التاريخ السري للحوزة العلمية ( 1- 7 )
فاضل الربيعي
تمهيد:
يُعدُ كتابك صرخة مدوية علي دكتاتورية المؤسسة الدينية التي تنتسب الي الشريعة الاسلامية ظلما وعدوانا وتدرس فقه الشريعة وقلبها عنه بعيد، ولا تأخذه عقيدة رسالية حركية ولا تتقي الله ولا ترهبه، وانما تدرسه لتتأول وتحتال باسم تضخيم العناوين الثانوية والحيل الشرعية وتوجهه كيف تشاء في تلبية الرغبات والأطماع، حيثما انكشف لها ان هناك مصلحة ذاتية تنجز وأن هناك شيئا من أشياء هذه الدنيا يُكسب. من هنا ـ يا أخي ـ نريد أن تكشف لنا الشيء الكثير عن هؤلاء الرموز الحوزوية المتسترين والمحترفين باسم الدين، الذين تحولت حياتهم المعيشية الضيقة الي قصور شامخة وحياة مترفة في دول الخليج وأوروبا وأمريكا الاستكبارية وتحاسبهم من أين لكم هذا من خلال كتاباتك الموثقة .
آية الله العظمي الشيخ أحمد الحسني البغدادي (من رسالة الي المفكر الاسلامي العراقي عادل رؤوف / دمشق 28/ صفر ـ 1422 هجرية ـ 2001)
هناك أمر يجب تصنيفه في حكم المستحيل، ألا وهو عمل هيئة من المجتهدين، أو ما يُسمون المجتهدين، في وفاق وعلي شكل لجنة لتقسيم الأموال بينهم أو لتوزيعها علي الفقراء، وذلك سواء عملت تحت اشراف المفوضية أو مستقلة؛ فان الشعور السائد بينهم ان كل اتجاه آخر مثقل بالتزمت الديني والمنافسة الكلامية مما لا يسمح بوفاق بينهم. ولو تمت دعوة لاجتماعهم سويا من أجل هذا الغرض فلن يحضروا هذا الاجتماع، بل سيرسل كل منهم خادما، بينما نجد أتباع هذا المجتهد أو ذاك والذين يؤملون الكسب من وراء هذا المجتهد أو ذاك يحومون حول مكان الاجتماع، ومن هنا يمكن أن يحدث شغب في أي يوم .
الرائد الانكليزي تويدي .. من تقرير عن حالة المجتهدين الشيعة في النجفأيار (مايو 1891)
في جوابه علي رسالة المرجع الديني آية الله العظمي أحمد الحسني البغدادي، والذي ضمنه كتابه الجريء عراق بلا قيادة ـ دمشق/ 2002 كتب المفكر الاسلامي العراقي (الشيعي) عادل رؤوف وفي تعليق لافت (علي الرسالة التي تلقاها لمناسبة صدور كتاب جديد له يوجه فيه نقدا لاذعا للمؤسسة الدينية الشيعية في النجف) ما يأتي:
أما دلالات هذا المشهد المرتبطة بالمال الشيعي وضوابط صرفه فلا داعي للاستغراق فيها، فهو مال لا يضبطه ضابط، لا في مصادره ولا في احتكاره ولا في طريقة توزيعه ولا في علاقة أولاد المراجع فيه. وحتي لا أطيل؛ فان هذا المال لا ضابط له ولا قانون وليس له أساس شرعي متين. ولكن: ما العمل ووعي الأمة توارث نمطا معينا في تسليم حقوقه الشرعية واختلط هذا الموروث مع أصابع خارجية لكي يتحول بالنهاية الي وبال علي الدين بدل أن يكون في خدمته. ولعل خير من يعبر عن مصيبة هذا المال وأبعاد التدخل الخارجي في محوره ومتانة الأساس الشرعي له هو الرسالة المؤلمة للخطيب الفاضل العلامة السيد حسن الكشميري .
هذا الحوار الحزين الذي يدور اليوم (بعد مضي وقت طويل يتجاوز القرن علي تقرير الضابط البريطاني تويدي حول الفساد المالي في الحوزة الشيعية) بين رجلين حائرين، أحدهما يتمتع بمنزلة دينية كبيرة فهو مجتهد معروف ومن كبار آيات الله في النجف، وابن لواحد من أهم مفكري الشيعة ومراجعها العظام آية الله العظمي محمد الحسني البغدادي، والآخر مفكر اسلامي شاب هجر العمل السياسي بعد أن ترك صفوف المجلس الاسلامي الأعلي بقيادة باقر الحكيم، وتفرغ كلية للفكر وكتابة البحوث والدراسات ناقدا دون هوادة دكتاتورية المؤسسة الدينية هو حوار يتخطي من الناحية الفعلية، حدود مسألة الفساد المالي التي تثيرها رسالة البغدادي الابن بكل تأكيد؛ كما يتجاوز استطرادا مسألة التصرف فيه أو توارثه كما تلمح رسالة أخري للكشميري بعث بها لمؤلف كتاب عراق بلا قيادة . انه يثير، ومن حيث لا يدرك هؤلاء الرجال ربما، مسألة عتيقة وثيقة الارتباط بالاستشراق وبدور المؤسسة الدينية الشيعية، التي لم تكن قط، بمنأي عن التدخلات الخارجية، وبشكل أخص عن التدخل البريطاني منذ القرن الثامن عشر؛ يوم كان البريطانيون يتسللون، آنئذٍ، الي العراق العثماني ويتغلغلون في ايران القاجارية علي حد سواء. بكلامٍ آخر، فان ما تثيره هذه الرسائل مجتمعة والتي يتبادلها المفكرون الشيعة المعاصرون بقدرٍ مذهل من العلنية الممزوجة بالسخط والجزع علي الأوضاع الداخلية، انما هو المشكلة القديمة ذاتها المستمرة باستمرار هذه المؤسسة الصارمة في تقاليدها السرية نعني العلاقة بين المال والتدخل الخارجي والاستبداد الديني.
لم تكن النجف بمدارسها الدينية ومؤسستها الشيعية الكبري (الحوزة العلمية) في أي وقت، بمنأي عن هذا النوع من الشكاوي المريرة؛ ولكن نادرا ما صادف المرء رجالا اتصفوا بالنزاهة والشجاعة والجرأة قاموا، أو سعوا الي الربط أو حتي التساؤل في حدوده الضيقة عن العلاقة بين الأصابع الخارجية وبين الفساد المالي والاستبداد. وبالتالي علاقة هذه الظاهرات بمجموعها، مع السياسات التي اتبعها قادة الحوزة ورجالاتها في مختلف الحقب والفترات والمنعطفات التاريخية المصيرية. ان لاثارة موضوع المال في هذا الوقت ودوره في افساد النخبة الدينية القائدة، دلالة واحدة مباشرة وغير قابلة للحجب والتعمية، هي أنها استطراد في مشكلة قديمة تلازمت مع بزوغ الاستشراق، الذي كان يمسح، تقريبا، وقبل قرنين من هذه الرسائل الحزينة، كل ركن من العراق وكانت النجف بالطبع، أهم ركن بعد النفط، اتجهت اليه أبصار البريطانيين، بينما انشغل الفرنسيون والروس عنها وتجاهلها العثمانيون.
من الاستشراق الي ما بعد الاستشراق:
يمكن للمرء أن يلاحظ، وهو يعيد بناء الوقائع التاريخية، كيف أن ظهور وتبلور أدوار المؤسسة الشيعية كمؤسسة فاعلة في الحياة العامة للشيعة في العراق، ارتبط، مع بدايات عصر الاستشراق والفتوحات الاستعمارية، بجملة من العوامل والظروف المتراكبة والمتشابكة التي يصعب الفصل بينها . ثمة عنصر ضاغط في هذا التركيب مهد بشكل جلي، السبيل أمام المستشرقين المتدفقين الي المدن المقدسة في العراق التركي ـ العثماني، من أجل تقديم رؤية أخري للنجف تقوم في ما تقوم علي أخْيَلَة المدينة المقدسة. لقد نُظر اليها لا كمدينة يضوع بين أرجائها تاريخ قديم وخاص؛ بل كمركز روحي يمكن الدفع به الي واجهة دور سياسي في الصراع ضد العثمانيين. وبالطبع ما كان للنجف أن تتمني هذا الدور لولا أنها كانت في وقتٍ ما، مرغمة علي أن تبدي من خلال حفنة من رجالاتها الأقوياء بعض الاستعداد للبقاء مؤقتا خارج أسوار الروحانيات الشفافة، التي تفصل عادة بينها وبين جمهورها من المتدينين، قبل أن ترغمها الظروف ثانية وتسارع الأحداث كذلك، علي الدخول في حقل السياسة من بوابة المال. ما قصده آية الله البغدادي في النص الآنف المأخوذ من رسالة متأخرة عن الأحداث التي ندرسها بنحو 200 عام تقريبا ، وهي العمر الفعلي لنشوء وتطور الحوزة وظهورها كمؤسسة فاعلة وذات نفوذ هائل في المجتمع العراقي؛ وما أشار اليه تويدي بسطور مفعمة باليأس والاستسلام ، هو أن المال ولا شيء آخر كان لب المشكلة الأكثر حساسية، والذي غالبا ما يُفضل التغاضي عنه بشكل مقصود أو تحاشيه بكل الطرق عند محاولة تفسير بعض الأحداث والمواقف السياسية الغامضة. لقد لعب المال، ومن دون مواربة، كما تكشف الكثير من الوقائع طوال عصر الاستشراق الدور نفسه الذي يلعبه اليوم في توجيه سياسات هذه المؤسسة الدينية، المحاطة بالغموض والأسرار، والعصية كما لو أنها فاتيكان شرقي مصغر يتراءي وسط الصحراء أمام السياح والطارئين والغرباء والفضوليين فيضاعف فضولهم الي معرفة طقوس وأسرار ما يدور وراء الكواليس وفي الغرف المغلقة. لقد تراءي الفاتيكان الشرقي هذا وسط الصحراء، شبيها ومماثلا للبابوية التي يحيا رجالاتها حياة عزلة وصمت، لا يليقان الا بعباد زاهدين نذروا أنفسهم الي الأبد في خدمة الدين والمذهب والرعية. ولكن الصورة الاستشراقية هذه سرعان ما تبددت حين لسعت شمس الصحراء تلك العيون المتلصصة.
من بومباي الي النجف:
يمكن أن نحدد منتصف القرن السابع عشر ونهاية الثامن عشر، كبداية حقيقية لتاريخ المشكلة التي تثيرها هذه الرسائل، وهي رسائل يتبادلها اليوم كما بالأمس البعيد رجال دين ومفكرون ساخطون من داخل وخارج الحوزة بطرق وأشكال مختلفة، تماما كما يثيرها البغدادي الابن من مكتبه في قلب النجف، أو حتي كما يثيرها رد عادل رؤوف نفسه، الذي يطور تصورات رجال الدين وينعطف بها الي لب المشكلة المطروحة. في هذا الوقت (منتصف القرن السابع عشر ونهاية القرن الثامن عشر) دخل المال فجأة؛ أو لنقل تدفق من دون توقع علي مؤسسة دينية متقشفة وزاهدة وحتي فقيرة، بوصفه العنصر الضاغط و الخارجي والذي كان يبلور ويدير، علي أكمل وجه، الصراعات علي المركز البابوي الشيعي ويتحكم في كل شأن مهما كان صغيرا؛ بل وقد يقرر المواقف بشأن أكبر وأكثر خطورة كمسألة الحرب. كان المال يتدفق من الهند مباشرة الي النجف أو عبر استانبول، وبأيد بريطانية في الغالب الأعم.
لقد لعب المال المتدفق عبر بومباي الي النجف وباشراف بريطاني ومن وراء ظهر العثمانيين، دورا في تسليح بعض أبناء الشيعة والدفع بهم، ربما عبر التضليل والخداع الي اعلان انحيازهم للشاه القاجاري، الذي كان ويا للعجب خصم المجتهدين اللدود وعدوهم في النجف؛ وذلك من أجل مواجهة السلطان العثماني الذي كان، بالضد من ذلك، يخطب ودهم ـ كما هو الحال مع السلطان عبد الحميد في مبادراته التصالحية مع الشيعة وسماحه بالمطبوعات وتأسيس الجمعيات السياسية والثقافية ـ .
ولكن ومن دون أن يتنبه أحد، أو حتي يجرؤ بفضل الحساسية المفرطة علي رؤيته والتحدث عنه كموضوع دراسي يخص التاريخ؛ فان المال ظل مصدرا أساسيا من مصادر التدخل الخارجي ونتاجا له في الآن ذاته. ان هؤلاء الزاهدين الذين كان الفقراء من الشيعة يقصدونهم في كل آن، اما للحصول منهم علي فتاوي مكتوبة أو أجوبة شفهية مباشرة حتي عن أدق الأسئلة الخاصة والشخصية، وعن السلوك الأفضل للأفراد المؤمنين وشؤون حياتهم الخاصة لئلا يخطئوا، نتيجة الجهل بأمور الدين والشريعة، أو يقوموا بأعمال منكرة فيكونون بذلك كمن ارتكب معصية تغضب الله وتجلب السخط بدل السعادة؛ لم يكونوا جميعا بهذه الصورة الرومانسية للمتعبد الزاهد كما رسمتها أقلام بعض المستشرقين من الضباط البريطانيين، الذين كانوا يتوافدون علي السلطنة العثمانية قاصدين زيارة النجف وكربلاء والكاظمية في بغداد للقاء بهم والتحدث اليهم، فبعضهم كان غارقا في الفساد المالي بصورة مشينة. بينما لم يتورع آخرون عن تحويل كل الأمور، بما فيها الدين نفسه الي مسألة مكسب مادي كما ارتأي آية الله البغدادي أكثر النقاد الراديكاليين للحوزة ـ اليوم وبالأمس ـ علي الاطلاق، والذي يمثل بحق، أهم ظاهرة ثورية في الشيعية العراقية، وتماما كما لاحظ تويدي قبل أكثر من مئة عام من شكوي رؤوف. ولأن الفساد في المؤسسة الدينية وثيق الصلة بنوع من دكتاتورية خفية يُزعم أن ممارسيها من المجتهدين النافذين داخل المؤسسة نفسها، كما يذهب الي ذلك النص المقتطف من رسالة البغدادي، أو يرتبط بأصابع خارجية كما يذهب الي ذلك المفكر الاسلامي رؤوف؛ فقد تلازمت في هذه الحالة ثلاثة عناصر علي نحو عضوي وأصبحت، بدلا من مشكلة فساد مالي وحسب، مصدر مشكلة قديمة ومتوارثة ومستمرة باستمرار المؤسسة؛ أضلاعها الاستبداد الديني الداخلي والتدخل الخارجي والمال. وهذا ما سوف يعيد طرح المسألة للنقاش من منظور جديد.
حتي منتصف القرن التاسع عشر وبعد نحو مئة عام من تدفق أكبر كمية من المال الي الحوزة الشيعية في النجف حملها المجتهدون (علماء الدين) من بومباي، كان الفساد لا يزال مستشريا ويضرب بجذوره عميقا ؛ بل ويُري حتي بعد قرن آخر، ولكن من خلف الأسوار الشفافة التي تفصل بين المجتهدين الغارقين بالصمت والذين تبدو علي ثيابهم ووجوههم علامات الزهد الفارقة، وبين الرعايا المشككين الساخطين أو المضللين وأولئك الذين ينددون علنا بالفساد ويجادلون في وقوعه من دون حجة دامغة، أو من دون أن تكون لديهم حتي أدلة أولية مقبولة، أو لنقل تنقصهم خبرات الحصول علي الدليل الحقيقي المطلوب. في 6 نيسان (أبريل) أو 30 حزيران (يونيو) 1849 علي الأرجح تراكمت بين أيدي البريطانيين أموال طائلة مصدرها ايرادات أراضي ملكين هنديين صغيرين في مقاطعة أوض (اوده ) هما مريام بيجام ونواب مبارك محل، وكان مقررا طبقا للوصيتين اللتين تركتا بعد موتهما توزيع هذه الأموال علي المجتهدين الشيعة في النجف. وتم لهذا الغرض استخدام أقصي الحذر والدقة في فهم معني كلمة مجتهد حتي أن الضباط البريطانيين توجهوا، في وقت من الأوقات ومع تفاقم المشكلة، الي سامراء للقاء آية الله العظمي الميرزا محمد تقي الشيرازي للحصول منه علي تعريف مناسب وصحيح. وطبقا للغة الفارسية التي كتب فيها نص الوصيتين فان كلمة مجتهد كان يقصد بها تحديدا علماء اللاهوت الشيعة من أعلي مقام .
مذبحة في كربلاء:
قبل ذلك بقليل، نحو 1848 وقعت مذبحة كربلاء. هذه المذبحة نجمت برأي الملازم كمبول الذي حقق في الحادث بصورة مبدئية، عن التنافر المتأصل والقائم بين الطائفتين الاسلاميتين السنية والشيعية وارتباط ذلك بالوصية الأخيرة أي وصية نواب مبارك محل .
لم يكن هذا التقدير صحيحا أو حصيفا بأي شكل من الأشكال. ان مراجعة نص التقرير الذي كتبه كمبول والذي كان، آنئذٍ، ما يزال شابا غرا وفي رتبة عسكرية صغيرة قبل أن يحصل مع استمرار خدمته علي لقب سير، ويصبح المعتد السياسي البريطاني في بغداد ـ وبكل تأكيد لم يكن قد تشبع بعد من تجربته العراقية الي الدرجة التي تغدو فيها تصوراته استشراقية صافية تماما سوف تكشف مع أول احتكاك نقدي معها عن بعد استشراقي آخر ما كان بالامكان تلمسه أو رؤيته لولا هذا التقرير. وفي هذا البُعد سيتجلي الدور الحقيقي للمال الاستشراقي أو الموظف بطريقة استشراقية ساطعة ولكن لأهداف استعمارية بحت. اقترح في تقريره الذي بني علي تصورات زائفة عن تنافر سني ـ شيعي في العراق، أن استخدام المال قد يكون ضروريا لا من أجل التدخل بشؤون الشيعة وانما سببا في افساد الحاميات العسكرية التركية الموجودة في كربلاء انْ كانت ما تزال تحتاج للفساد. في أي حال، في تأمين المساعدة والعون الي عدد كبير من أفراد الشيعة المتعصبين - حسب تعبيره الذين نادرا ما يطلبون ربحا ماديا للتضحية بحياتهم في سبيل قضية تعتبر في نظرهم شيئا مقدسا .
ان اللغة المتعجرفة والتي تقطر سما في كل سطر من سطور التقرير ، هي لغة الاستشراق نفسه الذي لا يمكنه أن يري في الظاهرات الاجتماعية والثقافية سوي أفراد متعصبين يمكن التلاعب بمشاعرهم وثقافتهم القديمة. حاول كمبول أن يبين في تقريره كما نقله لوريمر في (دليل الخليج) ان امداد المجتهدين في كربلاء والنجف بمبالغ كبيرة علي شكل دفعات شهرية يمكن، بسبب انعدام المراقبة علي مصروفاتهم، أن يصبح سببا في اثارة الشغب في هذه الباشوية . وكان هذا ما يريد البريطانيون مشاهدته بكل تأكيد، من خلال مساعيهم، وعبر التحالف والتفاهم مع ايران القاجارية، وذلك من أجل تمهيد السبيل أمام تحطيم السلطنة العثمانية المترنحة.
منذ ذلك الحين وحتي سقوط بغداد في يد البريطانيين عام 1917، كان المال لا يزال يتدفق، وهذه المرة بسهولة أكبر مما كان علية الحال أيام العثمانيين، مترافقا مع نشاط استثنائي للضباط و المنظرين الهنود في الجيش البريطاني، الذين كانوا يتقدمون بنصائح متواصلة مبنية علي وقائع ومعطيات ميدانية، عن أهمية الاعتماد علي المجتهدين الهنود في الحوزة.
ولكن؛ بينما كان العراق آخذا بالتبلور والتحول أكثر فأكثر، في المُخيلة الكولونيالية البريطانية، من مشكلة عثمانية عويصة عنوانها العريض الاستبداد والقمع وانعدام الحريات والتخلف وغياب المدنية، الي مشكلة عناصر مُثيرة للشغب من القبائل المتمردة التي تقاوم المدنية الأوروبية بالغريزة وبكل ضراوة؛ بل وتعرقل بلا هوادة كل عملية ممكنة أو محتملة لنشر قيم الحرية وهي عناصر تريد بكل تأكيد ـ طبقا للخطاب الكولونيالي ـ اعادة عجلة التاريخ الي الوراء؛ وقعت سلسلة من الأحداث والمصادمات العنيفة في المدينة والريف كان من شأنها أن تعصف بكل المخططات النظرية، وأن تضرب مؤقتا ستارا من الصمت من حول المال الهندي الغزير المتدفق من بومباي. كانت مشكلات العراق المتفاقمة تبعد الأنظار عن الدور الذي لعبه الاستشراق في النجف. وكان تدهور الزراعة في الريف منذ نهاية عام 1917، ينذر بكارثة ويحمل الحاكم السياسي للعراق ولسُن نفسه قبل عزله، علي التحذير من احتمال حدوث مجاعة. كان تدهور أوضاع السكان في العراق يخلف منظرا واحدا من سلسلة مناظر تنبثق من حول الطبقة السياسية في المدير الدم ومن خلال الجريمة. وفي هذا النطاق من التعرف تتعين رؤية حالة البلاد حين كان الفساد المالي يتغلغل في المعقل الروحي للشرقيين .
كاتب وباحث عراقي