى الإجماع مختلَفا على معناه، أهو إجماع المسلمين، أم إجماع أهل السنة والجماعة عند السنة، وإجماع أتباع أهل البيت عند الشيعة، أم هو إجماع فقهاء المسلمين، أو إجماع فقهاء هذا الفريق أو ذاك الفريق عند كل منهما.
المهم إضافة إلى المصادر الثلاثة المذكورة، وبقطع النظر عن الاختلاف في الثالث منها أي (الإجماع)، فإن أبا حنيفة النعمان بن ثابت إمام المذهب الحنفي قد أضاف (القياس) و(الرأي والاستحسان)، بينما أضاف الشيعة (العقل) مصدرا ثالثا. وقد شدد الشيعة على رفضهم لمنهج أبي حنيفة بإضافة القياس والرأي والاستحسان استنادا إلى روايات عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق. وكنت أقول دائما أن رفض القياس أمر مخالف للعقل الذي اتخذه الشيعة مصدرا رابعا، فإذا كان الإمام الصادق معصوما ومنصوصا عليه من الله كما يؤمن الشيعة، فلا بد أن يكون القياس الذي شدّد على رفضه هو القياس الناقص، وإلا فإذا ما تحقق القياس التام، سيكون رفضه مخالفا لقواعد المنطق وضرورات العقل، وهذا محال أن يقصده إمام معصوم عن الخطأ. أما إذا كان قد عنى برفضه للقياس أنه يشمل حتى القياس التام، فهذا سيضع عصمته موضع التساؤل والشك. وعندها – وعلى قاعدة أن فرض المحال ليس بمحال عند من يكون المفروض محالا، وهو بالتالي ومن قبيل الأولى عند غيره ليس بمحال - إذا انتفت العصمة، وكان الإمام مجتهدا وليس معصوما، تكون فسحة من حرية الاختيار أن يُؤخَذ منه ما يؤخذ، ويُرَدّ ما يرد. فرفض القياس التام أمر مرفوض عقلا رفضا قاطعا، ومحال رفضه ممن تفترض عصمته.
ولكن كلامنا عن (الرأي والاستحسان)، وهنا قد يكون للشيعة مبرراتهم في عدم القبول بالرأي والاستحسان كمصدر للاستنباط، لأنهما ربما لا يستندان على قاعدة علمية. ولكن إذا ثبت صحة الرؤية الفقهية بأن التشريعات متغيرة بتغير الزمان والمكان، قد يكون للرأي والاستحسان مبررات معقولة، إذا لم يكونا بشكل عشوائي، بل مبنيَّين على أسس مقبولة، بقطع النظر عن طبيعة هذه الأسس.
ولكن لنذهب مع المبنى القائل بثبات التشريعات الدينية، وبالتالي مع القول بعدم إمكان التعويل على الرأي والاستحسان. هنا بالذات نجد أن جُلّ فقهاء الشيعة الإمامية المعاصرين، لاسيما أولئك الذين تصدوا لإصدار ما يسمى خطأ بالفتاوى السياسية، وقعوا في مفارقة منهجية في الاستنباط الفقهي. فهم من جهة يرفضون اعتماد الرأي والاستحسان، كمنهج اعتمده الفقيه أبو حنيفة، ولكن من جهة أخرى، لو تأملنا فيما يسمى بفتاواهم السياسية، نجدها ليست إلا مواقف سياسية (شرعية؟) مبنية بشكل أساسي على آراء واستحسانات للفقيه المُصدِر لتلك الفتاوى، أو المُفتي بتلك الآراء السياسية، المتوهَّم أنها تمثل أحكاما شرعية مُلزِمة، على أقل تقدير للمكلَّف المقلِّد للفقيه المُفتي بها، وقد يُدَعّى أحيانا أنها مُلزِمة لجميع المكلَّفين، إذا تجاوز عنوان الفقيه كونه مرجعا للتقليد إلى عنوان الحاكم الشرعي أو الفقيه الولي أو الولي الفقيه، وتكون إلزامية الفتوى السياسية سارية على أقل تقدير على أتباع مذهب أهل البيت. وإني أكاد أجزم أن أيّاً من عموم الفتاوى السياسية، أو ما يُسمّى بالفتاوى السياسية إذا ما أمعنا به النظر بدقة سنجده لا يمثل إلا رأيا أو استحسانا للفقيه، لا بصفته فقيها مجتهدا، وإنما بصفته شخصا (مواطنا) متدينا ومتشرعا، أو ذا ثقافة شرعية، وإضافة إلى ذلك ذا ذوق شرعي أو رؤية شرعية، وذا ذوق سياسي ورؤية سياسية، حاله حال الناس الذين يتوزعون على أذواق ورؤى ووجهات وتيارات سياسية.
وعلى ذكر الذوق الشرعي، فلطالما قيل أن لكل فقيه ثمة ذوق شرعي تتأثر استنباطاته الفقهية به إلى حد كبير، وما هذا الذوق إلا مصطلح بديل للرأي والاستحسان الحنفي المرفوض شيعيا، أو ما هو إلا مهرب من إشكالية الوقوع في اعتماد الرأي والاستحسان، وكأن المهم مخالفة أبي حنيفة، لأنه قد روي عنه حقيقة أو اختلاقا – لا أدري – أنه تعمد مخالفة أستاذه جعفر بن محمد الصادق، مع إن مخالفة التلميذ لأستاذه في بعض مبانيه مقبول عقلائيا، ولكن استنكار المخالفة هنا هو لعدم تسليم أبي حنيفة لعصمة أستاذه، مع إن عدم التسليم هذا لا يجب أن يكون على أساس المعاندة والمكابرة، بل هي قناعة ذاتية تتكون تلقائيا عند المرء، وليست هي بالفعل الاختياري، كي يدان المرء عليه دنيويا، ويعاتب أو لعله يعاقب أخرويا. وبهذا نرى أن هناك إجحافا بحق الفقيه أبي حنيفة الذي عرف بمواقفه السياسية المشرفة والشجاعة التي دفع ثمنها غاليا، وعرف بفقهه المتسامح نسبيا. ونحن نعلم أن عقلاء الشيعة ومعتدليهم يحترمون ويجلون أبا حنيفة، وأما التطرف في تأييد أي فقيه أو مدرسة فقهية أو معارضته فيمثل في زماننا جمودا يُربك الحياة الاجتماعية والسياسية التي تحتاج إلى ديناميكية المعاصرة عبر استيعاب روح العصر، والتمييز بين الجوهر الثابت والشكل المتحرك.
وأما ما يتعلق بالقياس، وأتكلم هنا بالذات عن القياس المرفوض عقلا، ألا هو القياس الناقص، أي الذي لا يَلُمّ بجميع حيثيات كل من المَقيس والمَقيس عليه. وهذا القياس المرفوض ليس شيعيا فقط، بل عقليا ومنطقيا، فإن معظم المفتين بالفتوى السياسية المستنبَطة من موقفٍ معصوم لنبي أو إمام معصوم، فهي تقيس الحادثة المستبَط لها الفتوى السياسية على الحادثة التاريخية من سيرة المعصوم المستبَط منها تلك الفتوى قياسا قياسا ناقصا، لأن التشابه إلى درجة التطابق، والذي هو شرط القياس التام بين الحالتين غالبا ما يكون غير خال من ثغرات مُعتَدّ بها لم يلتفت إليها المجتهد (السياسي) أو المُتسَيِّس. وفي كل الأحوال سبق وأن قدمت الأدلة في مقالات لي بين 2002 و2007 يجدها القارئ في نسماء – باب المرجعية والمؤسسة الدينية، على عدم وجود ما يسمى خطأ بالفتوى السياسية أو الموقف السياسي الشرعي، لأن السياسة تُستمَدّ من التجربة الإنسانية ومن المقايسة بين المصالح والمفاسد، والتي أي هذه المقايسة لا تأتي مقاربة للواقع – ولا أقول مطابقة - إلا إذا صدرت من مختص ذي ثقافة سياسية وهم سياسي وممارسة وتجربة سياسيتين، طبعا هذا من حيث شرط الكفاءة، أما من حيث تحقق شرط النزاهة من إخلاص للقضايا العامة، وحرص على الصالح العام، وصدق مع الرأي العام، فهذا ليس مشروطا بمدى تشرّع أو تديّن الإنسان بمعناه الفقهي (الظاهري)، بل بمدى إنسانية ووطنية صاحب الموقف والقرار السياسيين. ثم إن الموقف السياسي غير الصادر من موقع تعتقد شريحة واسعة من الرأي العام بقداسته قابل للتقويم والنقد والمعارضة والتنضيج، بينما فرض القداسة يحول دون ذلك، ولا يخفى على عاقل مدى ضرر الحيلولة دون ذلك.