ربما يجهل كثيرون (خارج العراق) تفاصيل الجرائم التي ارتكبها احمد الجلبي بحق العراق، قبل الغزو الأمريكي وأثناءه وبعده، ولعل المعلوم المنتشر حاليا هي قضية إختلاس الجلبي مبلغ 300 مليون دولار من بنك البتراء الأردني والتي حكم عنها من القضاء الأردني غيابيا بالحبس المؤبد، وأخيرا إفتضاح قضية تقديمه معلومات مظللة بالتعاون مع ملالي إيران، الى الأدارة الأميركية للتعجيل بشن الحرب على العراق، صحيح إن تلك الفعلتين هما من أشهر محتويات سجل سوابق هذا (المجرم الدولي) الذي تبحث عنه (شرطة الأنتربول الدولي)، إلا أن صحيفة سوابق المدعو (أحمد عبدالهادي الجلبي) الأصلية طافحة بالمعلومات الإجرامية، وسنورد على عجالة أهمها.
1. من المعلوم إن أحمد الجلبي غادر العراق عام 1956 أي قبل إعلان الجمهورية في ثورة 14 تموز، وكان مازال يافعا، وإنشغل بالتجارة والسمسرة، ولم يكن يعرف له أي نشاط سياسي معارض، الى أن تلقفته المخابرات المركزية والموساد الصهيوني ووجدوا فيه ضالتهما وبدأوا معه ممارسة لعبة المعارضة والتمهيد لدفعه إلى أمام.
2. الجلبي كان حانقا من الرئيس عبدالسلام عارف ورئيس وزراءه طاهر يحيى لقيامهما بإصدار قرارات التأميم الشهيرة عام 1964 والتي طالت مصانع والده (عبدالهادي الجلبي) الخاصة بإنتاج الطحين الواقعة في منطقة الكاظمية وتحويل المعامل الى قطاع حكومي. وهذا هو السبب الحقيقي في إقدام زمرة الجلبي على إغتيال المرحوم (غسان) إبن المرحوم طاهر يحيى في حي المنصور ببغداد رغم أنه لم يعرف نشاط سياسي للفقيد وهو إنسان مسالم، لم ينتم الى حزب او الى جماعة، ولم ينتفع من رئاسة والده لوزارة العراق حين كانت هناك (حرمة) للمال العام وقدسية لأموال الشعب.
3. إن هذه المعلومة الخطيرة عن صلة الجلبي بإغتيال المرحوم غسان طاهر يحيى مستقاة من الأوراق والوثائق التي ضبطتها شرطة التحقيقات الفيدرالية العراقية برئاسة العقيد عبدالجبار أنور أبو ناطيهه خلال مداهمة مسكن الجلبي مؤخرا، حيث عثرت الشرطة على قوائم بأسماء المطلوب تصفيتهم من العراقيين بأوامر من أحمد الجلبي، وكان إسم المرحوم (غسان طاهر يحيى) مدرجا من بينها .
4. كما تضمنت القوائم المضبوطة من قبل شرطة التحقيقات الفدرالية العراقية أسماء مئات من المواطنين العراقيين من مدنيين وعسكريين بينهم من كان محسوبا على النظام السابق وبينهم من رجال فكر وصحافة وكتاب وأدباء ورجال أعمال وأطباء، ممن تمت تصفيتهم وممن لم تتم تصفيتهم بعد، مما يثبت صلة حزب الجلبي وبالتنسيق مع قوات زمر ميليشيات فيلق بدر التابعة للمجلس الأعلى لما تسمى بالثورة الأسلامية في العراق، بينهم عدد كبير ممن طالته رصاصات التصفية والأغتيال ومنهم من لا زال على قائمة الأنتظار، وستتكشف في الأسابيع أو الأشهر القادمة حقائق خطيرة بهذا الصدد في ضوؤ الوثائق التي عثرت عليها الشرطة العراقية في مكاتب الجلبي.
5. كما كشفت الوثائق أن الجلبي هو الذي أمر أتباعه بتصفية (عقيلة الهاشمي) عضوة مجلس الحكم الأنتقالي، وكانت مرشحة بقوة لمنصب وزارة الخارجية، على أثر مشادة كلامية في المجلس شهدها معظم أعضاء المجلس حين أتهم الجلبي عقيلة بأنها كانت عميلة لصدام حسين ومقربة من طارق عزيز، في حين ردت عليه بإتهامه بالعمالة للمخابرات الأمريكية والصهيونية، وهددها بأنه سوف لن يتساهل مع هجومها هذا، ولم تمض أيام عن الحادث حتى تمت تصفية عقيلة أمام دارها وفي وضح النهار أمام الناس من سكنه منطقة العامرية ببغداد قام بها مسلحون ملثمون وبسيارتين لا تحملان أية لوحات تسجيل! ومازالت القضية مسجلة في سجلات الشرطة (ضد فاعل مجهول!!) مثل مئات غيرها من حوادث الأغتيال والتصفية المستمرة في العراق المحتل.
6. فور دخول الجلبي مع قوات الغزو، وإستيلائه على عدد من القصور ودور الدولة والمباني الحكومية، وإستيلائه على مبنى المخابرات العراقية في الحارثية بكل مافيه من وثائق وسجلات، قام بإستغلال حاجة عدد كبير من الشباب العراقي تحت الفاقة والعوز، وقام بتجنيدهم في حزبه لقاء إعطائهم مبالغ شهرية تتراوح بين 100 و150 دولار، لقاء تكليفهم بأعمال مختلفة تتراوح بين القيام بالتصفيات، وبين القيام بسرقة سيارات الدولة وتسليمها الى حزب الجلبي الذي تصرف بها تهريبا الى شمال العراق ومن هناك الى إيران، وكذلك تكليفهم بأعمال الدعاية لحزب المؤتمر، وكتابة الشعارات المؤيدة للجلبي، وحث الناس على الأنخراط في حزب المؤتمر!!
7. كما أن الجلبي وبالتنسيق والدعم من المخابرات المركزية الأمريكية قام وعلى مدى سنوات التسعينات من إستغلال حاجة الشباب العراقي المهاجر الى أمريكا وأوروبا من الذين كانوا يعيشون ظروف معاشية سيئة، ومعاناة من الأقامة وإحتمالات التسفير، إذ قام بتجنيدهم لصالح حزبه، وبلغ عددهم بحدود 5000 شاب مغرر به، وقام بتجميعهم في معسكر للتدريب في هنغاريا بإشراف المخابرات المركزية إستغلالا لما يسمى بقانون تحرير العراق، حيث تم تدريبهم في معسكرات خاصة للقيام بأعمال التجسس والتمهيد للغزو الأمريكي للعراق، وكان قسما منهم قد ألقت المخابرات العراقية القبض عليهم متلبسين بأفعال التجسس وتم إعدامهم قبيل الحرب.
8. ثبت للسلطات الأمنية العراقية في حينها أن الجلبي كان يقف وراء حادث تفجير سيارة مفخخة أمام فندق فلسطين ميريديان عام 1994 وتحديدا في إحتفالات رأس السنة، وراح ضحية الحادث عدد كبير من المواطنين الأبرياء، وحين تم القبض على المتهمين وإعترفا بجريمتهما أمر صدام حسين أن ينفذ حكم الأعدام فيهما (تفجيرا) ليكون العقاب من جنس الفعل الآثم!!
9. ثبت للسلطات الأمنية العراقية في عام 1998 أن الجلبي كان يقف وراء توريط عدد من الشبان العراقيين في أفعال (سرقة السيارات الحكومية) عن طريق السطو والتسليب، ومنها حادثة مقتل خضر الدوري رئيس جامعة بغداد وسرقة سيارته أمام داره، وغيرها من الحوادث المماثلة بلغ مجموعها 48 حادث تسليب سيارة، وأعترف بصراحة رئيس عصابة السرقات (نائب ضابط مطرود من الجيش) أن أحمد الجلبي ورطه في هذه الأفعال وأن السيارات كانت تهرب الى شقلاوة في أربيل شمال العراق حيث مقر الجلبي هناك.
10. الجلبي كان جاسوسا لأيران، ومن خلالها كان ينسق تقديم المعلومات المفبركة ضد العراق، بإدعاء إمتلاكه الأسلحة النووية، وقد ثبت ذلك مؤخرا على لسان الأميركيين. ومن المؤكد أن الجلبي إثناء إدارته لبنك البتراء الأردني كان يساهم في تمويل آلة الحرب العدوانية الأيرانية ضد العراق، وإنتهت الحرب بهزيمة كاسحة لأيران، لكن ما هو ثابت ان الجلبي امضى وقتا في ايران قبل الحرب الاخيرة على العراق وبعدها، هو لم ينف ذلك ولا نفاه الايرانيون. فقبل الحرب سافر الجلبي في شهر آذار (مارس) 2001 الى طهران والتقى كبار المسؤولين واأقام مكتبا للمؤتمر الوطني العراقي في طهران، كان يدفع تكاليفه من اموال المساعدات الاميركية التي يتلقاها، وتطلّب هذا تغاضيا خاصا من واشنطن بسبب العقوبات الاميركية على ايران. وفي 19 آذار (مارس) 2001 سئل بالتحديد الناطق باسم الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر عن زيارة الجلبي لايران وعما اذا كانت تزعج واشنطن، فلم يجب!.
11. لقد كانت علاقات الجلبي بايران من صالح الولايات المتحدة وهي تستعد للحرب، فهو استطاع ان يرتب نصب جهاز ارسال، بأموال اميركية، على الاراضي الايرانية، لبثٍ موجّه الى العراق. وفي آب (اغسطس) 2002 التقى الجلبي بمسؤولين كبار في طهران وتوجه بعدها الى واشنطن. وحسب مصادر المؤتمر الوطني العراقي فان الجلبي اتصل بمسؤولين في واشنطن من طهران، خلال اجتماعاته مع المسؤولين الايرانيين ومع محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، ابرز الاطراف الشيعية المعارضة آنذاك. وايضا في شهر كانون الاول (ديسمبر) 2002، ومع اشتداد الاستعدادات للحرب، سافر الجلبي الى طهران ويومها نقلت الوكالة الايرانية للانباء «ان امين عام المؤتمر الوطني العراقي احمد الجلبي يتوسط ما بين ايران واميركا»، ونقلت عن الجلبي تصريحه: «ان تحالفنا مع ايران ليس مؤقتا». وكذلك في كانون الثاني (يناير) 2003، كان الجلبي في طهران للقاء محمد باقر الحكيم قبل انعقاد مؤتمر المعارضة العراقية في لندن.
وفي ذلك المؤتمر قال احد اقطاب المعارضة العراقية للجلبي: «يا احمد ان في قلبك صداماً صغيراً» («التايمس» 22 ايار (مايو) 2004 وفي مقابلة مع وكالة انباء الطلاب قال: «ان تعاوننا مع ايران جيد جدا، لا احد يمكن ان ينفي أن ايران كانت الاكثر تعاوناً معنا من بقية الدول المجاورة». الكثيرون في واشنطن دعموا الجلبي، ومنهم نائب الرئيس ديك تشيني، وعندما ادركت الاجهزة الامنية ابعاد وعمق علاقاته مع الايرانيين الاصلاحيين والمتشددين، وعلاقته بفيلق بدر الذي امرت قوات التحالف بحله، شعر تشيني باحراج من هذه العلاقة خصوصا بعدما قدمت له وكالة الاستخبارات الاميركية تقريرا عن علاقاته بايران.
12. الجلبي يلعب على الوتر الطائفي، ويسعى لنشر الفتنة الطائفية في العراق، من خلال تحالفه مع فيلق بدر والمجلس الأعلى في أعمال التصفيات الجسدية، ولعل آخر بدعة للجلبي بعد أن تخلت عنه الأدارة الأمريكية، هو سعيه لإنشاء (المجلس السياسي الشيعي) أو ما أسماه رفيقه في العمالة موفق الربيعي "كونداليزة العراق" أو "مستشار الأمن القومي العراقي" بـ : (البيت الشيعي!) وهي بدعة طائفية جديدة لسحب البساط من تحت قدمي السيستاني، وتوحيد جهد الأحزاب الشيعية لممارسة دور ملحوظ في لعبة تقاسم المواقع والغنائم في العراق.
13. المعلوم أن الجلبي كان هو وراء إصدار قانون اجتثاث البعثيين، والذي صدر في وقت رئاسته لمجلس الحكم، كما أنه كان المحرض الأول على إصدار قرار حل الجيش العراقي مع شلته في مجلس الحكم، التي اعتقدت (ان تغييب شريحة ضخمة ومؤثرة وذات خبرة في الادارة والعمل العسكري سيسهم في تسريع استيلائها على السلطة وتمكنها من ادارة دفة الحكم في ظل الاحتلال حتى لو تم جلب الخبرات والكفاءات من الخارج).. لكن انعدام الكفاءة لدى اعضاء مجلس الحكم ومعظم أتباعهم ومواليهم وتفشي الفساد في صفوفهم وتحولهم الى مقاولين وميليشيات أقرب الى العصابات اضافة الى ما تركته اعمال المقاومة من أثار على هياكل الدولة المتآكلة وبناها التحتية ولجوء قوات الاحتلال الى القمع والتنكيل وزج الالاف في السجون وتراجع التأييد الدولي (والاميركي الداخلي) للحرب على العراق وتداعياتها الكارثية اسهمت كلها في وضع المجلس وشخصياته في مأزق كبير بات من الصعب عليه (وعليهم) تجاوزه أو الزعم بأنهم يتمتعون بقاعدة شعبية مؤثرة، وثبت للأدارة الأميركية أن أعضاء مجلس الحكم لا قاعدة ولا مستقبل لمعظمهم في العراق، إن جرت إنتخابات حرة نزيهة فعلا!.
إن الجلبي قد رمته الأدارة الأمريكية مثلما ترمى الكلاب الهرمة، فقد تكشف للأدارة أن لا مستقبل سياسيا لهذا العميل الهوائي، وأن لا شعبية له في العراق، فأسرعت في حرق ورقته، لكن هيهات لها أن تمحي أو تحرق صحيفة سوابقه.
إن إفتضاح العمالة المزدوجة للجلبي لم تفاجيء الكثيرين من أبناء الشعب العراقي المنكوب بالأحتلال وبالعملاء، وإن كانت ربما فاجأت آخرين، فالعراقيون يعرفون من هو أحمد الجلبي وسجله الأجرامي، إلا أن الأنهيار المفاجيء لهذا العميل وتخلي الأدارة الأميركية عنه بهذه العجالة ربما كانت هي موضع التساؤل، ففي 23 من ايار (مايو) عام 2003، كتبت صحيفة «نيويورك صن» مقالا بعنوان: «كيف تخسر الاصدقاء»، علقت فيه على غارة قام بها جنود اميركيون في بغداد على مقر المؤتمر الوطني العراقي الذي يرأسه احمد الجلبي، وكيف ان مراسلها الذي كان موجودا اثناء الغارة قال للجنود: (ان من تكبلونهم الآن، هم من الموالين لاميركا)، فرد احد الجنود قائلا: «بعد اليوم لن يكونوا موالين». الاتهامات الموجهة للجلبي كثيرة وأخطرها هو مدى عمق علاقته بايران والمسؤولين فيها. وقد ذكرت شبكة «سي. بي.. اس» الاميركية في 20/4/2004 ان مكتب مكافحة التجسس يحاول معرفة من زود الجلبي بمعلومات امنية سرية، قام الاخير بنقلها الى ايران. وحسب الشبكة، فان تلك المعلومات حساسة الى درجة قد تعرض، في حال كشفها، حياة الاميركيين للخطر.
منذ انتهاء الحرب والولايات المتحدة تعاني من قضية عدم وجود اسلحة دمار شامل في العراق، فكل المعلومات الامنية التي وصلتها وبنت عليها قضية غزو العراق، تبين انها كاذبة، ثم ان كل هذه المعلومات قام بتوفيرها احمد الجلبي.. هو لم يتردد عن القول بعد اكتشاف الامر، ان هذا لا يهمه، فكل همه كان الاطاحة بصدام حسين، وكان مستعدا لفعل اي شيء للوصول الى هدفه.
ولان الولايات المتحدة لن تستطيع الهرب من السبب الذي جعلها تبرر الحرب، على الاقل امام الرأي العام الاميركي، فانها بدأت، خصوصا بعد فضيحة سجن ابو غريب، تفتش كل الملفات التي كانت متروكة جانبا. ومع اشتداد الهجوم على ايديولوجيي البنتاغون المدنيين، كشرت وزارة الخارجية ومجلس الامن القومي عن انيابهما وبدآ مراجعة علاقة الجلبي بايران. وقد يكون هو شعر بالامر فأراد استباقه، وبدأ يطرح نفسه كوطني عراقي ويصدر البيانات المعادية لـ«الاحتلال»، خصوصا بعدما فشل في انهاء مهمة الاخضر الابراهيمي مبعوث الامم المتحدة، لا سيما وقد اتهمه بانه قومي عربي وفي الوقت نفسه يعمل لمصلحة السنّة ضد الشيعة. في السابع عشر من هذا الشهر اعلن الجلبي عن تشكيل «المجلس الشيعي السياسي»، المستقل عن الحوزة التي يترأسها آية الله علي السيستاني. ولان هذا المجلس لا يريد طرح نفسه كبديل مدني للسيستاني، فقد ضم بين اعضائه حزب الله العراقي الذي يرأسه كريم محمود المحمداوي، العضو ايضا في مجلس الحكم العراقي.
مع التحضيرات للغزو، انتشر قول ان الولايات المتحدة تريد تغيير خريطة الشرق الاوسط، وانه بعد عمليات سبتمبر التي قام بها سنّة، تريد اعطاء الحكم للشيعة في العراق.. ومنذ سنوات وعلاقة الجلبي بايران قوية، وقبل الحرب قدم الكثير من التقارير الامنية عن العراق الذي غادره عام 1956، الى واشنطن، واحد التقارير عن الاسلحة النووية في العراق اثار انتباه المفتشين الدوليين لدرجة انهم قالوا، لا بد ان ايران ساعدت على وضعه. بعد الحرب، لم يتم اكتشاف اي نوع من اسلحة الدمار الشامل، ثم ان اكثر المستفيدين من الغزو الاميركي للعراق هم الايرانيون وشيعة العراق.. حتى الآن.
• بعد هذا التسلسل يصبح السؤال الرئيسي: من هو الجلبي ومصالح من كان يخدم؟
ان علاقة الجلبي بايران قديمة، والايرانيون كانوا اعداء لصدام حسين وكذلك كان الجلبي، فيصبح بالتالي من المنطق ان يتعاونا.. واذا راجعنا قصة انهيار بنك البتراء الذي انشأه الجلبي في عمان ـ الاردن عام 1978 وانهار عام 1989، عندما اطبقت عليه الحكومة بتهمة التزوير وبقية القصة معروفة، لا بد من تذّكر ما تردد آنذاك في العراق والاردن وحتى في اسرائيل، عن اسباب انهيار البنك وهو ان الجلبي كان يتعاون على تمويل الآلة العسكرية الايرانية اثناء الحرب بين ايران والعراق، ولما انتهت الحرب بهزيمة ايران، ضغط العراق على الاردن لاغلاق البنك وكان في ذلك الوقت يدير اموال كثيرين من الاردنيين.
على كل، لم يتم اثبات ان الجلبي كان يعمل للايرانيين اثناء فضيحة بنك البتراء لكن ما هو ثابت ان الجلبي امضى وقتا في ايران قبل الحرب الاخيرة على العراق وبعدها، هو لم ينف ذلك ولا نفاه الايرانيون. وقبل الحرب سافر الجلبي في شهر آذار (مارس) 2001 الى طهران والتقى كبار المسؤولين واقام مكتبا للمؤتمر الوطني العراقي، كان يدفع تكاليفه من اموال المساعدات الاميركية التي يتلقاها، وتطلّب هذا تغاضيا خاصا من واشنطن بسبب العقوبات الاميركية على ايران. وفي 19 آذار (مارس) 2001 سئل بالتحديد الناطق باسم الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر عن زيارة الجلبي لايران وعما اذا كانت تزعج واشنطن، فلم يجب. لقد كانت علاقات الجلبي بايران من صالح الولايات المتحدة وهي تستعد للحرب، فهو استطاع ان يرتب نصب جهاز ارسال، بأموال اميركية، على الاراضي الايرانية، لبثٍ موجّه الى العراق. وفي آب (اغسطس) 2002 التقى الجلبي بمسؤولين كبار في طهران وتوجه بعدها الى واشنطن.
وحسب مصادر المؤتمر الوطني العراقي فان الجلبي اتصل بمسؤولين في واشنطن من طهران، خلال اجتماعاته مع المسؤولين الايرانيين ومع محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، ابرز الاطراف الشيعية المعارضة آنذاك. وايضا في شهر كانون الاول (ديسمبر) 2002، ومع اشتداد الاستعدادات للحرب، سافر الجلبي الى طهران ويومها نقلت الوكالة الايرانية للانباء «ان امين عام المؤتمر الوطني العراقي احمد الجلبي يتوسط ما بين ايران واميركا»، ونقلت عن الجلبي تصريحه: «ان تحالفنا مع ايران ليس مؤقتا». وكذلك في كانون الثاني (يناير) 2003، كان الجلبي في طهران للقاء محمد باقر الحكيم قبل انعقاد مؤتمر المعارضة العراقية في لندن. وفي ذلك المؤتمر قال احد اقطاب المعارضة العراقية للجلبي: «يا احمد ان في قلبك صداماً صغيراً» («التايمس» 22 ايار (مايو) 2004 )..
وكانت العلاقة بين الجلبي والحكيم مفيدة، فمع بدء الحرب كان من الضروري للمحافظين الجدد ان يبرزوا حليفهم ـ الرئيس المقبل للعراق ـ بانه يقوم بدور ما، وبعد اتصال اجراه الجلبي مع بول ولفوويتز النائب الاول لوزير الدفاع الاميركي، تقرر نقله الى الناصرية جنوب العراق، لاظهار انه جزء من التحالف، لكن مشكلة الجلبي انه لم يستطع تجميع قوات، فتمت الاستعانة بقوات من فيلق بدر، الميليشيا الشيعية المدعومة من ايران.
استمرت علاقة الجلبي بايران، بعد انتهاء الحرب العسكرية التقليدية، وفي الاول من كانون الاول (ديسمبر) 2003 التقى برئيس المجلس الاعلى للامن القومي حسن روحاني الذي شدد على ضرورة اجراء انتخابات حسب اقتراحات السيستاني ذلك الصيف، فرد الجلبي بتصريحه: «ان دور الجمهورية الاسلامية في ايران بدعم وتوجيه المعارضة العراقية في نضالها ضد نظام صدام في الماضي، ومساعدتها في استتباب الامن والاستقرار في العراق اليوم، ينظر اليه العراقيون نظرة امتنان». وفي مقابلة مع وكالة انباء الطلاب قال: «ان تعاوننا مع ايران جيد جدا، لا احد يمكن ان ينفي أن ايران كانت الاكثر تعاوناً معنا من بقية الدول المجاورة»..
الكثيرون في واشنطن دعموا الجلبي، ومنهم نائب الرئيس ديك تشيني، وعندما ادركت الاجهزة الامنية ابعاد وعمق علاقاته مع الايرانيين الاصلاحيين والمتشددين، وعلاقته بفيلق بدر الذي امرت قوات التحالف بحله، شعر تشيني باحراج من هذه العلاقة خصوصا بعدما قدمت له وكالة الاستخبارات الاميركية تقريرا عن علاقاته بايران. قد لا تكون علاقة الجلبي بايران مستغربة، انما المستغرب ان هذه العلاقة لم ينظر اليها كعقبة في علاقته مع اصدقائه الاميركيين، الا اذا كان الهدف الحقيقي تدمير العراق. وقد تكون فضيحة ابو غريب، رغم بشاعتها، ساعدت مسؤولين في الادارة الاميركية على كشف القناع بأكمله عن اشياء اخرى خطرة.
ان كل المعلومات الامنية عن العراق كانت خاطئة. اخطأت بمسألة اسلحة الدمار الشامل، توقعت استقبال القوات بالزهور والرياحين وقللت من مدى التنظيم الايراني للشيعة في الجنوب قبل الحرب، اخطأت ايضا المعلومات الامنية بكيفية انتهاء الحرب، ربما توقعت قلاقل، لكنها لم تتوقع حرب عصابات، واغلب ما اعتمدت عليه كان ما زودها به المؤتمر الوطني العراقي ومن كان وراءه.. ربما ايران.
ان عدم اكتشاف اسلحة دمار شامل، افقد الحرب شرعيتها لدى عدد كبير من الاميركيين، والفشل في معرفة الانقسامات الشيعية، والسرعة في حل الجيش وطرد كل البعثيين من مناصبهم، ادى الى حسابات خاطئة بالنسبة الى حرب العصابات القائمة حاليا، والآن يبدو ان واشنطن تخلت عن استراتيجية دعم السيستاني، لكن الجلبي حقق ما يريد. لقد صوره الكثيرون بانه اداة في يد مدنيي وزارة الدفاع، انما بعد الفشل الامني الاميركي في العراق، ودور الجلبي في التسبب بهذا الفشل وعلاقاته مع المسؤولين الايرانيين، لا بد ان نسأل: من كان اداة بيد الآخر؟