فلسفة الإيمان عند الشيخ مرتضى مطهَّري قدِّس سرُّه
إنَّ نقل الفكر من مستواه التراثيِّ المحكوم بقطيعةٍ معرفيةٍ تُعدُّ بالقرون لا يمكن النظر إليه على أنه يشكِّل مهمَّةً بسيطةً في كلِّ الأحوال، ناهيك عن أن تكون المهمَّة هي الإرتقاء بهذا الفكر المحكوم بتلك القطيعة إلى مستوى السجال المتفوِّق مع كافَّة الأطروحات الفلسفية والمعرفية التي نهضت على أساس هذا التراكم اللاإعتياديِّ خلال قرون الإستنارة في العالم الغربيّ، فإذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية اتَّضحت لنا الأهمية الإستثنائية لفيلسوفٍ من هذا الطراز، وبات من السهل علينا تقدير الجهود العلمية العبقرية التي بذلها في حياته، إذ كان الشطر الأكبر منها حافلاً بالعطاء الفكريِّ المتميِّز على صعيد العلوم الإنسانية والفلسفية التي لها مساسٌ أكيدٌ بقضية الصراع الحضاريِّ بين منظومتي الإيمان والإلحاد.
ما زال العديد من المفكِّرين يعتقدون أنَّ العقيدة والفلسفة لا يمكن أن يقفا على أرض مشتركةٍ على الإطلاق، والغريب أنَّ عدداً هائلاً من المتديِّنين أنفسهم يشاركونهم هذا الإعتقاد بالكلية، حتى من دون تفصيلٍ يشير إلى تلك المناطق التي تقف الفلسفة عاجزةً عن الولوج إليها، إو إبداء الرأي حولها، فتكون النتيجة إضعاف موقف العقيدة الدينية ذاتها، وجعلها تبدو كما لو أنها خارج مساحة التبرير العقليِّ أو الفلسفيّ، الأمر الذي يعني أنَّ العقول الفلسفية لا تخضع لخطاب الإيمان إلا في حالة التخلِّي عن الملكة الفلسفية، وفي هذا ما فيه من جوانب الإساءة إلى العقيدة، حتى لو لم يقصد أولئك المتديِّنون أن يلحقوا بالعقيدة الدينية هذه الإساءة.
لقد نهض مطهَّري جنباً إلى جنبٍ مع مفكرين كبارٍ في العالم الإسلاميِّ بمهمَّة عقلنة التراث الدينيّ، أو قل تثوير الجانب العقلانيّ في الدين، ولم يكن عمله مقتصراً على هذا الجانب فقط، بل شمل الجانب المقابل أيضاً، حيث أنه ساهم مساهمةً فاعلةً في تثوير المعطى الإيمانيِّ في العقل نفسه، وبرهن بشكلٍ عمليٍّ على أنَّ العقل والإيمان لا يمكن أن يتقاطعا، من دون أن يعني هذا أنَّ العقل لا يمكن استغلاله في الترويج لفلسفة الإلحاد طبعاً، وذلك في الحالة التي يشاء العقل أن يتحوَّل إلى مجرَّد أداةٍ لتبرير الغرائز والميول والنزعات الشريرة على وجه العموم لدى مستخدمي عقولهم في سبيل هذا التبرير.
أن يكون المرء ملحداً، فعليه أن يتنازل عن إنسانيته على الأقلّ، ليكون مجرَّداً عن العقل والخبرة البشرية الطويلة التي تتوغَّل بعيداً في التأريخ، أي أنَّ عليه أن يتنازل عن جملةٍ من الأمور التي بمقتضاها سيتوصَّل عبر السبل المنطقية للإستنتاج إلى الإيمان بأنَّ للكون خالقاً متصفاً بكلِّ صفات الكمال من العلم والقدرة والغنى والإرادة إلخ، ومنها:
أوَّلاً:
عليه أن يتخلّى عن ذاكرته، فلا يشارك البشر الآخرين بهذه الحصيلة الفلسفية والمعرفية المتراكمة منذ عرف الإنسان فنَّ الكتابة حتى الآن، لأنَّ هذا التأريخ كلَّه مشحونٌ من رأسه حتى أخمص القدمين بالنتاجات الفكرية والفلسفية - فضلاً عن النصوص الإلهية المقدَّسة وكلمات الأنبياء، التي تضمَّنت تأمُّلات الفلاسفة والأدباء والحكماء إلخ، بحيث أنَّ الإجماع كان منعقداً بينهم على عدم إمكان تعقُّل الكون بدون افتراض وجود الإله الخالق والمدبِّر والعالم والقدير.
وقد يقال: إنَّ كثرة المجهولات في المجال الحسيّ والتجريبيّ عند الأجيال البشرية السابقة جعل هذا العدد الكبير من الفلاسفة والشعراء والحكماء، بالإضافة إلى الأنبياء يستشعرون الحاجة إلى افتراض وجود الله، أما الآن فلم نعد بحاجةٍ إلى هذا الإفتراض، لأنَّ العلم الحديث استطاع أن يحلَّ الكثير الكثير من الألغاز التي حيَّرت ألباب البشر السابقين، وما كان حتى الآن لغزاً يمكن للعلم الحديث نفسه أن يقوم بتحويله إلى شيءٍ معروفٍ ومألوفٍ في الفترات الزمنية اللاحقة، فالمهمُّ هو أنَّ الإنسان المعاصر يمتلك ثقةً لانهائيةً بقدرة العلم على كشف الأسرار، ولم تكن مثل هذه الثقة موجودةً عند السابقين بطبيعة الحال.
الجواب: لا تتعلَّق المسـألة بالجانب الحسيّ أو التجريبيّ من الأساس، فحتى لو كشف العلم الحديث الأسرار كافَّةً، ولم يعد هناك شيءٌ ما خافياً على الإنسان، فإنَّ مسألة الإيمان بالله تبقى مسألةً قيد البحث، إذ من الواضح أنَّ السابقين كلَّهم سواءٌ كانوا من الأنبياء والفلاسفة أم من غيرهم لم يكن مستند بحثهم وبراهينهم على وجود الله سبحانه هو أنَّ الإنسان لم يحط علماً بأسرار الموجودات، وإلا لما كانت أدلَّتهم وبراهينهم تستند إلى ما هو معلومٌ من الأسرار المتعلِّقة بالإنسان والطبيعة، وليس إلى المجهول، فهناك عددٌ هائلٌ من الآيات في القرآن على سبيل المثال تشير إلى عظمة الله بالإستناد إلى هذه الأشياء المعلومة للبشر، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر الآيات القرآنية التالية:
1- قوله عزَّ وجلّ: "وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(سورة الأنعام. الآية 99.).
2- قوله عزَّ وجلّ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(141)وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(سورة الأنعام. 142)
3- قوله عزَّ وجلّ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(3)وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(سورة الرعد. 4).
إنَّ القرآن مشحونٌ بأمثال هذه المضامين التي تشير إلى ما هو معلومٌ عند الناس ومعروفٌ ولو معرفةً إجماليةً، وهو يتخذ من معرفتهم بها نفسها منبِّهاً لهم على ضرورة الإلتفات إلى وجود الخالق سبحانه، ولم يأت الأنبياء فيما صحَّ من النقل عنهم بالبراهين التي تستند إلى الأدلَّة الخرافية المختلقة، حيث يكون الإستناد فيها إلى ما يغلِّف العقل البشريَّ فيها من الجهل وعدم المعرفة. لكنَّ الشبهة تأتي من جهة أنَّ الباحثين المعاصرين قد اطلعوا على عددٍ من عقائد الناس الخرافية، وهؤلاء متدينون قطعاً، كأن يقولوا مثلاً إنَّ هناك ملائكةً رئيسيين يحثون الملائكة الثانويين بالسياط في أوان المطر كي يصبوا الماء من القرب على أهل الأرض، أو أنهم قرأوا في بعض الكتب الحديثية أو في التفاسير بعض الأحاديث والتأويلات الشاذَّة فصاروا يعللون التديُّن جملةً وتفصيلاً بهذه النتائج التي استخلصوها بالإسلوب الإستقرائيّ الناقص من أمثال هذه العقائد الشعبية، أو الروايات والتأويلات الشاذَّة في بعض المدوَّنات الدينية داخل حقل الحديث أو التفسير وما إلى ذلك.
ثانياً:
عليه أن يتخلّى عن الأسلوب المنطقيّ في التفكير، فيعلن براءته من هذه القدرة الموجودة في العقل البشريّ على الإستنباط والإستنتاج وتتبع الجزئيات وصولاً بها عبر العمليات المنطقية والعقلية إلى تكوين الأحكام الكلية والعامَّة، فإذا أصرَّ على أن يكون منطقياً في تفكيره بهذا المستوى، وأصرَّ في عين الوقت على الإلحاد، كان مكابراً ومغالطاً إلى أبعد حدّ، لأنَّ كلَّ المعطيات العلمية تشير إلى أنَّ السبب الرئيسيَّ في الإلحاد إنما هو وجود بعض الخطوات العقلية الخاطئة أثناء المسيرة الإستدلال العقليّ والمنطقيّ، وإنَّ اكتشاف ذلك الجزء الخاطئ في المركَّب العقليِّ لا بدَّ أن يجعل النهاية المنطقية للمسيرة العقلية هو الإيمان بوجود إلهٍ متَّصفٍ بصفات الكمال كلِّها لهذا الكون، وهو ما يتَّضح من القول المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنَّه واحدُ
ثالثاً:
إنَّ هناك مغالطةً أشار إليها الأستاذ باسم الماضي الحسناويّ في كتابه ((إشكالية المثقف الدينيّ بين سندان التقليد ومطرقة الحداثة))، وهي أنَّ عدداً كبيراً من الباحثين يشيرون في مقام برهنتهم على وهم العلاقة بين الجانب الأخلاقيِّ والجانب الدينيِّ في الشخصية الفردية أو في الشخصية الإجتماعية على السواء، إلى أنَّ من الممكن أن يتَّصف الأفراد أو المجتمعات بالأخلاق الفاضلة من دون الإستناد إلى البعد الدينيِّ في ذلك، وقد أجاب هناك بعدَّة أجوبةٍ تفصيليةٍ، ويمكن الإشارة إليها بالتالي:
أوَّلاً: نعم، إنَّ من الممكن اتصاف أحد الأفراد أو أحد المجتمعات بهذه الأخلاق الفاضلة، حتى لو فرضنا عدم وجود المستند الإيمانيِّ أو الدينيِّ لذلك، ولكنَّ المستوى المدنيَّ أو القانونيَّ أو الأخلاقيَّ أو الحضاريَّ بشكلٍ عامٍّ ليس وليد اللحظة الراهنة قطعاً، بل هو نتيجةٌ طبيعيةٌ للتراكم المعرفيِّ والثقافيّ والفلسفيّ للمجتمعات البشرية كلها، ومن ذا الذي يستطيع أن يؤكِّد عدم تأثر تلك الفلسفات والحضارات البشرية بتراث الأديان السماوية المتنوِّعة، بل إنَّ مظاهر تأثرها بالأديان وتعاليم الأنبياء مما لا شكَّ فيه بناءً على كلِّ الدراسات التأريخية والأنثروبولوجية، ولهذا فإننا نستطيع أن نجزم بأنَّ ما لدى المجتمعات العلمانية اليوم من مظاهر التكامل الحضاريِّ في مجال القانون أو الأخلاق أو الفلسفة هو امتدادٌ طبيعيٌّ لتعاليم الديانات السماوية، حتى وإن اختفى هذا التأثير والتأثر من الذاكرة البشرية اليوم، إلا أنه موجودٌ بشكلٍ مؤكَّدٍ على أية حال.
ثانياً: أحياناً تكون المنظومة القانونية عالية المستوى في مجتمعٍ من المجتمعات العلمانية، إلا أنَّ مستوى التلاحم بين المواطنين وبين القانون ليس عالياً، أي أنَّ الإنسان يجد نفسه ملزماً من الناحية القانونية فقط بالإلتزام بتلك الأخلاق، أما لو خُلِّيَ ونفسه فإنه يخالف كلَّ تلك المضامين الأخلاقية من دون أن يشعر بتأنيب الضمير، لأنه فاقدٌ لذلك المرتكز العقائديِّ الهامِّ لتبرير الإلتزام الطوعيِّ بتلك الأخلاق.
ثالثاً: ما أشار إليه جمعٌ من المفكرين الإسلاميين كمطهري والسيد محمد باقر الصدر من أنَّ الإنسان مفطورٌ على حبِّ الذات، وهو بحاجةٍ لكي ينكر ذاته ويتخلى عن النوازع الأنانية الضيقة إلى الشعور المؤكَّد لديه بأنه سوف يحصل على التعويض المناسب في العالم الآخر عن تضحياته في هذا العالم، وعلى هذا الأساس فإنَّ الأخلاق العلمانية لا يمكن أن توفِّر هذه الضمانة للأفراد والمجتمعات بأنهم سوف يحصلون على هذا التعويض، فتكون النتيجة أنَّ هذه الأخلاق إما أن تكون نخبويةً موجودةً لدى الأفراد القلائل، وإما أنها لا يمكن أن توفر لدى الإنسان الدافعية المطلوبة لانتشار تلك الأخلاق ووجودها بشكلٍ فاعلٍ وراسخٍ في المجتمع.
شقاء الحضارة
متى تسبّب الحضارة الشقاء للإنسان بدلاً من أن تكون مصدراً من مصادر سعادته القصوى؟
لا شكَّ أنَّ الإنسان كائنٌ ساعٍ دائماً إلى خلق الحضارة الأرقى، ولا يمكن مجرَّد التفكير بأنَّ الإنسان سوف يتراجع إلى الوراء على مستوى الحضارة، لكنَّ هذا لا يعني أنَّ الحضارة أية حضارةٍ لا بدَّ أن تستبطن أسباب السعادة كلّها للإنسان، فلا ملازمة بين المسألتين، إذ من الممكن أن تكون حضارةٌ ما في مستوىً راقٍ من الوجود، وتستبطن الكثير من أسباب الشقاء في ذات الوقت.
خذ مثلاً حضارتنا الحالية، فليس من الصحيح صياغة الإشكالية بالطريقة التي يرتأيها العديد من الباحثين اليوم، إذ يقولون إنَّ الحضارة الحالية كلٌّ واحدٌ ولا يمكن تجزئتها أو اقتراح الإصلاحات لبعض مكوِّناتها، فإما أن نقبلها جميعاً أو نرفضها جميعاً، ولا يمكن اقتراح سبيلٍ ثالثٍ بين ذينك السبيلين.
كلا، إنَّ هذه الصياغة ليست صحيحةً أبداً، فأنا لا أفهم أية مفارقةٍ أو مناقضةٍ في أن يتقبَّل الإنسان الحضارة ويعترف بقيمتها العالية، ويعتقد أنَّ فيها جوانب مهمَّةً من النقص لا بدَّ من تلافيها وإصلاحها في نفس الوقت. فإنَّ هذا من طبيعة الأشياء ومن طبيعة التفكير، ولا يعترض على مثل هذا الأسلوب من المقاربة الموضوعية للحضارة إلا مغالط.
إنَّ مشكلة الحضارة الحالية أنها إذ كانت باعتراف الجميع اليوم أكبر منجزٍ للعقل البشريِّ في جميع أطوار التأريخ البشريّ، استكبرت ومارست الغرور ولم تعد تتقبَّل النقد أو مراجعة بعض الأسس الفكرية والفلسفية الخاطئة، ولو أنها رضيت بأن تفعل ذلك لارتقت إلى مستوياتٍ أعلى، ولتخلَّصت من الآثار السلبية الكارثية التي تجعلها تبدو للناس في بعض الأحيان كما لو أنها أكبر كارثةٍ حلَّت بالبشرية، مع أنها أزالت عدداً لا يُعدُّ ولا يُحدُّ من الصعوبات التي كانت تسبِّب المتاعب للإنسان، ومع أنها كادت تجعل من كلِّ شيءٍ كان يبدو للناس من قبل مستحيلاً شيئاً واقعياً أو شيئاً في غاية الإمكان.
مشكلة الحضارة الحالية
تخبَّطت الحضارة الحالية عبر مسيرتها التأريخية الطويلة فأنكرت قيمة كلِّ ما هو ليس مادياً في البدء، ثمَّ تدرَّجت فأعطت للفنِّ والأدب والفلسفة معنى خاصاً وقيمةً أقلَّ من القيمة التي منحتها للمنجزات ذات البعد الماديِّ الخالص، ثمَّ خطت خطوتها الأخرى، فزعمت أنها تصالح الأديان وتجلِّيات الإيمان، فعاملت الكتب المقدَّسة وتراث الأنبياء وكلَّ ما هو منتمٍ إلى الدائرة الدينية على أساس أنه ذو قيمةٍ فقط بالنظر إلى كونه يمثِّل طوراً من أطوار التفكير البشريِّ في المرحلة التي سبقت الطور العلميَّ الخالص الذي تعيشه الحضارة الغربية اليوم، أو أنها ذو قيمةٍ فقط من الناحية الفنية، أي أنها عوملت كما لو أنها جزءٌ لا يتجزَّأ من التراث الأسطوريِّ للبشرية، فلا فرق في عرف هذه الحضارة بين ملحمة ((هوميروس)) مثلاً وبين الكتب المقدَّسة جميعها، بما فيها الإنجيل والتوراة والقرآن طبعاً، كما لا فرق بين الكوميديا الإلهية ((لدانتي)) وبين أيِّ كتابٍ يجمع في دفَّتيه كلمات الأنبياء أو حتى كلام الله عزَّ وجلّ، فخطت الحضارة خطوةً جبارةً في طريق تمييع التعاليم الإلهية وتفريغها من المضمون الإلهيِّ المقدَّس.
لقد كان لمبدأ اللذَّة والمنفعة حضورٌ قويٌّ في فلسفة الحضارة الحالية، فليس للذَّة فلسفةٌ بعيدةٌ تأخذ في نظر الإعتبار نتائجها السلبية والإيجابية على المدى الإجتماعيِّ العامِّ أو على المدى البعيد بالنسبة إلى الفرد حتى، بل المهمُّ أن يشعر المرء باللذَّة القريبة من السلوك المعيَّن حتى وإن كان شاذّاً ومنحرفاً، لكي يكون مستساغاً وجيِّداً في عرف هذا الشخص، ويكون مقبولاً ومبرَّراً من الناحية الإجتماعية والقانونية أيضاً، فإذا سألت: ما هو المبرِّر العقلائيُّ الذي على أساسه أقررتم هذا التصرُّف الشاذّ واعتبرتموه قانونياً وشرعياً، أجابوا: بأنَّ هذا التصرُّف الشاذّ ليس شاذّاً لأنه منبعٌ للذَّة القريبة، وهذا هو الميزان الذي نرجِّح فيه الأعمال، ولا عبرة بالتحليلات العميقة أو البعيدة التي تبيِّن مضارَّ هذا التصرُّف على الشخص أو على المجتمع، ولهذا فإنَّ تصرُّفات شاذَّةً من مثل الزنى والمثلية الجنسية وشرب الخمر وما إلى ذلك من الأعمال التي تعدُّها الأديان من الموبقات لا تُعدُّ كذلك في عرف الحضارة الغربية اليوم، بل الغريب أنَّ المنظَّمات الحقوقية الدولية تطالب بأن تحمي الدول في دساتيرها ما تعتبره حقوقاً لأصحاب هذه الرذائل والموبقات.
هل يمكن اختزال الحاجات الأساسية لإنسان الحضارة بأن يحصل على ملذاته المادية إلى أقصاها، بشرط أن يتجاهل حاجاته الروحية والمعنوية التي لا يقوم بتلبيتها إلا الدين، ولا يمكن للشعر أو الفنِّ أو أيِّ شيءٍ من هذا القبيل التعويض عنه في هذا المجال.
إنَّ الميزة الأساسية للإنسان هو أنه (( بعيد الهدف إلى حدّ بحيث تكون قيمة عقيدته وهدفه فوق كلِّ القيم الأخرى، وتكون راحة الناس وخدمتهم أهمَّ من راحته هو. فالشوكة التي تدخل في قدم الآخر كأنها في قدمه، بل كأنها في عينه، يواسي الآخرين بآلامهم، فهو متعلِّقٌٌ بعقيدته وهدفه المقدَّس إلى حدّ أنه يضحي بمصالحه بل بحياته ووجوده من أجلها بكلِّ بساطة)) .
ولهذا فإنَّ مفهوم الحضارة متشعِّبٌ جداً، ولا يمكن اختزاله إلى معنى انتشار التقنية الراقية أو التكنلوجيا العالية في أيِّ حالٍ من الأحوال، بل إنَّ البعد التقنيَّ والتكنلوجيَّ ذاته يتحوَّل إلى شقاءٍ محضٍ ما لم يتمَّ ترشيده بتلك الأبعاد المعنوية والأخلاقية والدينية التي أجمعت البشرية على احترامها، كما هو حاصلٌ فعلاً في العصر الحاليّ، فلو أنَّ هذا المستوى الحضاريَّ العالي في المجال التقنيِّ والتكنلوجيِّ خضع إلى تلك المعايير الإنسانية والدينية التي تنظِّم مسألة الإستفادة منها لكانت البشرية اليوم في أرقى مستويات سعادتها على الإطلاق، ((فالناحية الإنسانية في المدنية البشرية التي تعتبر روح المدنية هي وليدة مثل هذه الأحاسيس والمتطلبات البشرية)). التي هي من وحي الدين بالدرجة الأولى طبعاً.
وليس من الصحيح كما أشرنا في كلامٍ آنفٍ أن نقول إنَّ تلك الأخلاق السامية من الممكن أن توجد وتنتشر من دون إسنادٍ من الدين، فإنَّ هذا إن صحَّ فإنه يمكن أن يصحَّ على نطاقٍ ضيِّقٍ جداً، ولا يمكن بناء مجتمعٍ معنويٍّ أو روحيٍّ أو أخلاقيٍّ على أساسه، ((وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ نزعات الإنسان السامية المعنوية واللاحيوانية عندما تجد قاعدةً وأساساً عقائدياً وفكرياً تتخذ لنفسها اسم "الإيمان" .
المشكلة أنَّ هناك في أوساطنا الإسلامية اليوم من ينادي بضرورة التركيز على الفلسفة المادية في كلِّ ما ننتجه في مجال الإبداع الثقافيِّ والمعرفيِّ والفلسفيّ، اقتداءً بالغرب، لكي نتمكَّن برأيهم من تجاوز مظاهر تخلُّفنا في المجالات التقنية والتكنلوجية، وأستغرب فعلاً من تفكير هؤلاء، لأنهم يتجاهلون قضيةً هامَّةً للغاية، وهي أنَّ عدداً كبيراً من فلاسفة الغرب اليوم ضائقون ذرعاً بهذا المرض الماحق الذي ابتُليت به الثقافة الغربية، فهم يدعون إلى نقد تلك الأسس النظرية والفلسفية التي قامت عليها فلسفاتهم ونظرياتهم في مجال العلوم الإنسانية على وجه التحديد، وليس السبب في وجود ذلك الخلل الكبير في البنية العامَّة للثقافة الغربية إلا سيادة النظرة المادية وهيمنتها على الرؤية العامَّة للحياة والمجتمع والدين إلخ، ثمَّ يأتي هؤلاء الباحثون المتغرِّبون ليأمرونا بأن ننسلخ من كلِّ ما هو روحيٌّ أو دينيٌّ لصالح تلك النظرة، أليست هذه مفارقةً كبيرةً من الأحرى بنا أن نتنبَّه إليها في هذا الظرف الصعب الذي يكتنف مجتمعاتنا الإسلامية في عصر الهيمنة الأمريكية والغربية عليها مع شديد الأسف.
إنَّ العالم اليوم مهتمٌّ جداً بفلسفة حقوق الإنسان على سبيل المثال، ولكن قل لي بربِّك، هل استطاعت كلُّ منظَّمات حقوق الإنسان في العالم أن توقف هذا المدَّ الجارف الذي يستهين بحقوق الإنسان على مستوى سياسات الدول التي باتت تغزو الدول الآمنة باسم الدفاع عن هذه الحقوق ذاتها، في حين أنها تنتهك هذه الحقوق في كلِّ آنات وجودها أشدَّ الإنتهاك.
لقد كان مطهَّري محقّاً إذ أشار إلى بشاعة النظرة المادِّية إذ تتأسَّس عليها فلسفات البشرية اليوم ((فوفقاً لهذه النظرة لم تنكر أصالة النزعات الإنسانية من النزعة الخيرية، ونزعة الجمال، والنزعة الإلهية فحسب، بل تنكر أيضا أصالة النزعة الواقعية من نظر الإنسان حول العالم والواقع، لأنَّ أيَّة نظرةٍ لا يمكن أن تكون نظرةً مجرَّدةً فقط، وحياديةً، فإنَّ كلَّ نظرةٍ تعكس نزعةً ماديةً خاصةً، ولا يمكن أن تكون غير هذا.
والغريب أنَّ بعض المدارس التي تعكس مثل هذا الرأي هي بنفس الوقت تهتف بالإنسانية، وأصالة الإنسان!)) .
الإنسان المستقبليّ للحضارة
أشار مطهَّري إلى حقيقةٍ مفادها ((أنَّ البشر في مجموع حركاته يتقدَّم إلى الأمام من الناحية المادية والناحية المعنوية، ولم تكن حركة البشر التكاملية من الناحية المعنوية حركةً واحدةً على خطٍّ مستقيم، إنها حركةٌ تنحرف تارةً إلى اليمين وتارةً إلى اليسار، ولها وقفةٌ ورجوعٌ أحياناً، ولكنها في مجموعها حركةٌ متقدمةٌ وتكامليةٌ، ولهذا نقول: إنَّ إنسان المستقبل حيوانٌ ثقافيٌّ لا حيوانٌ اقتصاديّ، إنسان المستقبل إنسان عقيدةٍ وإيمانٍ لا إنسان بطنٍ وحجر)) .
لقد كان الإنسان في العصور السابقة يعيش في ظلِّ ظروفٍ صناعيةٍ بسيطةٍ، كما إنه كان مهدَّداً بالكثير من عوارض الطبيعة، وكان متخلِّفاً قياساً إلى الزمن الحاضر في العديد من المجالات الطبية والفيزيائية والفلكية إلخ، ولم يستطع العلم في الأزمان الخالية أن يهتدي إلى المناهج العلمية الحديثة التي استطاع الإنسان بمساعدتها التوصُّل إلى هذه المستويات الراقية من التقدُّم في تلك الميادين، وهذه حقيقةٌ لا يمكن التنكُّر لها في أيِّ حالٍ من الأحوال.
كما أنَّ الظروف التأريخية التي رافقت إرساء تلك المناهج العلمية في الغرب صراعاً محتدماً بين العلم والكنيسة، ولم يعرف الغربيون الدين إلا من خلال هذه المؤسَّسة التي مارست أبشع أنواع الظلم بحقِّ العلم والعلماء مما هو معروفٌ في المؤلَّفات التي تسرد قصَّة هذا الصراع.
ولهذا كان الإنسان الغربيُّ محكوماً بهذه العقدة الرهيبة تُجاه الدين بالمطلق، وقد أشار إلى هذه الحقيقة بألمعيةٍ فائقةٍ السيد محمَّد الصدر في العديد من مؤلَّفاته، وأعلن صراحةً أنَّ العلماء الغربيين في فترة الصراع تلك كانوا محقِّين في معاداتهم للكنيسة، لأنها وقفت ضدَّ العلم، لكنهم كانوا مخطئين عندما اعتبروا الكنيسة وحدها هي المؤسَّسة الرسمية الوحيدة التي تعبِّر عن وجهات نظر الدين بالمطلق، فلو أنَّ علماء الغرب أولئك تعرَّفوا بشكلٍ تفصيليٍّ على الدين الإسلاميِّ ومواقفه المشرِّفة تُجاه العلم والعلماء في جميع مناحيه المادِّية والمعنوية لكان لهم رأيٌ آخر بالطبع، لكنهم لم يصدروا حكمهم السلبيَّ على الدين إلا بناءً على معرفتهم بالدين المسيحيِّ من وجهة نظر الكنيسة فقط، فكان هذا الخطأ مصدراً لكلِّ الأخطاء المنهجية التي وُجدت في الأوساط العلمية الغربية فيما بعد، إذ كان رأي أغلبهم أنَّ الدين والعلم طرفا نقيضٍ لا يجتمعان.
الآن تغيَّر الموقف، فقد صار الإنسان توّاقاً إلى أن يملأ فراغه الروحيَّ والدينيَّ على أساس إحساسه الواقعيِّ بوجود هذا الفراغ، ولأنَّ الإنسان قد جرَّب كلَّ تلك العقاقير التي نصحته الحضارة المادِّية الحديثة بتعاطيها لكي يسدَّ هذا النقص، فرأى بأمِّ عينيه فشله في هذا المسعى، فإنَّ إنسان الحضارة اليوم شاء أن يبادر بنفسه إلى سدِّ هذا الفراغ، وقد ساعدته على اتخاذ هذا القرار جملة أمور:
الأمر الأوَّل: الإشباع الذي حصل على المستوى المادِّيّ، بحيث أنَّ الإنسان اكتشف هذه الحقيقة الصادمة، وهي أنَّ حاجاته أكبر من أن تحيط بها تلك المنجزات العلمية على الصعيد المادِّيّ فقط، بل إنَّ حاجاته الروحية ربما كانت أكثر إلحاحاً عليه من تلك الحاجات، وقد عكس الفنُّ والأدب الحديث جنباً إلى جنبٍ مع الكثير من التوجُّهات الفلسفية الحديثة هذا المعنى.
الأمر الثاني: إنَّ الشرائح الأكثر عدداً من سكّان المعمورة اطلعت على الظلم الفاحش الذي يمكن أن يعانيه الفقراء والكادحون في ظلِّ غياب النزعة الأخلاقية والدينية من الحضارة الحديثة، فبعد أن كانت هذه الشرائح المسحوقة تتوقَّع أن يرفع العلم الحديث عنها الحيف والظلم، إذا به يقف محايداً تُجاه أزماتهم ومشاكلهم، بل إنه غدا سلاحاً ماضياً في أيدي الظالمين من أجل إلحاق الأذى والسحق الإجتماعيِّ والإقتصاديِّ بشكلٍ مضاعفٍ في حقِّهم، وبات واضحاً للجميع أنَّ العلم ومنجزاته الهائلة لا يمكن أن يكون في خدمة الغايات الإنسانية النبيلة إلا بتعظيم شأن الدين والأخلاق وكلِّ ما هو معنويٌّ أو روحيٌّ ذو صلةٍ بالدين، ولهذا فإننا نشهد اليوم في العالم الغربيِّ نفسه إقبالاً متزايداً على الدين والتديُّن خلافاً للعقود الزمنية السابقة.
الأمر الثالث: ربما لم يتمكَّن العديد من العلماء السابقين في الغرب من الإطلاع على ثقافة الإسلام في مصادره الأصلية، فضلاً عن سواد الناس، أما اليوم فقد ساهمت وسائل الإتصال الحديثة في إحداث ثورةٍ معلوماتيةٍ هائلةٍ، بحيث بات ميسوراً لأغلب سكان المعمورة الإحتكاك بالمسلمين، أو الإطلاع على ثقافة الإسلام من خلال مختلف المصادر المسموعة والمرئية والمقروءة، ومن شأن هذه الحال أن توجد فضاءً مناسباً لانتشار التديُّن وثقافة الإسلام بين شرائح المجتمع الغربيّ، بل إنَّ دولاً هامَّةً اليوم تخشى على تركيبتها الإجتماعية والديمغرافية من أن تتعرَّض للتحوُّل بفعل الإنتشار الواسع للإسلام فيها.
لهذا كلِّه، فإننا نتوقَّع مع مطهَّري أن يكون إنسان الحضارة في المستقبل القريب إنسان الإيمان، وليس إنسان الإلحاد والنزعات البهيمية المنحطَّة، حتى وإن بدا الأمر طبقاً للنظرة السطحية خلاف ذلك، لأنَّ الناتج الطبيعيَّ للنظرة الكلية التي تُوجَّه إلى ما يجري على الساحة العالمية اليوم هو هذا، فقد سئمت البشرية من انتشار الرذائل على مستوى العائلة والمجتمع، كما ضاقت المجتمعات ذرعاً بتجريب مختلف المنهجيات ذات النزوع الليبراليِّ الإباحيّ، وباتت تتشوَّف إلى إيجاد منظوماتٍ أخلاقيةٍ تستلهم التعاليم الدينية، وتضع حدّاً لكلِّ هذه الإنحرافات على المستوى الروحيِّ والأخلاقيِّ في العالم.
التكامل بين العلم والإيمان
ها هنا نقطةٌ مفصليةٌ لا بدَّ من الإهتمام بها، وهي أنَّ كلامنا واضحٌ في التركيز على قيمة الإيمان في حياة الأفراد والمجتمعات، من دون أن نقصد الإستهانة بقيمة العلم الحديث على الإطلاق، فكلُّ ما نقصد إليه هو أن نوضِّح قيمة الإيمان جنباً إلى جنب القيمة العالية للعلم الحديث نفسه.
لا يجب أن يتكرَّر خطأ حضارتنا من جديدٍ، أي أنَّ من الواجب على كلِّ أحدٍ يعيش في هذا العصر أن يدافع عن العلم ومكانته المرموقة السامية في حياتنا اليوم، وليس من الصحيح أبداً أن نعتبر الحطَّ من قيمة العلم شرطاً لازدهار الإيمان، بل ربما كان العكس هو الصحيح، إذ لا يتقاطع العلم مع الإيمان أبداً، بل يكمل أحدهما الآخر، ويؤدِّي تعزيز موقف أحدهما إلى تعزيز موقف الآخر في المقابل ((ومن البديهيِّ لا العلم يتمكن من أن يكون خليفة الإيمان بحيث يهب الحبَّ والأمل بالإضافة إلى النور والقوة، ويرتقي بمستوى رغباتنا، وبالإضافة إلى أنه يمدنا للوصول إلى المقاصد والأهداف وطيِّ الطريق إلى تلك المقاصد والأهداف، فإنه يسلب منا المقاصد والأهداف والرغبات التي تدور بحكم الطبيعة والغريزة حول محور الفردية والأنانية، ويعطينا بدلاً من ذلك مقاصد وأهدافاً تدور حول محور الحبِّ والعلاقات المعنوية والروحانية، وبالإضافة إلى أنه آلةٌ بيدنا فإنه يغير جوهرنا وماهيتنا. ولا الإيمان يتمكن من أن يكون خليفة جوهرنا وماهيتنا. ولا الإيمان يتمكن من أن يكون خليفة العلم، ويعلمنا بالطبيعة، ويكشف لنا قوانينها، ويعرفنا بأنفسنا.
وقد أثبتت التجارب التأريخية أنَّ فصل العلم والإيمان قد أدى إلى أضرارٍ لا يمكن تعويضها، يجب معرفة الإيمان على ضوء العلم، والإيمان يبتعد من الخرافات في نور العلم، وبفصل العلم عن الإيمان يتحوَّل الإيمان إلى الجمود والتعصُّب الأعمى، والدوران بشدةٍ حول نفسه، وعدم الوصول إلى مكانٍ، والمكان الفارغ من العلم والمعرفة ينقلب فيه المؤمنون الجهلة إلى آلةٍ بيد كبار المنافقين، والذي رأينا ونرى نماذج منهم في خوارج صدر الإسلام والأدوار التي تلت بصور مختلفة.
والعلم بلا إيمانٍ سيفٌ بيد زنجيٍّ سكران، وسراجٌ في منتصف الليل بيد لصٍّ لسرقة أفضل البضائع، ولهذا فإنَّ الإنسان العالم بلا إيمان اليوم لا يختلف عن الجاهل بلا إيمان في الأمس أقلّ اختلافٍ من حيث طبيعة الأساليب والأفعال وماهيتها)) .
هذه هي النقطة الأهمّ في بحثنا كلِّه، ونحن نشاهد فعلاً النتائج الكارثية للعلم اليوم في ظلِّ غياب النزعة الإيمانية من مواطن القرار في العالم، فلو أنَّ العلم تآخى مع الإيمان على يد الساسة اليوم، لتجنَّبت البشرية العديد من المصائر السيئة التي تعاني منها، ولعاش الإنسان حياته في ظلِّ أرقى حضارةٍ أوجدها الإنسان في التأريخ، إذ يكون البعد الإيمانيُّ والروحيُّ إطاراً عامّاً يحكم ما يحدثه العلم في كلِّ يومٍ من منجزاته الكثيرة التي باتت من الضرورة بمكانٍ، بحيث لا يمكن التنازل عنها على الإطلاق.
لا يكون العلم نافعاً في كلِّ الأحوال.
جاء في الأثر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان يدعو في أثر الصلاة فيقول)):اللهمَّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع، اللهم إني أعوذ بك من هؤلاء الأربع "
إنَّ الإستشهاد بهذا الحديث الشريف في هذا المقام ذو دلالةٍ خاصَّةٍ في رأينا، فنحن نعتقد أنَّ هذا الحديث من جوامع الكلم، لأنَّ العلاقات بين فقراته الأربع تشير إلى صحَّة انطباقه على الكثير من المصاديق في الأزمان اللاحقة على زمان الحديث.
بيان ذلك:
إنَّ الحديث يشير إلى أنَّ هناك بعض العلوم التي لا نفع من ورائها، وغالباً ما يذكر الحديث مع المناسبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله هذا الحديث، وهي أنه صلى الله عليه وآله دخل المسجد فوجد رجلاً يتحلَّق الناس حوله، فسأل عنه، فقيل إنه علامةٌ، فسأل عن معنى العلامة، فأجابوه بأنه الرجل العالم بأنساب العرب وأيامهم، فقال: إنه علمٌ لا ينفع من علمه ولا يضرُّ من جهله.
لكنَّنا لا نرى الحديث مقيَّداً بهذه المناسبة، فهو ينطبق على كلِّ علمٍ لا ينفع البشر حتى لو كان في الأصل نافعاً، مثل صنع الديناميت على سبيل المثال، أو علم الذرَّة، أو غير ذلك.
فكما أنَّ العلوم التي تدرس هذه الموضوعات نافعةٌ في الكثير من المجالات، إلا أنها تفقد منفعتها في اللحظة التي تصبح فيها خاضعةً للنوايا الشريرة عند الساسة الإستعماريين مثلاً، ولهذا أردف النبيُّ صلى الله عليه وآله تلك العبارة الأولى بالعبارة الثانية التي يقول فيها ((وقلبٍ لا يخشع)) إذ إنَّ قساوة قلب الإنسان وعدم خشوعه يشيران إلى مستوى الوحشية الذي يمكن أن تتَّصف به النفس البشرية في بعض الأحيان، ومن البديهيِّ أن تكون قساوة قلب الإنسان سبباً في انحراف العلم الذي يجيده عن الغاية النبيلة التي يستبطنها في داخله.
ومع ضمِّ الصفة الثالثة وهي ((ونفسٍ لا تشبع)) أي النفس التي وقعت في حبائل الطمع إلى حدِّ أنها فقدت إمكانية الوصول بها إلى مرحلة الشبع مهما أوتيت من أسباب النعمة، تكون الصورة أكثر وضوحاً، فيكون هذا هو السبب المباشر في وجود ذينك الصفتين، أي أنَّ طمع الإنسان ورغبته الفائقة بالدنيا قد كان سبباً في أن يتَّصف القلب بهذه الصفة السيئة السابقة، وهاتان الصفتان هما اللتان تنحرفان بأيِّ علمٍ من العلوم عن الوجهة النافعة.
كما أنَّ استعاذة الرسول الأكرم من الدعاء الذي لا يُسمع تشير إلى أنَّ الله سبحانه هو الذي يهدي الإنسان ويعصمه ويعينه على التحلِّي بالصفات الحميدة التي ستجعل الإنسان على غير تلك الصفات السلبية المذكورة، مما يجعل وجهة العلم الذي يجيده نافعةً في جميع الأحوال.
لقد أشار الشيخ مطهَّري إلى حقيقةٍ هامَّةٍ، وهي أنَّ العلم لو تمكَّن من حلِّ كلِّ المشكلات التي تواجه الإنسان في حيِّز التدبير، فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ الإنسان قد بلغ أوج السعادة، بل ربما قدَّم العلم الوسائل الهامَّة للمجرمين لكي ينفِّذوا إجرامهم، وضرب مثالاً على ذلك ما يقوم به المستعمرون الذين يستغلون الأسلحة الفتاكة في احتلال البلدان، فقال رحمه الله: ((لنفرض أنَّ النشاط التدبيريّ قد وصل إلى أوج كماله فلا يكفي لصيرورة نشاطات الإنسان إنسانية، فنشاط الإنسان التدبيريّ هو شرط الإنسانية اللازم، لأنَّ عقل الإنسان وعلمه ووعيه وتدبيره يشكل نصف إنسانيته، ولكنه شرطٌ غير كافٍ. والنشاط الإنسانيّ يكون إنسانياً تارةً فهو بالإضافة إلى التعقل والإرادة يتجه نحو النزعات الإنسانية السامية، ولا يكون في تضادٍّ معها على الأقلّ، وإلا فإنَّ أكثر النشاطات البشرية الإجرامية تتمُّ بمساعدة التدبير والذكاء والتفكير في النتيجة والتخطيط والنظريات، والخطط الإستعمارية الشيطانية أفضل شاهدٍ على هذا الإدعاء، ففي الإصطلاحات الدينية والإسلامية تسمى قوة التدبير عندما تنفصل عن النزعات الإنسانية والإيمانية وتكون في خدمة الأهداف المادية والحيوانية "نكراً" و "شيطنة")) .
إذن، مهما بلغت حضارة الإنسان من مستوىً راقٍ في مجالها التدبيريّ، أي تلبية الحاجات المادِّية وغيرها ممّا هو ضروريٌّ لتدبير حياة الإنسان، فإنَّ الحاجة إلى الإيمان لن تنتفي في أيِّ حالٍ من الأحوال، لأنَّ كلَّ ذلك من الممكن جداً أن ينقلب إلى الغايات الشيطانية في أيَّة لحظةٍ، فيحتاج إلى إطارٍ يؤطِّره من الإيمان، لكي يؤدِّي غاياته الخيِّرة والنافعة للبشرية، وهذا ما أغفلته الحضارة الحالية مع شديد الأسف، فسبَّبت للإنسان كلَّ هذا العناء.