ملكات العراق بين الأسطورة والتاريخ
صلاح سليم علي
يعد علماء التاريخ الإجتماعي والإقتصادي الحضارات القديمة في وادي الرافدين مجتمعات تشكلت فيها اللبنات الأساس للإستغلال الطبقي ولنشوء السلطة الإستبدادية حيث تتمكن طبقة صغيرة من السيطرة على المجتمع بطريق العنف ثم بتشكيل سلطة يتعاون في تثبيتها الكهنة والملوك الذين يحتكرون وسائل الأنتاج ويحققون ثروات طائلة بطريق اعمال السخرة..وفي منظور ماركس ان اول اشكال السلطة قديما تعد أئتلافات ثيوقراطية أرستقراطية تنصب نفسها ممثلة للآلهة على الأرض، فتفرض على الجماعات في بيئتها وخارج بيئتها الطاعة والسخرة بالقوة والدعاية، وان سور الصين العظيم واهرامات مصر وبرج بابل والمدن الآشورية ماكانت ستشاد لولا العنف واعمال السخرة..مما جعل الدولة هي المالك الوحيد للأرض والمشاريع الكبرى التي تبنى عليها، واطلق ماركس على هذا النمط من العلاقة بين السلطة والمجتمع بنمط الإنتاج الآسيوي وفي المرحلة الثانية لهذه العلاقة تتباعد المسافة بين الكهنة والملوك ويلجأ الملوك الى تبرير سلطتهم بطرق مختلفة منها زعمهم انهم تحدروا من الآلهة وان الحروب التي يشنونها هي كالمعابد التي يشيدونها ليست سوى تنفيذ لأوامر آلهة (نقلها) اليهم الكهنة او كما في حالة نابونيداس طرأت عليهم في احلام اوحتها اليهم الآلهة..والمهم في رأي هذا النفر من العلماء أن الممتلكات لم تتضمن الأشياء وحدها، بل البشر الذين يقدمون وقودا الحروب، ووسائلا للأنتاج، ، وأن النساء يمثلن الحلقة الأضعف في المجتمعات القديمة حتى عندما يكن كاهنات أو اميرات، فهن، والرأي لهؤلاء المنظرين، يملن بسبب افتقارهن الى القوة، الى المكر والخداع مما ولد نمط شهرزاد التي تحافظ على رأسها بتوظيف عقلها على حد تعبيرهم.. وقد ولد هذا التنظير في شأن المرأة الشرقية نظرة تدوينية تبناها المستشرقون لدوافع ايديولوجية معممين مفردة (الحريم) على تاريخ المرأة الشرقية بأسره..وهم في نظرهم هذا إنما يحاكون علماء التاريخ الأجتماعي والأقتصادي في الذهاب بعيدا في تنظيرهم فيما يخص المرأة الشرقية...والحكم الأقرب الى الإعتدال هو أن النساء يشغلن الزاوية الأعتم في تاريخ الشرق ليس لعدم لعبهن لأي دور بل لتغييب ذكر تلك الأدوار من السجل التاريخي بحكم التقاليد ولهيمنة الرجل ملكا ومشرعا وقائدا عسكريا على المجتمع في العالم القديم بأسره وليس في الشرق او الشرق الأدنى فحسب..إلا أن تلك المرحلة من تاريخ الشرق الأدنى صاحبتها عملية التشكل الحضاري وتطور الفنون والآداب والتشريع وبناء النظم الأجتماعية والأقتصادية والعقيدية وما اليها من مفاهيم اساسية عن الدولة وادارتها واقتصادها فضلا عن الحرب والتجارة والري والزراعة والعلاقات بين الدول والأمم..وكانت المرأة تلعب في كل ذلك دورا متميزا..
ويواجه المؤرخ والبحاثة في الحياة الإجتماعية لتلك المرحلة من تاريخ الشرق الأدنى وتاريخ المرأة في العراق بوجه خاص صعوبات هائلة تنبثق من ندرة النصوص التي تؤرخ للحياة الإجتماعية مما يستوجب الأعتماد على الشواهد الآركيولوجية ومقارنتها بالنصوص المسمارية والروايات القديمة..ولابد في كل ذلك من اعتماد المؤرخ على مانطلق عليه بالدرس البلاغي (تعويض المحذوف) او الأستنتاج بطريق تأييد افتراض معين بالرجوع الى قرائن نعتمدها من خارج النص..أو من مرحلة تاريخية سابقة أو حتى لاحقة قد تصل الى مقارنة (لسانية) لمفردة في الأغلب بقريناتها في الوقت الحاضر، كوننا ورثة المنظومة القيمية والذوقية والحضارية لأسلافنا في هذه المنطقة الحبلى بالتاريخ من العالم..وفي كل الأحوال لابد من الرجوع الى الدراسات الحديثة التي تمثل حاصل تحصيل المجهود البحثي النصي والآثاري والمقارن المعاصر لتشكيل تصور مقارب للحياة الأجتماعية للمرأة في العهود القديمة ..ونحن بمحاولتنا المتواضعة تقديم هذه الصورة ننتهج التقليد هنا والأبتكار هناك ريثما تجد افكارنا موطيء قدم لها بين بصمات كتاب جلهم من الغرب، كلما هزت اصابع العازف الغربي وترا ينهض روحنا الشرقية متحدية او ناقدة، ويبعث ايقاعاتها ويغازل عوالمها واسرارها..ونحن مع كل ذلك، ادرك باننا أشبه بمغامر يحاول زج ناطحة سحاب بعلبة كبريت..مع ذلك فحرى بنا ونحن ابناء نينوى وكالخو، كيش وبابل، أرابخا وأرباأيلو أن نلقي حجرا في ماء راكد:
تميط المدونات الآشورية الصروحية والأرشيفية التي تتناول منجزات الملوك الآشوريين في الألف الأول ق.م. اللثام عن مجتمع يهيمن عليه، في معظم مراحله، الرجال ويديرون الشؤون السياسية والعسكرية والدينية والأقتصادية فيه تاركين الأهتمام بالمنزل والأطفال، والمعابد احيانا، للنساء اللاتي يشغلن الضمير الغائب في العراق القديم..وبالنتيجة اصبحت المدونات والمسلات والمنحوتات الآشورية، في معظمها، تؤرخ للملوك ومآثرهم العسكرية وتؤكد قوة الأمبراطورية وآيديولوجيتها موحدة بين سلطة الملك وغضب الآلهة وانتصار الآشوريين المحتوم في المعارك..فالدولة الآشورية عسكرية في تكوينها وترتكز على إدامة القوة الضاربة للجيش الآشوري وترسيخ القدرة السوقية (اللوجستية) وتوظيف الحديد في آلآت الهجوم والحصار ودك أسوار المدن المعادية وهدم تحصيناتها. فالحرب هي دين الدولة والقوة العسكرية عمادها..وهذا يفسر جعل آشور بديلا لمردوخ ربا للأرباب في الدولة الآشورية، وحتى عشتار نفسها تبناها الآشوريون رمزا ليس للخصوبة والحب بل للحرب والقتال..فالجيش الآشوري في المصطلح العسكري الحديث جيش نار وحركة..اي جيش هجوم مستمر وليس جيش دفاع وهذا ينعكس بقوة في الفن الآشوري المعبر عن الآيديولوجية القتالية فالجداريات عبارة عن معارك حية والثيران المجنحة تغادر بوابات القصور ليلا للتحرك على قوائمها الخمس في المكان أما الإله آشور فيرفرف بعجلته فوق ميادين الوغى حاملا قوسه ونشابه يحمي ظهره نينورتا بحربته الرعدية ثلاثية الرؤوس..فبدهي والحال هذه أن لاتحتل النساء ولأقل المرأة في دولة الحرب هذه سوى هامش ضيق..مع ذلك فأن هذا الهامش لايخلو من أخبار بالطبيعة البطولية للآشوريات وادوارهن المتميزة في تثبيت اركان الأمبراطورية والمساهمة في الجهد العسكري بطرق متنوعة ..ولاسيما مع اتساع الأمبراطورية الآشورية على عهد سنحايب وأبنه وحفيده آسرحدون وآشوربانيبال على التوالي...وهي مرحلة تزايد خلالها تأثير الوجود الآرامي في شؤون الدولة سواء من خلال التزوج بأميرات آراميات أو من خلال توظيف الآراميين في مراكز عديدة في أسفل هرم الإدارة الأمبراطورية ووسطه، او من خلال اتساع الأمبراطورية غربا وضمها لبابل..مما عزز تدريجيا مكانة مردوخ مجددا على حساب آشور، وسين على حساب نركال، ونوسكو على حساب نينورتا..واخيرا سين على حسابهم جميعا..وعلى الرغم من عدم معرفتنا بالدلالة الخارجية أو النصية الصريحة بطبيعة التنافس على السلطة ضمن الأسر الآشورية المتتابعة منذ أواخرعصر شلمنصر الثالث وحتى عهد ادد نيراري الثالث فسرجون الثاني فابنه سنحاريب الذي اغتيل في طربيشو (شريخان- المصحفة من شريف خان في منطقة الرشيدية في الموصل)، فأن مشكلة تولية اسرحدون ثم الملكية المزدوجة، أقول على الرغم من اختفاء الأدلة النصية، يمكن الأستدلال بالقرائن على أن تنامي تأثير النساء غير المنظور في شؤون الأمبراطورية، كان واحدا من اعراض المنازعات في البلاط الآشوري وتراجع القوة الضاربة للجيش الآشوري على الرغم من اتساع رقعة الأمبراطورية، من جبال البرز وبحر قزوين شمالا حتى الخليج العربي جنوبا ومن قبرص غربا حتى السفوح الغربية لزاكروس وبضمنها اجبتانا (همدان)، ولجوء الملوك المتأخرين مجددا الى الزيجات الدبلوماسية والمعاهدات جنبا الى جنب مع الوسائل العسكرية - كمعاهدة عدم الأعتداء بين اسرحدون وملك عيلام، وتفكير اسرحدون بتزويج احدى بناته لأحد ملوك كوركوم (مرعش) والمشكلات التي اعقبت تولي آشوربانيبال (668- 627 ق.م.) آخر الملوك الأشوريين الأقوياء الحكم بعيد وفاة ابيه في نينوى كالملكية المزدوجة في بابل ونينوى وتحالف شمش شموكين ملك بابل وشقيق آشوربانيبال مع تومان ملك عيلام وارسال الأخير رسالة مهينة للملك الآشوري في نينوى تمخضت عن سحق عيلام وتعليق رأس ملكها تومان في عرائش العنب في حدائق تلقوينجق..ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه فالمشكلات التي حاقت بالخلافة العباسية سبقتها قرائن مماثلة في اواخر العصر الآشوري الحديث فقد استخدم الملوك الآشوريين المتأخرين جندا ميديين (خصيان) في بلاطهم تذكرنا باستقدام العباسيين للفرس ومن بعدهم الترك جندا في دار الخلافة..فضلا عن توظيف الآراميين في الإدارة الآشورية ولاسيما في المناطق الشرقية والأناضول..وبينما لعب الآراميون دورا بناءا، وبخاصة النساء الآراميات اللاتي اصبحن ملكات في نينوى والنمرود، كون الآراميون ينتمون لأرومة حضارية وإثنية مماثلة للآشوريين، كان الميديون طابورا خامسا في البلاط الآشوري..بدليل طبيعة التحالفات التي ادت الى تخريب نينوى وسقوط الأمبراطورية الآشورية..وسنبين لاحقا ان (ادة كوبي) أم نبونيداس ملك بابل كانت قد احتفظت بذاكرة قرن كامل من التحولات ومن رحيل الآلهة وعودتها وتغيرات السلطة تبعا لذلك..في سياق دعائها الآلهة لمصالحة بابل ونينوى، وارجاع السلطة لأبناء العراق مجددا بعد ان انتزعت منهم.
تناولت دراسات عديدة دور المراة في العراق القديم وأكثر هذه الدراسات أهمية أطروحة دكتوراة قدمتها شيري مكريكر في جامعة كاليفورنيا عام 2003 عنوانها (النساء في عالم العصر الآشوري الحديث)، وهي اطروحة تناولت سميراميس ونقية زكوتو بالأضافة الى ملكات النمرود من خلال مكتشفات مقبرة القصر الشمالي الغربي في النمرود والمنحوتات الصروحية، واعتمدت منهجا وصفيا وتركزت مصادرها على أدبيات واسعة حديثة في معظمها، ثم أطروحة الدكتوراة التي قدمتها سارة شمبرلين ميلفل في جامعة ييل وعنوانها (دور نقية زكوتو في السياسة السرجونية)، ودراستها اللاحقة الرائدة المعنونة (النساء الملكيات في العصر الآشوري الحديث والهوية الذكرية: المكانة بصفتها أداة اجتماعية) نشرت في مجلة الجمعية الشرقية الأميركية، والترجمة الإنكليزية لمسلتي نابونيداس وامه أدة كوبي اللتان عثر عليهما في جامع أولو في حران، التي نشرتها مجلة الدراسات الأناضولية عام 1958 وذلك لتحليل النص من منظور اثني وحضاري للتعرف على دور أم نبونيداس بصفتها احدى رائدات وحدة العراق وسيادة ابنائه على ارضه قديما من منظورنا فحسب، ودراسة جورجيو بوتشلاتي المعنونة (القصر الملكي في اوركيش وإبنة نرام- سين) في مجلة الحوليات الآركيولوجية السورية العربية المنشورة عام 2001 وهي دراسة ميدانية تلقي ضوءا جانبيا على تارآم أكادا ابنة حفيد سرجون الأول..ونعتمد فيها على إشارات في تحليلنا لعناصر فنية نفترض ان الملكة العراقية كانت هي من نقلها الى أوركيش (تل موزان) في شمالي سورية، واحدثت تغييرا في الطابع الديني والسياسي والفني في العاصمة الحورية.. وهذا ما لم يقله أي من البحاثة سابقا اضف الى ذلك محاضر المؤتمر المعنون (ضوء جديد على النمرود) الذي عقد في لندن عام 2002 ونشرعام 2008 بشكل كتاب تناولت المقابر الملكية في قصر آشورناصربال الثاني المكتشفة عامي 1989-1990..هذا فضلا عن المراجع الألكترونية التي لاتحصى..
وتبقى الصعوبة التي تواجه البحاثة كلهم قائمة هنا أيضا..وهي نزرة المصادر التي تتناول المرأة في العصور القديمة وشحتها.. وتتمثل مبادرتنا في ربط الشواهد والدلالات النصية والصورية أحداها بالأخرى وتوظيف المعالجات المنطقية الممكنة كالأستقراء والأستدلال والمقارنة وصولا الى تكوين صورة عن شخصية المرأة في العراق القديم ممثلا لها بثلاث ملكات وملكة - كاهنة حاولنا جاهدين لملمة آثارهن ومآثرهن مستعينين حسب الضرورة على النادر والخبيء في بطون الكتب وثنايا المصادر، وهذه الملكات وفق تسلسلهن التاريخي هن تارآم أكادا وشمورامات (سميراميس) ونقية زكوتو واخيرا أدة كوبي أم ملك بابل وكاهنة حران:
تارآم أكادا:
يقع تأثير تارآم أكادا ابنة نرام سين في سياق امتداد النفوذ الأكدي السياسي والحضاري في حوضي الخابور والفرات والأناضول..إذ نقرأ في احد نصوص ايبلا الآتي (سرجون الملك ركع في توتول - تل البيعة- للإله داكان الذي وهبه الأراضي العليا ماري ويارموتي وايبلا وحتى غابة السدر وجبل الفضة)، ويقصد سرجون بجبل الفضة طوروس وغابة السدر في سفوح جبل أمانوس وليست نظيرتها في لبنان..وجاء تحرك سرجون الأكدي شمالا بحكم الضرورة لأن جنوب العراق يفتقر الى المعادن والأخشاب والخيول والحجارة..مما جعل السيطرة على حوض الخابور والأناضول مطلبا حيويا ليس للأكديين ومن بعدهم الآشوريين فحسب، بل من قبل المصريين والسومريين ايضا..غير أن هذه المنطقة تخللتها دويلات مدن عديدة تتأرجح بين القوة والضعف كأيبلا أو مدينة الحجارة البيضاء (تل مرديخ) المنافسة لأكد وايمار وماري وأوركيش..واعتمد الأكديون في توغلهم على الغزو والدبلوماسية ..فعمد نرام سين الى غزو الكنعانيين في أيبلا وحرق مدينتهم ومعابدهم وانهاء وجودهم في شمالي سورية اما اوركيش الكنعانية (بالقرب من القامشلي) اصلا فقد تجاوب ملكها مع ملوك أكد وقبل بسيادتهم مفضلا التعاون معهم على حرب محسومة النتيجة ولاسيما لأن اوركيش دويلة مدينة لم يتجاوز نفوذها السياسي مشارفها واسوارها ولأنها محاطة بدويلات مدن يديرها الأكديون مباشرة كناجار (تل براك) وسخنا (تل ليلان) شوبات انليل عاصمة شمشي ادد الأول لاحقا، ومدن اخرى ضمن شبكة تجارية واسعة تربط بين مدن القلب الرافدي بابل وكيش ولاكاش وأور ونيبور واكد وشوروباخ (اوروك) بماري وتوتول وأيمار وقطنا ومدن الساحل الفينيقي غربا والأناضول شمالا..وبدلا من تعيين حاكم أكدي على اوركيش، عمد نرام سين الى تزويج ابنته تارآم اكادا للأندان حاكم اوركيش ربما كان الأندان توبكيش (الثاني؟) او تيش آكال..ويبدو من التنقيبات في اوركيش أن ترآم أكادا كان قد صاحبها عدد من الموظفين الأكديين مهمتهم الأشراف على المنتوج الزراعي وتأمين الطريق التجاري بين حران وكاركميش والمدن السورية والأناضولية الأخرى..ويتضح من مقارنة طبعات الأختام الأسطوانية الأكدية مع مثيلاتها في أوركيش وكانيش (كول تبة) تماثلا في الطراز الفني وفي المضمون وبخاصة في الأختام التي تمثل إله الصواعق تيشوب وهو نسخة من ادد الرافدي ورجال برؤوس ثيران أو ثيران برؤوس رجال ربما كانت الأساس في الترميز للإله آشوربالثور المجنح عند الآشوريين فيما بعد. ويرجح ان تفضيل نرام سين الإبقاء على أستقلال اوركيش الصوري كان بسبب علاقات الملوك الحوريين فيها مع القبائل الجبلية في طوروس، وقيام الأخيرة باعمال التنجيم وشحن الفضة والخيول والقصدير الضروري لعمل البرونز الى بلاد الرافدين..مع ذلك فان تحولا واضحا في الرموز الدينية وفي الفن والإدارة حدث في اوركيش بسبب تأثير ملكتها الأكدية تارآم أكادا..حيث تصور لنا أكثر من ألف طبعة لأكثر من 100 ختم اسطواني منها 150 ختما يحتوي على كتابات مسمارية متروكة على مداخل الأبواب والمخازن نماذج من الفن الأكدي كمشاهد القتال والأسود والثيران فضلا عن النجمة الأكدية الثمانية والخوذة ذات القرنين التي نطالعها في مسلة نرام سين، وفي ختم تارآم اكادا نطالع مشهدا مماثلا لمشهد كلكامش وهو يقاتل اسدا غير ان ختم تارآم اكادا يمثل رجلا بجسم ثور يقاتل اسدا من جانب ورجلا عاريا يقاتل جاموسا من جانب آخر وبين الشكلين كتابات أكدية. ويماثل ختم اروين اتال ختم تارآم اكادا..كما عثرعلى ختم الحاكم الأكدي (ايشاربلي) يمثله جالسا وامامه مهر يقفز وخلفه حارس يقود امرأة تحمل غزالا والى جانبها ثور مناخ (بضم الميم)..كما تم استظهار قسم مخصص للكتبة وعدد من الرقم المدونة باللغة الأكدية تتناول مواضيع ادارية ونصوص تعليمية ...ويتبين من وجود ختم الملكة على الأبواب والمخازن انها كانت تحت الإشراف المباشر لترآم أكادا او انها اضطلعت بادارة القصر..ويبدو من سيادة التصوير الميثولوجي الرافدي في الأختام أن تارآم أكادا قد غيرت او استقدمت هذا الفن الأكدي اصلا في ايمار وانها انشأت مدرسة لتعليم الحساب فيها..وفي المصادر ان نرام سين كان يعتمد على بناته في إدارة المدن الرافدية والإشراف على المعبد الرئيسي في المدن المهمة فقد عين ابنته (أينمينانا) كاهنة على أور، و(توتا نبشوم) كاهنة على نيبور و(شومهانيتا-آسي) كاهنة على سيبار (تل ابوحبة شمالي بابل) وهي اكثر مدن الرافدين في الألف الثالث ق.م. أهمية..ولكن تارآم اكادا كانت ملكة لأوركيش يساعدها حاكم اكدي على الرغم من زواجها لأمير(اندان) حوري..كما أظهرت التنقيبات في اوركيش قصرا ملكيا يحاكي طراز عمارته القصور الأكدية في ناجار (تل براك) تحمل قطع اللبن التي شيد منها اسم نرام سين جنوبي أوركيش واماكن اخرى..ويحفل المعبد الحوري في اوركيش إلى جانب تيشوب وكوماربي آلهة عراقية بابلية واكدية كعشتار وأيا وشمس ونركال..ويعود تاسيس معبد نركال الى عهد تيش آتال المتزامن مع الملكة الأكدية مما يرجح ان بناء هذا المعبد جاء نزولا عند إرادة تارآم أكادا..كما يظهر من قراءة احد زوايا تاسيس المعبد في قاعدة لتمثال اسد برونزي وضع لحراسة المعبد الصيغة عينها التي يدونها ملوك العراق في اركان واسس قصورهم ومعابدهم إذ نقرأ على اللوح في قاعدة الأسد: (تيش آتال ملك أوركيش قد بنى معبدا للأله نركال..فليحافظ الإله نوباداك على هذا المعبد. وعسى نوباداك ان يدمر كل من يسعى في تخريبه، وعسى الا يستجيب ربه لصلواته. وعسى سيدة ناجار، وإله الشمس شيميكا، وإله العواصف يلعن 10.000 لعنة اي شخص يسعى في خرابه)، ويقصد تيش آتال بسيدة ناجار الربة عشتار التي انتشرت عبادتها في الشرق الأدنى قبل انتقال الحوريين من ارض فلسطين (كنعان في اواخر الألف الرابع أو أوائل الألف الثالث) الى شمالي سورية..اما نابادوك، فلعله داكان (دجن) إله الخصب والصواعق الرعدية السامي الذي انتشرت عبادته في مدن الساحل الفينيقية وشمالي سورية وبخاصة توتول (تل البيعة) وايبلا (تل مرديخ). وكان الإله دجن يشغل مكانة خاصة لدى سرجون الأول الذي قدم له الأضاحي في طريق حملته عبر الفرات في ترقا (تل العشارة)، سيرقو الآشورية وتوتول.. ويتجلى من قراءة دقيقة لمجمل الدلائل الآركيولوجية والنصية والمقارنة الدايكرونية والجغرافية لأوركيش وعصرها ان تارآم اكادا لعبت دورا مهما في عدد من المجالات شملت الفن والأقتصاد والإدارة والمعتقدات..فالرقم الطينية التعليمية التي عثر عليها في قسم من القصر مخصص للكتبة الهدف منها تعليم الأكدية للطلاب، اما تختيم ابواب المخازن والغرف فيشير الى نشاط إداري واقتصادي ..ويتضح من وجود حاكم آشوري الى جانب الملكة ان مهمة الوجود الأكدي في اوركيش تشمل تنظيم التجارة مع بلاد الرافدين والأناضول كتجارة الخيول والأخشاب والمعادن والعربات وبعض المنتجات الزراعية..ولعل ابرز تأثير لوجود الملكة الأكدية نقل منظومة المعتقدات والفنون التشكيلية رفيعة الطراز الى شمالي سورية هذا فضلا عن ان اية مقارنة بين تمثال عشتار الطيني بأسد أوركيش ثم بالأختام الأسطوانية ستوضح بما لاغبار عليه ان تطور الفن في أوركيش يدين لتارآم اكادا الملكة الأكدية في شمالي سورية...
شمورامات (سميراميس):
يتداخل في شخصية سميراميس عدد من الروايات التاريخية والأساطير القديمة التي خلقت كيانا افتراضيا لاعلاقة له بسميراميس التاريخية. وينبثق معظم التصوير الأسطوري للملكة الآشورية من الروايات اليونانية لهيرودوتوس وامانيوس مارسيلينوس وديوديروس سيكيلوس الذين اعتمدوا في رواياتهم على جاستياس الطبيب اليوناني للملك الفارسي احشورش الأول. فسميراميس الأسطورة ولدت من حورية ماء في عسقلان على الساحل السوري وصياد وان امها هجرتها وانتحرت غرقا عند ولادتها..وكبرت هي لتتزوج من قائد لنينوس الذي شيد حسب المصادر اليونانية نينوى، وان نينوس اعجب بها وهي تقاتل الى جانب زوجها في بختياريا (شمالي بلاد فارس) وأنه تزوجها بعد انتحار زوجها، وانها انجبت له نينياس ثم جرح نينوس في معركة في آسيا، فعمدت سميراميس الى إخفاء موته وواصلت غزوها لآسيا ثم ضمت مصر واثيوبيا الى مملكتها..فالأسطورة تبدأ برواية اشبه بالف ليلة وليلة، لتنتقل الى رواية تذكرنا بزواج النبي داوود من ابيجال زوجة احد قادته، ثم برواية اشبه برواية زنوبية ملكة تدمر المماثلة في بعض جوانبها لرواية شجرة الدر. والحقيقة التاريخية وراء النص أن الآشوريين قاموا بغزو بختياريا وتوغلوا في عمق زاكروس، وأنهم ضموا مصر على عهد اسرحدون الى امبراطوريتهم، كما أن سميراميس التاريخية حاربت الى جانب ابنها أدد نيراري الثالث في كموح (سمساط) وليس في بلاد فارس كما في الأسطورة..هذا فضلا عن كون نينوس شخصية اسطورية لاوجود لها في التاريخ. وكما تعزا صروح قديمة الى الأسكندر المقدوني، يعزو هيرودوتوس الزقاق الصناعي الذي يمر به الفرات على ضفتي بابل اليها، وأن بوابة الجنائن المعلقة في بابل يطلق عليها بوابة سميراميس..ويطلق اسمها على حصن شلمنصر (قلعة الروم) في هالفتي (غربي بيريجيك) في تركيا، وعلى مدينة على بحيرة وان هي (شميراماكيرد)، وكذلك على قناة حفرها مانوا ملك اورارتو وغيرها..وفي رواية انها شيدت سور بابل وانها اول من ابتكر حزام العفة وخصى الشباب واستخدامهم في البلاط والجيش..وحقيقة ذلك أن سميراميس التاريخية عاشت في عصر يستخدم فيه الخصيان في البلاط الآشوري وان حفيدها تكلاثبليزر الثالث اعظم ملوك آشور اعتمد على الخصيان في إدارة المقاطعات الآشورية في انحاء الأمبراطورية، وفي المصادر ان الحكيم احيقار والنبي دانيال كانا خصيين ايضا..وترتبط سميراميس الأسطورية بالأسماك والحمائم، فقد عثر في معبد بمبيجا (ممبج او منبج السورية) الذي بنته حسب الروايات سميراميس، على تمثال ذهبي يمثلها وعلى جبينها حمامة، اما ربط اسمها بحورية البحر فيأتي من تكريس تمثال لحورية البحر في مدخل معبد نبو في كالخو (النمرود) لأبنها أدد نيراري الثالث ..وتتعدد الروايات حول سميراميس الأسطورية إلا ان مايهمنا هنا هو سميراميس- شمورامات بمعنى (السماء العالية) التاريخية زوجة شمشي أدد الخامس ابن شلمنصر الثالث الذي بدأ حكمه بثورة اخيه ومعه 27 مدينة وبضمنها نينوى..وهي ثورة استمرت 6 سنوات والحقت اضرارا كبيرة بالأمبراطورية..ولا يؤثر الكثير عن شمشي ادد الخامس سوى حروبه مع البابليين وقد ورد في مسلته المحفوظة في المتحف البريطاني انه زوج شمورامات..ويبدو أنه تزوجها في اثناء حكم ابيه شلمنصر الثالث وانها كانت الملكة الفعلية للأمبراطورية بعد وفاة زوجها لثلاث سنوات 811- 808، يساعدها القائد العام (الترتانو) شمشي-أيلو حاكم تل بارسيب والولايات الغربية.. ومرة أخرى نستعين بالقواعد التحويلية التوليدية في مجال التاريخ القديم للتوصل الى تصور واضح وتصوير دقيق قدر الممكن لدور الملكة العراقية المتميزة شمورامات..وهنا لابد من مقارنة ثوابت الدولة الآشورية بالمتغيرات ومن هذه الثوابت عدم ورود اسم ملكة في مسلة آشورية تؤرخ لمعركة وتكريس المسلات الملكية في الأمبراطورية الآشورية للرجال تحديدا دون النساء..وتلكما حقيقتان مشهودتان في تاريخ العراق القديم تعززهما بدهية كون المجتمع العراقي عموما وحتى الوقت الحاضر يميل الى هيمنة الذكر على الأنثى واحتكار الذكر للتاريخ ولتدوين التاريخ على الرغم من وجود إناث ربات بقوة الصاعقة وعنف القدر كعشتار وأنات ونينليل واينانا ونانا وغولا وغيرهن ووجود إناث ملكات موضوع مقالنا هذا.. غير أن هاته الإلاهات وفدن من بابل وسومر..وهما حضارتان أكثر ميلا الى الطبيعة والخصب والأنوثة أزاء الآلهة السامية الأكدية والآشورية المتخصصة بالحرب والعنف والقتال..اي سومر وبابل أزاء نينوى وكالخو..جنوب العراق أزاء شماله و الفن أزاء الحرب..ونعود من استطرادنا الى المتغيرين في حالة شمورامات فالملكة الآشورية يبدو أنها خرقت التقليدين الثابتين إذ نطالع أسمها الى جانب أسم ابنها أدد نيراري الثالث في مسلة عثر عليها في بازارجيك شرقي مرعش التركية..وهي مسلة وضعت اصلا بأمر من الملكة الآشورية او ابنها أدد نيراري الثالث لتعليم الحدود بين كموح (سمساط) وكوركوم (مرعش). وكانت الملكة قد قادت بصحبة ابنها حملة لنجدة ملك كموح (شوبيلوليوما) حليف الاشوريين ودويلته التابعة للتاج الاشوري من تحالف يقوده (أتار شمخي) ملك ارباد وانضم اليه ملك كوركوم..فانتصر الآشوريون بقيادة الملكة وابنها، ولضمان أمن حليفتهم كموح عمدا الى وضع نصب صخرية لتعليم الحدود (تخومو) بين المملكتين ومن ضمنها المسلة التي ورد فيها: (صخرة حدود ادد نيراري ملك بلاد آشور وشمورامات سيدة القصر امرأة شمشي أدد ملك بلاد آشور وأم ادد نيراري ملك بلاد آشور وزوجة إبن شلمنصر الثالث ملك الجهات الأربع ملك بلاد آشور..عندما طلب شوبيلوليوما ملك الكوموخيين من أدد نيراري وشمورامات سيدة القصر عبور الفرات، خضت معركة طاحنة معهم)..نجد ان المتحدث بصيغة الشخص الأول غير محدد، مع ذلك فمن المؤكد ان سميراميس قد خاضت المعركة الى جانب ابنها ويرجح انها هي من اقترح تعليم الحدود بين كوركوم وكموح لضمان عدم نشوب قتال بين المملكتين بعد عودتهما الى كالخو ونينوى..ويتمثل المنجز الآخر للملكة شمورامات في كالخو العاصمة العسكرية لملوك آشور فقد عثر على تمثال لنبو، ابن مردوخ وإله الكتبة وحارس الواح القدر، كرسه حاكم كالخو (بعل تراسي ايلوما) لملك بلاد آشور ادد نيراري ولشمورامات سيدة القصر ..ويتكرر التكريس نفسه في تمثال مماثل عثر عليه في آشور (قلعة الشرقاط)..يتضح من ورود اسم الملكة الى جانب اسم ابنها، وتلك ظاهرة فريدة إن لم تكن غريبة في التاريخ الآشوري، انها لعبت دورا بالغ الأهمية على عهد ابنها ادد نيراري الثالث إذ يعزا بناء معبد نبو 798 ق.م. في كالخو اليها..ولعل الأهتمام بنبو البابلي على عهد أدد نيراري الثالث اذ يظهر بصفته ربا للحكمة والكتابة والفنون، كونه يرمز الى الحياة الثقافية لبابل وريثة سومر ومهاد المعتقدات الدينية على خلاف آشور،وريثة اكد، المولعة بالحرب يعود الى توجيهاتها..ولعل في ختام الكتابة المدونة على تمثال نبو (على كل من يأتي فيما بعد ان يضع ثقته بنبو وان لايثق بأي إله آخر) مايشير الى تحول ايديولوجي في البلاط الاشوري انعكس على اربعة قرون من الأسترخاء النسبي في الإدارة الآشورية لم يبترها إلا مجيء تكلاثبليزرالثالث الذي اعاد الى الحرب عرباتها وانصالها وأولوياتها. وفي مطلع القرن الماضي عثر على صفين من المسلات بين السور الداخلي والسور الخارجي لمدينة آشور، تمثل المصفوفة الأولى موظفين آشوريين وتمثل المصفوفة الثانية ملوكا آشوريين وثلاث ملكات إحدها لشمورامات (سميراميس) ويبلغ طول مسلة شمورامات الرخامية ثلاثة امتار بيضية الشكل في اعلاها ومدون عليها في المسمارية النص الآتي: (صرح شمورامات، إمرأة قصر شمشي ادد، ملك الكون، ملك بلاد آشور، أم أدد نيراري، زوجة ابن شلمنصر ملك الجهات الأربع)، وعلى الرغم من عدم القاء مايكفي من الضوء في هذا النص على حياة سميراميس فأن مجرد وجود مسلتها الى جانب مسلات الملوك يؤكد انها لعبت دورا غير عادي في أثناء حياة ابنها ولربما زوجها ايضا ويبدو انها اسهمت في تثبيت السلطة الآشورية في سلالتها على الرغم من تنامي الدور السياسي لحاكم الغرب القوي قائد الجيش الآشوري شمشي - أيلو.
نقية - زكوتو:
نقية هو الأسم الآرامي لزكوتو الأسم الآشوري لها و يترجم اسم نقية بمعنى (النقاء)..ونقية اسم عربي ايضا مايزال يستخدم بالمعنى نفسه صفة ايجابية تطلق على اشياء عديدة ..كما يحمل الأسم الآشوري (زكوتو) المعنى نفسه اذ مايزال موجودا في التزكية وزكية وزاكي بمعنى طيب وطيبة والزكاة بمعنى صفوة الشيء ..ومهما يكن ألأسم، فما يهمنا في موضوعنا منه انه يؤكد ان نقية امرأة آرامية..تزوجها سنحاريب خلال ولايته للعهد وأنها لعبت دورا يرقى الى دور سميراميس في توجيه الحوادث في الأمبراطورية الآشورية..وفي شمالي نينوى او بالأحرى في شماليها الغربي حيث معبد نركال والى جانبه قصر ولي العهد في طربيشو (شريخان) وحيث كانت نقية تقيم مع زوجها سنحاريب على عهد ابيه سرجون الثاني، وربما في اثناء ولاية عهد ابنها أسرحدون قبل اغتيال سنحاريب ايضا..لأن الأرجح ان القصر منقطع النظير في الزاوية الجنوبية الغربية لتلقوينجق والمجاور لمجرى دجلة قديما حيث يمتد الشارع المؤدي لجامعة الموصل بعد جسر السويس حاليا، كانت تقيم فيه ضرتها زوجة سنحاريب الثانية (تاشميتوم شارات) بدليل نص سنحاريب: (ولزوجتي الملكة تاشميتوم شارات، زوجتي الحبيبة التي حبتها الآلهة بهيئة هي الأجمل بين النساء افردت قصرا بنيته من الحب والبهجة والمسرة، وبأرادة آشور سيد الآلهة والملكة عشتار عسى ان نعيش حياة طويلة في هذا القصر وننعم بالسعادة الكاملة)..غير ان لرياح التاريخ اتجاهات لاترومها إرادات الملوك، فقد عزل سنحاريب ابنه الأكبر (اردا موليسي) من زوجته تاشميتوم شارات عن ولاية العرش، ليعين بدلا منه ابنه الأصغر من نقية زكوتو اسرحدون، ويرسل الأخير الى المقاطعات الغربية لضمان سلامته. مما تسبب بغضب ولي العهد وثورته على ابيه واغتياله مع أخ (أخو- في الآشورية ايضا) له ابيهما سنحاريب في اثناء عبادته في معبد طربيشو..ويبدو أن نقية كانت قد صاحبت ابنها الى المقاطعات الغربية وربما تمكنت من تجنيد المساعدة له من اخواله الآراميين فعاد الى نينوى وتمكن من دحر التمرد واستلام السلطة على الأمبراطورية فهرب أردا موليسي الى اورارتا (أرمينيا) العدو التقليدي للأمبراطورية ألآشورية...وكان استلام اسرحدون لمقاليد السلطة بداية تحول كبير في اتجاه ما نتعارف على تسميته في العصر الحديث بالدولة البوليسية..فقد دشن حكمه بأعدام المتآمرين وخصومه السياسيين، وأعدم المسؤولين عن الأمن في نينوى وكالخو واستبدلهم بجهاز امني جديد..فقد بدأ اسرحدون حكمه بالشك وانعدام الثقة تماما حتى بأفراد اسرته، بما يمكن ان نطلق عليه بهاجس المؤامرة فكان يستخدم العرافين والكهنة بالتنبوء واخباره مسبقا بكل من يخفي نوايا لأيذائه او الأطاحة به حتى من بين اعضاء اسرته نفسها..وشجعه في ذلك حالته الصحية المتدهورة فقد اصيب بمرض عجز العرافون والكهنة وطردة الأرواح الشريرة عن علاجه او تشخيصه..وفي كل ذلك لم تكن امه نقية غائبة فبالأضافة الى دورها في تنصيبه وليا للعرش بدلا من اخيه الأكبر على رأي عالم الآشوريات (سيمو بارابولا)، كانت تتلقى الرسائل من القادة والموظفين ويرجح انها كانت ترد عليها وتوجه الأوامر للقادة بدلا من ابنها..كما كانت تدير الممتلكات الخاصة و تخصص الأموال لبناء المعابد والقصور وتشرف عليها، وبدهي انها ومنذ بداية حكم ابنها كانت تشارك في القرارات العسكرية فهي كما وصفها طارد الارواح (مردوخ شكين شومي): (إنها بأقتدار آدابا وكلمتها نهائية، فما تباركه مبارك وماتلعنه لعين)..ولعل غزو مصر وضمها الى الأمبراطورية، العمل الذي ينسب الى سميراميس، كان قام به اسرحدون بمشورة امه نقية، ولأسباب نجهلها. كما نجهل سبب حضوتها الكبيرة لدى سنحاريب الذي خصص لها بعيد تسمية اسرحدون وليا للعرش ارضا معفوة من الضريبة هي ارض مدينة شبو (ربما شبانيبا- تل بلو الكائنة مقابل بعشيقة) مسميا اياها بأمر التمليك (أم ولي العهد)، كما كان لها حصة من الإتاوات والذهب والثياب. وقد عثر على ختمين اسطوانيين في نينوى يمثلانها واقفة خلف الملك..كما عثر على منحوتة برونزية تمثلها واقفة وراء ابنها أسرحدون..كما توجد تماثيل لها في اماكن عامة في معبد نبو في كالخو وآخران في آشور وحران..وكان أحد اساليب تأكيد السلطة القيام بمشاريع بناء واسعة وتخليد اسم الملك والآلهة عليها بالكتابات النذورية والتاريخية، وهو امتياز يحتكره الملوك وحدهم، مما يجعل بناء نقية قصرا لأبنها (في ارض خالية من العاصمة السياسية نينوى وراء معبدي سين وشمش) عملا غير مسبوق في بلاد آشور بل وعلى غرار آشورناصربال الثاني، قامت بتقديم الأضاحي للآلهة واقامة المآدب احتفالا بأكماله. ولكنها على الرغم من تكريسها القصر لأبنها كانت هي من أقام فيه..
ولعل اهم منجزات نقية يكمن فيما نطلق عليه في الوقت الحاضر (صناعة الملوك) ليس بيولوجيا بل سياسيا: فقد تمكنت، على رأي العديد من البحاثة، من التأثير على سنحاريب بجعله يغير ولاية العرش من ابنه الأكبر الى ابنها اسرحدون، وعملت خلال سنوات حكم ابنها على استتباب الأمن في الأمبراطورية ..والأرجح ان السلام مع بابل واعادة أعمارها ثم عقد اتفاقية سلم مع عيلام كان بتدبير منها..وربما كان غزو مصر وضمها الى الأمبراطورية هو الآخر بتخطيط منها أيضا..وهنا نوظف علم الدلالة اللسانية مجددا فنقية آرامية وقد شهدت العقود الأخيرة من حياة الأمبراطورية الاشورية تداخلا حضاريا ولسانيا وسياسيا بين ألاراميين والآشوريين..وكانت خطوتها المهمة الثانية انها عملت مجددا على التدخل في ولاية العهد قبيل وفاة ابنها أسرحدون لتفادي تكرارحدوث العاصفة التي هزت اركان الأمبراطورية وتسببت بمقتل سنحاريب..فوضعت وثيقتها الشهيرة بأسمها الآشوري (وثيقة زكوتو) ونصت فيها على اقتسام الحكم بين حفيدها آشوربانيبال واخيه (شمش- شمو- كين) فخصصت الأمبراطورية بعاصمتها نينوى لآشوربانيبال وبابل لأخيه شمش شمو كين. ونلاحظ من نص المعاهدة أن المتعهد بصيانتها ليس الملك بل الملكة الأم (زكوتو لأن ام آشوربانيبال كانت قد ماتت منذ سنوات) وبنودها تنطبق على آشوربانيبال وحده بتسميته ملكا بينما لاتخاطب شمش شمو كين بالأسم نفسه وتضعه ضمن الأطراف التي فرضت عليها المعاهدة..ويبدو ان المعاهدة صيغت بعيد وصول انباء وفاة اسرحدون وانها نفذت في ليلة تتويج آشوربانيبال بعد شهر من وفاة ابيه..ويبدو أن نقية - زكوتو قد لعبت الدور نفسه الذي لعبته سميراميس قبلها..ولابد أن أضيف ايضا الى ماسبق أن تبدلا تدريجيا في هرمية الآلهة كان يحدث في القرن الأخير من عمر الأمبراطورية يماثل تغليب آشور على مردوخ على عهد شلمنصر الأول وتكلاثبليزر الأول، وهذه المرة بالتأكيد على سين المقيم في حران ..وهذا ما سنتابعه مع أدة كوبي الأميرة الآشورية وام نبونيداس.
أدة كوبي:
إن المتابع لحوادث هذه المرحلة من تاريخ العراق واعادة تمثيلها وتدوينها من خلال النشاط البحثي والتأويلي، سيكتشف محاولات المؤرخين المعاصرين اليهود ولأسباب آيديولوجية التأكيد على دور إسرائيل وملوكها الأفتراضيين في توجيه الحوادث اوعزو الأنجازات في الشرق الأدنى القديم..ومن ذلك توشيج التاريخ الديني والأسطوري بالتاريخ الفعلي الموثق بالشواهد النصية والآركيولوجية، او بطرح تأويلات افتراضية ولسانية في اغلبها بهدف تصوير خارطة العالم القديم على نحو ينسجم مع نظرية القبائل اليهودية في الأناضول وشمالي العراق وسورية على انهم اسرى هجرهم (بتشديد الجيم) الاشوريون الى تلك المناطق، بهدف التمويه الأثني، او بطريق استخدام عبارات الترجيح فيما يتعلق بالتوسع الآشوري في قلب الأناضول وزاكروس والساحل الفينيقي ووصف التحالفات ونتائج المجابهات العسكرية بين الآشوريين وخصومهم..وقد يلجأ هؤلاء المؤرخون الى مقارنة عمارة معبد كمعبد عين دارة ببناية في القدس تعزى الى انبياء اسرائيل بهدف توصيل نفوذ دولتهم شمالا او شرقا او الى افتراض اسماء آرامية بأنها اسماء عبرية كنقية مثلا، وهم في كل هذه المحاولات يعملون جاهدين لمد جذورهم في تراب تاريخنا..ومنهم من يعمد الى تمويه التاريخ الحضاري بزجه بالتاريخ السياسي فيضع فواصل بين الأكديين والآشوريين والبابليين والعرب باعتبارهم حضارات مختلفة وليسوا أمما ودولا تنتسب لحضارة واحدة، على ذلك ارى ان أدة كوبي تقدم نموذجا فريدا للوحدة الحضارية في وادي الرافدين..وأدة كوبي أميرة آشورية زوجها امير بابلي مرموق تميز على عهد نبوخذنصر الثاني اسمه نبو بلاستو اقبي ( وربما تلفظ أخبي اوأكبي) كان والده نبوبلات اقبي حاكما على حران وامه (شوما دامقا) كاهنة رئيسة في الدولة الآشورية..عاصرت عددا من الملوك الآشوريين والملوك الكلديين وآخرهم ابنها نبونيداس الذي تزوج ابنة نبوخذنصرالثاني من زوجته الميدية..مما يسر له تسنم العرش البابلي..ولابد لأستبار دور أدة كوبي من تتبع التحول في آيديولوجية الدولة الكلدية ومتابعة هذا التحول خلال العقود الأخيرة من عمر الأمبراطورية الآشورية..وقد تمثل هذا التغيير بالأنتقال التدريجي من عبادة مردوخ ومركزية آشور الى عبادات أور وسومر القديمة التي تتمحور على آلهة القمر (سين) ونوسكو وربة الخصب والمرأة والقتال عشتار. وهو تحول صاحبه تدريجيا محاولة الكلديين التخلص من النفوذ الميدي، واحياء التطلعات السيادية للآشوريين كم يتجلى ذلك في نبوخذنصر الثاني ونبونيداس..ويبدو ان النبلاء ورجال الدين الآشوريين والموظفين الآراميين استمروا في مراكزهم وبخاصة في الأناضول والغرب على الرغم من المجازر التي اصابت عواصم القلب الآشوري..وفي رأيي أن أنشقاقا سياسيا صاحب التوجهات الدينية لحكام بابل (الآشوريين) من جهة الأم على الأقل فبينما استمرت عبادة مردوخ، انصرف نبونيداس كليا لعبادة القمر بل هجر بابل للأقامة في قلب الصحراء العربية..واصبح الهلال رمز الإله سين والنجمة رمز الربة عشتار من اكثر الرموز الدينية اهمية لنيبونيداس.. ومانزال نشاهد في اعلام المشرق الأسلامي العربي هذين الرمزين القديمين منذ العصورالغابرة راكنين تحت تكدسات هائلة من اللاوعي السياسي والحضاري في الذات العربية في الوقت الحاضر..والمهم بعد هذا الأستطراد، الذي لايخلو من صلة بموضوعنا، ان أدة كوبي فسرت سقوط نينوى وبعدها حران والخرائب التي حلت في وادي الرافدين بغضب الإله سين، ومغادرته الأرض الى مكان آخر..وهي بصفتها الكاهنة الرئيسة في حران، عملت على التضرع لسين وتقديم النذور والأنقطاع الى العبادة لأرجاع بلاد الرافدين الى سابق عهدها..وكانت الكاهنة قد سجلت الحوادث التي عصفت ببلاد الرافدين منذ عهد آشوربانيبال وحتى وفاتها على عهد ابنها نبونيداس آخر الملوك الكلديين على اربع مسلات كتب أحدها ابنها بعد وفاتها ووضعت كل واحدة في ركن من أركان المعبد الأربعة. وتخبرنا أدة كوبي عن رحيل سين غاضبا بسبب تدمير نينوى فيما يخبرنا ابنها عن عودته مع عودة السومريين والأكديين من خلال احفادهم الآشوريين من ذوي الشعر الأسود الى السلطة في بابل. وبحس نافذ بالتاريخ تخبرنا أدة كوبي عن ابرز الحوادث التي عاشتها فقد ولدت في السنة العشرين من حكم آشوربانيبال، اي عام 649 ق.م. وتؤكد انها عاصرت ملوكا آشوريين وبابليين ..وقد وجد البحاثة تطابقا بين التواريخ التي ذكرتها والحوادث التاريخية الفعلية ..إذ جاء في مسلتها نصا: (وفي السنة السادسة عشرة لحكم نبوبلاصر، ملك بابل، عندما غضب سين سيد الألهة على مدينته ومعبده وغادرهما الى السماء فحل في المدينة الخراب وهلك اهلها)، وكان بنوبلاصر قد حكم بابل بين عامي 625 ق.م. و605 ق.م. وكان سقوط حران وتخريبها عام 609 ق.م. أي في السنة السادسة عشرة لحكمه..وحران هي آخر معاقل الآشوريين التي لجأ اليها آشوراوباليت الثاني بعد سقوط نينوى عام 612 ق.م. وبينما غادر الجميع المدينة بقيت أدة كوبي بالقرب من معبدها المهجور متضرعة الى الإله حتى عثرت على مئزر ارجواني موشى بالذهب منذور له بين الأنقاض فأمسكت بأطرافه، وكأن الإله متجسما فيه يصغي الى تضرعاتها راكعة تضخ الدمع على مالحق بلاد الرافدين من خراب: (أن انت قررت العودة الى مدينتك، فأن الناس من ذوي الشعور السوداء كلهم سيعبدوك) ..وتلكم صفة يستخدمها السومريون في نعت أنفسهم..غير ان أستخدام ادة كوبي لهذه العبارة بعد 1500 سنة من زوال الوجود السياسي للسومريين يعني انها تتحدث عن احفادهم من الأكديين والآشوريين، بمعنى عودة السلطة الشرعية الى اهلها ممثلا لها بأبنها نبونيداس الذي وحد بلاد مابين النهرين تحت إرادة سياسية واحدة عام 555 ق.م. ..حيث تمضي ادة كوبي في نصها:
(سين سيد الآلهة، نظر بعطف الى تضرعاتي فدعى إبني الوحيد نبونيداس.. فلذة رحمي الى الملوكية على سومر وأكد، وعلى الأراضي كلها من حدود مصر ومن البحر الأعلى الى البحر الأدنى، ووضع ثقته بأدارتها في يديه).. وبهذا يفسر انتصار نبونيداس على انه أنتصار للإله الآشوري سين على الإله البابلي مردوخ، مما اغضب الكهنة في بابل وحفزهم للثورة على نبونيداس ثم للتآمر مع قورش لأسقاط بابل هذه المرة..نستدل من هذه الحوادث بين حران وبابل والصراع بين الكهنة ونيبونيداس بسبب معتقداته الدينية الغريبة الى ان السياسة والدين ماهما سوى وجهين لعملة واحدة..فنبونيداس كان يتصرف وفق ماتملي عليه رؤياه التي كان يتصورها رسائل من الآلهة ولعله للسبب نفسه غادر بابل الى الصحراء العربية وكأنه ابراهيم (ع) في بحثه عن إله واحد احد هو غير سين ومردوخ..ولعل من غرائب الصدف أن يكون القمر معبود ادة كوبي ونيبونيداس، كوكبا للشعراء والحالمين ورمزا للحضارة العربية وللزمن العربي..
وقد ماتت أدة كوبي عن عمر يناهز ال 104 عام في السنة التاسعة لحكم ابنها..وقد وصف ابنها نبونيداس في مسلته في حران وفاتها في 546 ق.م.: ( حملها قدرها فدفن نبونيداس ابنها ووليد رحمها جثمانها موشاة بثياب ملكية من الكتان الأبيض الطاهر..وزينها بالحلي الرائعة من الذهب المطعم بالحجارة الكريمة..وبالزيوت العطرة كسى جسمها ووضعها في مقرها الأبدي في مكان سري..وذاع نعي ام الملك فقد قدم الناس من بابل وبورسيبا من الأصقاع البعيدة، وقدم الملوك والأمراء والحكام من تخوم مصر ومن البحر الأعلى وحتى البحر الأدنى ينوحون ويبكون الملكة، واستمر العويل والنواح ..سبعة ايام)..
نخلص من ذلك الى ان المرأة الرافدية قد لعبت دورا في تاريخ العراق القديم..وإني في تناولي لثلاث ملكات وكاهنة مجتهدا هنا ومترجما هناك ومغامرا هنا وهناك، أكون قد اخذت نموذجا جاد علينا به التاريخ حتى لحظة كتابة هذه السطور..لأن ما تم استظهاره على حد تعبير الدكتور طارق مظلوم والحديث عن تلقوينجق (لايعدو ان يكون سوى وخزات ابرة في عملاق راقد)..مع ذلك فثمة نساء كثيرات عشن في البلاط الآشوري الحديث ولعبن أدوارا تتراوح بتأثيرها وقوتها ومن خلال أزواجهن أو آبائهن أو اشقائهن الملوك كما لمحت لنا المقبرة الملكية في النمرود..
ومن ابرز تلك النساء (موليسوموكانيشات نينوا) زوجة آشورناصربال الثاني
و(يابا) زوجة تكلاثبليزر الثالث،
و(تاليا) زوجة سرجون الثاني،
و(أيشارا حمات) زوجة اسرحدون،
و(شادوتو) شقيقته،
و(ليبالي شارات) زوجة آشوربانيبال..
وغيرهن ممن وهبن العراق ميتات، كنوزا منقطعة النظير تعكس تطور الذائقة الفنية لأسلافنا وقوتهم وثروتهم منذ آلاف السنوات، ووهبنه حيّات، نموذجا للمرأة العراقية في صورة عشتار وهي تقود عربة تجرها الأسود تنطلق في تحد صارخ للموت اما واختا وابنة وزوجة وروحا خالقة...